ملخص المقال
كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب المستضعفة هو السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والضعف إلى العلم والتقدم والقوة
فقه التمكين عند ذي القرنين (3)
فقـه ذي القرنيـن في إحيـاء الشعوب
إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحتك بالشعوب والأمم, وتكلم القرآن الكريم عن رحلاته الإيمانية:
الرحلة الأولى
لم يحدد القرآن الكريم نقطة الانطلاق فيها وحدد النهاية إلى مغرب الشمس, ووجد عندها قومًا, فدعاهم إلى الله تعالى, وسار فيهم بسيرة العدل والإصلاح, قال تعالى: {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف: 87].
إنها سياسة العدل التي تورُّث التمكين في الحكم والسلطة, وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين, وإدخال الرعب في قلوب أهل الفساد والظلم؛ فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة والوُدَّ والقرب من الحاكم, ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته ورعاية مصالحه وتيسير أموره. أما المعتدي المتجاوز للحد, المنحرف الذي يريد الفساد في الأرض، فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة الدنيا, ثم يرد إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة الأنكى بما اقترفت يداه في حياته الأولى.
ولم يعيِّن السياق القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين هذه السياسة الحكيمة، كما أهمل ذكر المدة التي مكثها بينهم, والنتائج التي توصل إليها, وكأن الأمر المفروغ منه أن تُثمِر هذه السيرة العادلة، والمبادئ السامية حضارةً ربّانية وتقدمًا وسعادة وطمأنينة؛ لذا لا داعي لذكرها والوقوف عندها[1].
الرحلة الثانية
وهي رحلة المشرق حيث يصل إلى مكان يبرز لعين الرائي أن الشمس تطلع من خلف الأفق, ولم يحدِّد السياق أهو بحر أم يابسة؟ إلا أن القوم الذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في أرض مكشوفة بحيث لا يحجبهم عن شروقها مرتفعات جبلية أو أشجار سامقة, وذهب الشيخ محمد متولي الشعراوي -رحمه الله- إلى أن المقصود {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف:90], هي بلاد القطب الذي تكون فيه الشمس ستة شهور لا تغيب طوال هذه الشهور، ولا يوجد ظلام يستر الشمس في هذه الأماكن[2].
ونظرًا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكَّن منها, وهو الدستور المُعلَن في رحلة الغرب، لم يكرر هنا إعلان مبادئه؛ لأنها منهج حياة ودستور دولة مترامية الأطراف وسياسة أمم, فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل[3].
الرحلة الثالثة
تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض والتعامل مع البشر وسكان المنطقة, ومن حيث الأعمال التي قام بها, فلم يقتصر فيها على الأعمال الجهادية لكبح جماح الأشرار والمفسدين، بل قام بعمل عمراني هائل. أما الأرض فوعرة المسالك, وأما السكان -وكأن وعورة الأرض قد أثرت على طبائعهم وطريقة تخاطبهم مع غيرهم- فهناك صعوبة في التفاهم والمخاطبة بحيث لا يكاد الإنسان منهم يقدر على التعبير عما في نفسه, ولا أن يفقه ما يحدِّثه به غيره من غير بني قومه {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف: 93]؛ إما لسبب في أسلوب التخاطب والتعامل -كما أسلفنا- أو من التخلف الحضاري والبدائية في العادات والمفاهيم والمصطلحات. فلما وجدوا القوة في دولة ذي القرنين والعدل والصلاح في سيرته -وعدل السلطان يفتح أمامه القلوب قبل فتح الجيوش والأمصار- لجئوا إليه بحمايتهم من هجمات تلك القبائل الهمجية المفسدة, قبائل يأجوج ومأجوج التي كانت تشن عليهم هجماتهم من خلف الجبلين المتقابلين من الممر الضيق الذي بينهما, وذلك بإقامة السد بين الصدفين, مقابل خراج يدفعونه إليه في أموالهم.
ونظرًا لأن القضية التي وضعها ذو القرنين نُصب عينيه هي الإصلاح ومقاومة الفساد والشر, والحكم بالعدل بين الناس, ولم يكن همُّه جمع المال أو قصد العلو في الأرض بإذلال الشعوب, فقد رفض عرضهم, وتطوع بإقامة السد على أن يتطوعوا هم من جانبهم بتقديم الجهد البشري, فمنه الخبرة والتصميم والإشراف, وعليهم الطاقة العمالية والمواد الأولية المتوافرة في بلادهم[4].
صفات القوم
ونلاحظ من السياق القرآني أن هؤلاء القوم اتصفوا بصفات، منها:
1- هم قوم متخلفون: {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف: 93]، وهذا إما معناه أنهم لا يفقهون لغة غيرهم من الأقوام الأخرى؛ لأنهم لم يطَّلعوا عليها ولم يتعلموها, فهم منغلقون على لغتهم فقط. وإما معناه أن الكلام لا ينفع معهم؛ لأنهم لا يفقهون ولا يتفاعلون معه, ولا يتفاهمون مع قائله, لا يفعلون هذا لجفاء وغلظة عندهم, إنما لغفلة وسذاجة في طبيعتهم.
2- هم قوم ضعفاء؛ ولذلك عجزوا عن صد هجمات يأجوج ومأجوج, والوقوف في وجههم, ومنع إفسادهم.
3- هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم, ومقاومة المعتدين؛ ولذلك لجئوا إلى قوة أخرى خارجية, قوة ذي القرنين, حيث طلبوا منه حل مشكلاتهم والدفاع عن أراضيهم.
4- هم قوم اتكاليون كسالى, لا يريدون أن يبذلوا جهدًا، ولا أن يقوموا بعمل؛ ولذلك أحالوا المشكلة على ذي القرنين, وأوكلوا إليه حلها, أما هم فمستعدون لدفع المال له[5].
فقه ذي القرنين مع الشعوب المستضعفة
لقد كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب المستضعفة هو السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة, فكان يدير العمل بروح الجماعة, ويشترك بنفسه مع إشراك غيره, ويدل على ذلك ضمير المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متتابع رفيع مع ضمير المخاطب في النظم القرآني الكريم؛ مما يشير إلى روح الحماس والحيوية والتعاون المشترك[6], {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 95، 96].
لقد كان ذو القرنين حريصًا على مصلحة الناس, ناصحًا لهم فيما يعود عليهم بالنفع؛ ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية, لما في ذلك من تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم[7]. ومن نصحه وإخلاصه لهم, أنه بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون, فهم طلبوا منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين سدًّا, أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج ردمًا (والردم هو الحاجز الحصين, والحجاب المتين وهو أكبر من السد وأوثق), فوعدهم بفوق ما يرجون[8].
لقد عفَّ ذو القرنين عن أموال المستضعفين، وشرع في تعليمهم النشاط والعمل والكسب والسعي, فقال لهم: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95].
إن هذا العبارة القرآنية معلم بارز في تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى.. إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجِّر طاقات المجتمع، وتوجِّهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة.
القيادة الربانية
إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالات المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم والقوى المادية, ويأتي دور القيادة الربانية في الأمة لتربط بين كل الخيوط والخطوط، والتنسيق بين المواهب والطاقات، وتتجه بها نحو خير الأمة ورفعتها.
إن أمتنا الإسلامية مليئة بالمواهب الضائعة والطاقات المعطلة, والأموال المهدرة, والأوقات المبدَّدة, والشباب الحيارى, وهي تنتظر قيادتها الواعية في كل الأقطار والدول والبلاد لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون ومحاربة الجهل والكسل والتخلف[9] {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95].
إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين حمايتهم, وإنما توريثهم أسباب القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام المفسدين، لقد كان ذو القرنين يستطيع أن يبقى حتى يبدأ يأجوج ومأجوج في الهجوم, ثم يهاجم ويهزمهم, ولكن الله I يريد أن يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظلَّ في انتظار هجوم الظالم, ولكن وظيفته منع وقوع الظلم.
كيف منع ذو القرنين وقوع الظلم؟
لم يأتِ بجيوش لحماية المستضعفين مع قدرته على ذلك, وإنما طلب منهم أن يعينوه ليساعدهم على حماية أنفسهم، ويتعلموا فنون الحماية، ويكسبوا خبرات، ويتدربوا على العمل الجاد المثمر الذي يجعلهم يبنون السد بأيديهم؛ وهذا أدعى للحفاظ عليه وإصلاحه إن أصابه شيء.
إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤلاء المستضعفون عاطلين, قال الشيخ محمد متولي الشعراوي: وهذه تلفتنا إلى أن لله I عطاء إمكانات, وعطاء ذاتيًّا في النفس.. عطاء الإمكانات هو ما تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العمل, والعطاء الذاتي في النفس هو القوة الذاتية في داخلك التي تعطيك طاقة العمل, وكثير منا لا يلتفت إلى عطاء النفس، لا يلتفت إلى أنه فيه قوة يستطيع أن يعمل بها أعمالاً كثيرة, وأنه لا يستخدمها، وأن لديه قوة تحمل وبإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر.. وأن يعمل أعمالاً كثيرة.
هذه القوة معطَّلة عند عدد كبير من الناس, فهي غير مستخدمة, ويستطيع الرجل أن يفعل بها أشياء كثيرة, وأمامه المجالات التي يستخدم فيها طاقته؛ ولكنه لا يستخدمها, عنده قوة تفكير لو درَّبها على العلم، لفتحت له أبوابًا كثيرة يرتزق منها، ولكنه يبقيها كسولة فلا تفكر في شيء، ولا يستخدمها لينمِّيها.
ماذا فعل ذو القرنين؟
لم يستعن بجيشه ولا بأناس آخرين، إنما استعان بهؤلاء الضعفاء, لقد طلب منهم أن يأتوا بالحديد ثم بناء السد بحيث وصل به إلى قمة الجبليْن, ثم قام بصهر الحديد, وأفرغ عليه النحاس، ليكون السد في غاية المتانة والقوة.
إذن فهو قوَّى هؤلاء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج ومأجوج, بأن علّمهم كيف يعينون أنفسهم، وكيف يبنون السد، وجعلهم هم الذين يشتركون في البناء وهم الذين يقيمونه, وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط؛ ليأخذوا الثقة في أنفسهم بأنهم يستطيعون حماية أنفسهم, وليتعلموا ما يعينهم ويحميهم. والإسلام ينهانا عن أن نعوِّد الناس على الكسل أو نعطيهم أجرًا بلا عمل؛ لأن ذلك هو الذي يفسد المجتمع, فالإنسان متى تقاضى أجرًا بلا عمل لا يمكن أن يعمل بعد ذلك أبدًا[10].
إن ذا القرنين قام بمهمة الحاكم الممكَّن له في الأرض, فقوَّى المستضعف، وجعله قادرًا على حماية نفسه من العدوان ولا يعتمد على حماية أحد, ولم يترك الناس في مقاعد المتفرِّجين، بل نقلهم إلى ساحة الجد عاملين[11].
درس للأمة الإسلامية
وهنا وقفة مهمة ودرس مهم وضروري للأمة, وبخاصة في زماننا هذا؛ لأنها تواجه خطرًا ماحقًا مدمرًا, أشد وأقسى من يأجوج ومأجوج.. إنه خطر الملاحدة واليهود والنصارى, الذين يسعون لتدمير كيان الأمة، وسلخها من هويتها وعقيدتها وإسلامها، وجعلها عاجزة مكتوفة الأيدي أمام هذا الخطر, تستنجد وتستنكر وتشكو إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة, والدعوة إلى مؤتمر دولي.
إن القرآن الكريم يعلِّمنا ويرشدنا إلى طريق النجاة، ألا وهي الالتزام بمنهج الله، واتخاذ طريق العمل الصائب الصحيح بالجهاد والقتال والقوة والعلوم المتطورة؛ لكي تستحق الأمة رحمة الله. فعلى الأمة أن تودِّع الأماني والأحلام الخادعة, وعليها أن تدخل ميدان العمل والعطاء والجهاد والشهادة, فعندما تحرَّك القوم المستضعَفون نحو العمل بقيادة ذي القرنين, وصلوا إلى هدفهم المنشود, وغايتهم المطلوبة, ونقف مع ذي القرنين بعد أن تم بناء السد.
هذا رحمة من ربي.. معاني ودلالات
نظر ذو القرنين إلى سدِّه العظيم الذي حفظ الناس من غارات المفسدين وقال: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} [الكهف: 98]. إنها عبارة جميلة مباركة، تشير إلى عدة معانٍ:
1- قال سيد قطب رحمه الله: (ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به, فلم يأخذه البطر والغرور, ولم تسكره نشوة القوة والعلم, ولكنه ذكر الله فشكره, ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه)[12].
2- ذِكْر ذي القرنين لربه عند إنجاز عمله, يعلّمنا كيف يكون ذكر الله سبحانه، إن من أعظم صور الذكر, هي أن يذكر ربه عند توفيقه في عمله, فيستشعر أن هذا بأمر ربه, فيتواضع ويعدل ويذكر ويشكر.
3- كان بناء السد رحمةً من الله تعالى, وقد استخدم ذو القرنين علمه الذي علمه الله إياه, وتمكينه الذي مكنه الله له, استخدمه في مساعدة الناس وتقديم الخير لهم, ومنع العدوان عنهم, فكان علمه رحمة من ربه، وكان استخدامه له رحمة من ربه.
4- كان القوم مُهدَّدين بيأجوج ومأجوج, مُعرَّضين لإفسادهم, ولم يحمهم منهم إلا الله ببناء السد, فكان السد رحمة من الله لهم, وكان خلاصًا لهم وإنقاذًا بإذن الله, فلو لم يتم بناء السد, ولو بقي أولئك القوم يَشكون ويندبون, بدون عمل ولا جهد ولا حركة, لما أنقذوا أنفسهم من الخطر؛ لأن الإنقاذ لا يتم إلا بالعمل والجهد المتواصل, وتكاتف الجهود, والانقياد الطوعي للشعوب لشرع الله خلف القيادة الربانية[13].
5- {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف: 98].
لقد أعلن ذو القرنين ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستُدكُّ عندما يحين وعد الله الذي لا يتخلف.
د. علي محمد الصلابي
التعليقات
إرسال تعليقك