ملخص المقال
عبد الرحمن بن عوف، أحد العشرة المبشرين بالجنة، هاجر الهجرتين، فما قصة إسلامه؟ وما أثر الرسول في تربيته؟ وما أهم ملامح شخصيته وصفاته؟ وما أهم مواقفه؟
كان رجلاً شريفَ النفس، عفيفَ اليد، كثيرَ المال، متينَ الحال، تجودُ يدُه بالأعطيات، وعينُه وقلبه بالعَبرات، فهو مثالٌ للغنيّ الشَّاكر، والتَّاجر النَّاجح، ولقد قال يومًا عن نفسه: "لقد رأَيْتُني لو رفَعْتُ حجَراً لَوَجَدْتُ تحته فِضَّةً وذَهَباً"؛ وكان من أكثر الصحابة الكرام ثراءً وبذلًا واجتهادًا، عاش مناصرًا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محبًّا له ولدينه، لم تمنعه أمواله الكثيرة من أن يكون واحدًا من العشرة الذين بشَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنَّة. إنه الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
نسبه ونشأته
عبد الرحمن بن عوف هو ابن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي الزهري، يكنى أبا محمد، وكان مولده في مكة بعد عام الفيل بعشر سنوات، فهو أصغر سِنًّا من النَّبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وكان اسمه يوم مولده "عبد عمرو"، وقيل: "عبد الكعبة"، وظلَّ اسمُه كذلك في الجاهليَّة، فلمَّا أسلم سمَّاه النَّبي صلى الله عليه وسلم "عبد الرحمن"، وهو من بني زهرة؛ أخوال النَّبي صلى الله عليه وسلم وأقاربه من جهة أمِّه السيدة آمنة.
ولقد نشأ عبد الرحمن بن عوف نشأةً صافية، وعُرِف بين قومه بسداد رأيه، ورجاحة عقله، وكان لا يَأْبه بأعمال الجاهلية وعاداتِها، وهو أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر الشورى فيهم، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض.
إسلام عبد الرحمن بن عوف:
أسلم عبد الرحمن بن عوف قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وكان إسلامه على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث إن أبا بكر عمل بالدعوة مُباشرة بعد إسلامه وكان رضي الله عنه رجلاً مألفًا لقومه محبًا سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجلاً تاجرًا ذا خلق، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه: الزبير بن العوام وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم أبو بكر رضي الله عنه فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الإسلام فآمنوا، وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الإسلام صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا بما جاء من عند الله، وكان عمره عند إسلامه ثلاثين عامًا.
ولقد نال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ما نال الصحابة الكرام من إيذاء المشركين، فاضطُرَّ إلى الهجرة خارج مكةَ مرتين؛ مرةً إلى الحبشة، وأخرى إلى المدينة؛ حيث استقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ملامح من شخصية عبد الرحمن بن عوف
من أهم ما يميز ملامح شخصية سيدنا عبد الرحمن بن عوف عفته، وظهر ذلك جليًا عندما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد: إن لي مالاً فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان فانظر أيهما أحب إليك فأنا أطلقها فإذا حلت فتزوجها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، ثم قال: دلُّوني على السُّوق، وخرج إلى السوق، فاشترى، وباع، وربح؛ حتى صار من أكثر المسلمين مالًا. فهذا الموقف يكشف لنا عن مدى حرص الصحابي على العمل وألا يكون عالة على غيره، رغم كونه في أمس الحاجة للدعم المالي؛ ولذلك بارك الله له في ماله.
وقال عنه بعض المؤرخين: كان تاجرًا مجدودًا في التجارة، وكسب مالًا كثيرًا، وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا فكان يدخل منه قوت أهله سنة.
شجاعة عبد الرحمن بن عوف
شهد عبد الرحمن بدرًا والمشاهد كلها، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، حتى إنه حصلت له إصابات بالغة، فقيل إنه أصيب يوم أُحد بعشرين جراحة، وأن إحدى هذه الإصابات تركت عرجًا دائمًا في إحدى ساقيه، كما سقطت يوم أحد بعض أسنانه، فتركت خللًا واضحًا في نطقه وحديثه.
ومن مواقف بطولته ما كان في يوم أحد، فقد كان من النفر القليل الذي ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفر كما فر غيره، ويحكي الحارث بن الصمة فيقول: سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وهو في الشعب فقال: "هل رأيت عبد الرحمن بن عوف؟" فقلت: نعم رأيته إلى جنب الجبيل وعليه عسكر من المشركين فهويت إليه لأمنعه فرأيتك فعدلت إليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة تمنعه" قال الحارث: فرجعت إلى عبد الرحمن فأجد بين يديه سبعة صرعى فقلت: ظفرت يمينك؛ أكل هؤلاء قتلت؟ فقال: أما هذا لأرطاة بن شرحبيل، وهذان فأنا قتلتهم وأما هؤلاء فقتلهم من لم أره قلت: صدق الله ورسوله.
بعض مواقف عبد الرحمن بن عوف مع النبي صلى الله عليه وسلم:
لَمَّا أسلم عبد الرحمن بن عوف، ووجد العذاب الواقع على المسلمين بعد أن كانوا أعزة؛ جاء في نفر من الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، إنَّا كُنَّا في عزةٍ ونحنُ مشركونَ فلمَّا آمنَّا صرْنا أذلةً، فقال: «إنِّي أُمرْتُ بالعفوِ فَلا تُقَاتِلُوا»[1] فلمَّا حوَّلَنا اللهُ إلى المدينةِ أمرْنا بالقتالِ فكفُّوا فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.
ولقد صلى وراءه النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، يقول المغيرة بن شعبة: عدلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وأنا معَهُ في غزوةِ تبوكَ قبلَ الفجرِ فعدَلتُ معَهُ فأناخَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فتبرَّزَ ثمَّ جاءَ فسَكَبتُ علَى يدِهِ منَ الإداوةِ فغسلَ كفَّيهِ ثمَّ غسلَ وجهَهُ ثمَّ حسرَ عن ذراعيهِ فضاقَ كُمَّا جبَّتِهِ فأدخلَ يدَيهِ فأخرجَهُما من تحتِ الجبَّةِ فغسلَهُما إلى المرفقِ ومسحَ برأسِهِ ثمَّ تَوضَّأ علَى خفَّيهِ ثمَّ ركِبَ فأقبَلنا نسيرُ حتَّى نجدَ النَّاسَ في الصَّلاةِ قد قدَّموا عبدَ الرَّحمنِ بنَ عوفٍ فصلَّى بِهِم حينَ كانَ وقتُ الصَّلاةِ ووجدنا عبدَ الرَّحمنِ وقد ركعَ بِهِم رَكعةً مِن صلاةِ الفجرِ فقامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فصفَّ معَ المسلمينَ فصلَّى وراءَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوفٍ الرَّكعةَ الثَّانيةَ ثمَّ سلَّمَ عبدُ الرَّحمنِ فقامَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في صلاتِهِ ففزِعَ المسلمونَ فأكثَروا التَّسبيحَ؛ لأنَّهم سبَقوا النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بالصَّلاةِ فلمَّا سلَّمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ لَهُم: «قد أصبتُمْ» أو «قد أحسنتُمْ»[2].
بعض المواقف من حياة عبد الرحمن بن عوف مع الصحابة:
ومن مواقفه مع الصحابة ما حدث بينه وبين سيدنا خالد بن الوليد، فقد اشتكى عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خالد لم تؤذي رجلا من أهل بدر، لو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تدرك عمله"، فقال: يا رسول الله إنهم يقعون في فأرد عليهم فقال: "لا تؤذوا خالدًا فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار".
ومن مواقفه أيضًا ما كان بينه وبين بقية أصحاب الشورى، والذين استخلفهم سيدنا عمر بن الخطاب لاختيار من بينهم خليفة المسلمين فقد روي أن عبد الرحمن بن عوف قال لأصحاب الشورى: هل لكم أن أختار لكم وأنتقي منها، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا أول من رضي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنت أمين في أهل السماء وأمين في أهل الأرض".
بعض المواقف من حياة عبد الرحمن بن عوف مع التابعين:
ومن مواقفه مع التابعين ما كان بينه وبين نوفل بن إياس الهذلي فقد قال: كان عبد الرحمن بن عوف لنا جليسًا، وكان نعم الجليس وإنه انقلب بنا ذات ويوم حتى دخلنا منزله ودخل فاغتسل ثم خرج فجلس معنا، فأتينا بقصعة فيها خبز ولحم، ولما وضعت بكى عبد الرحمن ابن عوف فقلنا له: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لهذا لما هو خير لنا.
عبد الرحمن بن عوف يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية؛ فكاتبته عبد عمرو، فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس، فأبصره بلال فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار فقال: أمية بن خلف لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له: ابرك فبرك فألقيت عليه نفسي لأمنعه فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه.
عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شهدت حلف المطيبين مع عمومتي، وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه، قال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يصب الإسلام حلفا إلا زاده شدة ولا حلف في الإسلام"، وقد ألف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار.
من كلمات عبد الرحمن بن عوف:
"ابتُلِينَا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم بالضَّرَّاءِ فصَبَرْنا، ثم ابتُلِينا بعدَه بالسَّرَّاءِ فلم نَصْبِرْ"[3].
وفاة عبد الرحمن بن عوف:
لَمَّا حضرت عبد الرحمن بن عوف الوفاة بكى بكاء شديدًا فسئل عن بكائه فقال: إنَّ مصعب بن عمير رضي الله عنه كان خيرًا مني توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن له ما يكفن فيه وإن حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه كان خيرًا مني لم نجد له كفنًا، وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في حياته الدنيا وأخشى أن أحتبس عن أصحابي بكثرة مالي.
وكانت وفاة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه سنة إحدى وثلاثين، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن خمس وسبعين سنة بالمدينة. ودفن بالبقيع وصلى عليه عثمان وكان قد أوصى بذلك[4].
[1] صحيح النسائي: (3086).
[2] صحيح أبي داود: (149).
[3] رواه الترمذي: (2464).
[4] للمزيد انظر: ابن سعد الطبقات الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ= 1990م، 3/ 92- 101، وابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الجيل، بيروت، الطبعة الأولى، 1412هـ= 1992م، 2/ 844- 850، وابن عساكر: تاريخ دمشق، المحقق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ= 1995م، 35/ 235- 308، وابن الأثير: أسد الغابة، تحقيق: علي محمد معوض/ عادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1415هـ= 1994م، 3/ 475، والذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق : مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405هـ= 1985م، 1/ 68- 92.
التعليقات
إرسال تعليقك