الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تعتبر مدينة الموصل درة بلاد العراق والإسلام وإحدى الحواضر الإسلامية الكبرى في التاريخ، فماذا عن جغرافيتها وتاريخها؟
تُعتبر مدينة الموصل درة بلاد العراق وإحدى الحواضر الإسلامية الكبرى في التاريخ، ومنذ تاريخها الإسلامي أولاها الخلفاء عنايةً خاصَّة، حتى صارت عاصمة لولاية الجزيرة الفراتية، وأصبحت قاعدة للفتوحات باتجاه الأناضول وآسيا الوسطى، إلى أن كانت ولاية عثمانية قائمة بذاتها، قبل أن يلحقها الاستعمار بولايتي بغداد والبصرة، مكونين دولة العراق الحديثة.
الموقع الجغرافي
تقع مدينة الموصل شمال العراق على بعد 396 كم، شمال العاصمة بغداد، وهي مدينة تاريخية قديمة قامت على أنقاض مدينة نينوى الآشورية، وهي أكبر مدن الشمال العراقي، ويُقسِّمها نهر دجلة إلى قسمين، وممَّا سمَّي القسم الأول بالساحل الأيسر والقسم الثاني بالساحل الأيمن، وهي ثالث أكبر مدن العراق، ويقطن الموصل سكان من أصول عربية.
قال عنها ياقوت الحموي: "المَوْصِلُ: المدينة المشهورة العظيمة إحدى قواعد بلاد الإسلام، قليلة النظير كبرًا وعظمًا وكثرة خلق وسعة رقعة؛ فهي محطُّ رحال الركبان ومنها يقصد إلى جميع البلدان، فهي باب العراق ومفتاح خراسان ومنها يقصد إلى أذربيجان، وكثيرًا ما سمعت أنَّ بلاد الدنيا العظام ثلاثة: نيسابور لأنَّها باب الشرق، ودمشق لأنَّها باب الغرب، والموصل لأنَّ القاصد إلى الجهتين قلَّ ما لا يمر بها، قالوا: وسُمِّيت الموصل لأنها وصلت بين الجزيرة والعراق، وقيل وصلت بين دجلة والفرات".
التاريخ القديم
يعود تاريخ الموصل إلى عام 1080 ق.م، عندما اتَّخذ الآشوريون مدينة نينوى عاصمةً لهم وحصَّنوها فأقاموا حولها القلاع، ومنها القلعة التي كانت في الجهة الغربية من دجلة تُقابل مدينة نينوى، وتقع هذه القلعة فوق "تل قليعات" الذي يُشرف على السهول الغربية المقابلة لمدينة نينوى، كما يُشرف على السهول التي بين نينوى والموصل، حيث كانت هذه القلعة -الحصن- النواة لمدينة الموصل؛ فإنَّ مناعة الموقع، وخصب السهول المجاورة لها، وقربها من دجلة، ووجود حامية في الحصن، ووقوعها على طريق رئيسة تصل بين طرفي الهلال الخصيب، كل هذا شوَّق الناس على أن يسكنوا حول هذا الحصن المذكور، وأخذت البيوت تزداد على مرِّ السنين.
في زمن الإمبراطورية الآشورية الثالثة (745-612 ق.م)، صارت نينوى أعظم وأكبر مدينة في العالم، وفي كلِّ المجالات؛ العسكرية والثقافية والعلمية، وامتدَّت الإمبراطورية الآشورية من غرب الأناضول شمالًا إلى صعيد مصر والسودان جنوبًا، وما زالت الآثار الآشورية تملأ أرض نينوى، وكان من أهمِّ المكتشفات مكتبة "آشور بانيبال" التي احتوت على أكثر من عشرين ألفًا من الرِّقَم الطينيَّة في كافَّة العلوم والفنون، وهي من أهمِّ مقتنيات المتحف البريطاني في الوقت الحاضر، وكان عدد سكان نينوى أكثر من 100 ألف، وما تزال أسوارها تشهد على سعتها.
في عام 722 ق.م غزا الآشوريون مملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة وأزالوها من الوجود، ونقلوا سكَّانها إلى نينوى وشمال العراق الحالي، وحاصروا أورشليم عاصمة يهوذا، ولكنَّها لم تسقط بيدهم، وهذا الزمن على الأغلب زمن نبيُّ الله يونس عيه السلام، الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حادثة الطائف: "ذلك أخي كان نبيًّا وأنا نبي".
سقطت نينوى بيد البابليين والمادبين عام 612 ق.م وتشتَّت الآشوريُّون في جنوب الأناضول وسورية، أو ذابوا في العنصر العربي المحيط بهم، ثم أصبحت المنطقة واقعةً بين مطرقة الفرس والرومان عمومًا، وبعد أن هدأت الأحوال واستتبَّ الأمن في البلاد، تراجع بعض السكان الذين سلموا من سيوف الأعداء إلى نينوى، وأسَّسوا لهم حصنًا على "تل توبة" في نينوى، كما أنَّ قسمًا منهم رجعوا إلى الحصن الغربي فرمَّموه وسكنوا فيه، فصار قرب دجلة حصنان أحدهما" الحصن الشرقي"، وهو الذي فوق "تل التوبة"، يُقابله في الجهة الغربية من دجلة " الحصن الغربي" الذي فوق "تل قليعات".
وفي القرن الرابع قبل الميلاد ازدادت العمارة حول الحصن الغربي وصار قريةً لها شأنٌ يُذكر، وقد كان يُطلق عليها مسبلا Mespila، وقد أصبح لها شأنٌ بعد سقوط نينوى لموقعها المهمِّ الذي يصل بين عدَّة أقطار، وهذا الموقع نفسه سبَّب للمدينة ويلات ومصائب عديدة؛ فقد كانت ساحةً للحروب التي استعرت نيرانها بين المتنازعين على الحكم, وفي عهد كسرى الأول أنوشروان (521-579م) كانت الحرب سجالًا بين الروم والفرس، فأغار الروم وخربوا الموصل، وفي عهد كسرى أبرويز بن هرمز (579=590م) اهتمَّ بتعزيز موقع الموصل، فبنى فيها عدَّة دورٍ وحصَّنها، وأتى ببعض الفرس وأسكنهم فيها فتوسَّعت المدينة، وكانت من معاقل الفرس القويَّة التي تصدُّ زحف الروم عنها، وقد لاقت الموصل اهتمامًا كبيرًا من أردشير وسُمِّيت باسمه "نيو أردشير"؛ أي أردشير الجديدة، وأمَّا الكتبة الآراميُّون فكانوا يُسمُّونها "حصن عبورايا"؛ أي الحصن الغربي، أمَّا العرب فقد كانوا يُسمُّونها "خولان"، كما كانوا يُطلقون عليها الحصنين.
وفي آخر معركةٍ بين الفرس والروم التي انتصر فيها الروم عام 627م، التي جاءت في القرآن الكريم في بدايات سورة "الروم": {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّه} [الروم: 2 - 5]، كان من بين الأسرى صهيب بن سنان الرومي الذي أصبح يُعرف بالصحابي صهيب الرومي.
موصل في عهد الخلفاء الراشدين
في عام (16هـ=637م) فتح المسلمون بلاد العراق وفارس في معركة القادسية، ثم تقدَّموا شمالًا وفتحوا تكريت والموصل، وبذلك يكون قد تمَّ الفتح الإسلامي للموصل في عام (16هـ=637م)، والقبائل التي اشتركت في الفتح هي (تغلب وأياد والنمر) بقيادة ربعي بن الأفكل العنزي، وقد كانت هذه القبائل منتشرة بين تكريت والموصل، وقد سكن قسمٌ من هذه القبائل الموصل بعد الفتح، والقسم الكبير منها استمرَّ في الزحف على البلاد المجاورة وخاصَّةً أذربيجان وأرمينيَّة.
وفي عام (17هـ=638م) عيَّن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عتبة بن فرقد السلمي واليًا على الموصل، وهو الذي بنى المسجد الجامع، وإلى جانبه دار الإمارة، وكان بها أحد الأجناد الستة التي جنَّدها الفاروق وجعلها تابعةً للكوفة.
وفي خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه كثرت هجرة القبائل العربية إليها خاصَّةً بعد أن توطَّدت الأمور واستقرَّت الفتوحات، وأخذ العرب يقطنون البلاد المفتوحة ويتَّخذونها مقامًا لهم، وأوَّل من نزلها من القبائل هي: الأزد، وطيء، وكندة، وعبد قيس. ونزل منها أربعة آلاف، وأمَّر عليهم الخليفة عثمان بن عفان "عرفجة بن هرثمة البارقي"، وسعى البارقي في توسيع الموصل وتعميرها فاختطَّ منازل العرب فيها، ووسَّع الجامع الذي كان قد بناه عتبة بن فرقد السلمي.
وفي عهد الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه زادت الهجرة إلى الموصل، فهاجرت القبائل العربية من الكوفة والبصرة، وهكذا توسَّعت الموصل واتَّخذها العرب دار إقامة لهم.
الموصل في عصر الدولة الأموية
وانقضى عهد الراشدين، والموصل في توسُّعٍ دائمٍ حتى صارت من أمَّهات أمصار الجزيرة؛ بل صارت الموصل عاصمةً لولاية الجزيرة الفراتية، وأصبحت قاعدةً للفتوحات باتِّجاه الأناضول وآسيا الوسطى، وبلغ خراجها في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أربعة ملايين درهم، وقد أولاها الأمويون عنايةً خاصَّةً كثيرًا؛ نظرًا إلى أهميَّتها الحربية والتجارية؛ فكانوا يولُّون عليها أقدر الولاة وأحزمهم، وكثيرًا ما كانوا يُولُّون عليها من ثبت عندهم حبُّه للإصلاح والعمران، وقد سكن الموصل من الخلفاء الأمويين هشام بن عبد الملك، وذلك قبل أن يُولَّى الخلافة، فبنى له قصرًا في ربضها الأسفل، وزرع النخيل والأثمار حوله، وبقي القصر إلى سقوط الدولة الأموية، فأقطعه أبو جعفر المنصور السحاج بن وائل الأزدي الذي ساعدهم على الأمويين.
وقد توالى على الموصل عددٌ من الولاة زادوا في خطَّتها؛ فقد أحاط سعيد بن عبد الملك بن مروان الموصل بسور، ورصف طرقها بالحجارة، وبنى بها مسجدًا عُرِفَ بـ"مسجد عبيدة" نسبةً إلى مؤذِّنه، كما بنى فيها سوق سعيد، ثم ولَّى عبد الملك بن مروان أخاه محمد بن مروان الموصل، فجدَّد سور الموصل، وربَّما أكمل السور الذي بناه ابن أخيه سعيد، أو أنَّه وسَّعه في الأماكن التي توسَّعت إليها المدينة.
وفي عام (106-113هـ=724-731م) تولَّى الموصل الحر بن يوسف الأموي، الذي وجد نهر دجلة بعيدًا عن المدينة، وأنَّ السكان يُلاقون عناء ومشقَّة في نقل الماء، فشقَّ نهرًا من قرب دير مار ميخائيل، وسيَّره محاذيًا للتلال التي تطلُّ على حاوي الكنيسة، وأجراه تحت المدينة في مجرى دجلة الحالي، بدأ بهذا العمل عام (108هـ=726م) واستمرَّ به العمل إلى عام (115هـ=733م)، فأتمَّ فتحه الوليد بن تليد العبسي وأراح الناس وعرف بـ"نهر الحر"، ورصفوا شارعًا محاذيًا لمجراه، وغرسوا على جانبيه الأشجار، فكان أهل المدينة يتنزهون به في الأمسيات، وبنى الحر قصره المعروف بالمنقوشة، وكان من القصور المشهورة، بناه عام (106هـ=724م)، وهو قصرٌ منقوشٌ بالساج والرخام الأبيض المصقول والفصوص الملوَّنة والفسافس، وكان من أجمل القصور في زمانه، وبقي القصر إلى القرن السابع الهجري.
ثم تولَّاها مروان بن محمد مرَّتين، إحداهما (102-104هـ=720-722م) والثانية (126-127هـ=743-744م)، وكان أوَّل من عظَّم الموصل وألحقها بالأمصار العظام، وجعل لها ديوانًا يرأسه، ونصب عليها جسرًا، ونصب طرقاتها وبنى عليها سورًا، وهدم المسجد الجامع ووسَّعه وبنى له منارة، وأحاطه بأسواق، فكانت أسواق الموصل الرئيسة حوله، وعلى هذا فقد صارت الموصل قاعدة بلاد الجزيرة بعد أن كانت مدينةً تابعةً للكوفة.
الموصل في عهد الدولة العباسية
انتهت الدولة الأموية عام 132هـ في معركة الزاب بالقرب من الموصل، وفي بداية العصر العباسي الأول نكبت الموصل على أثر ثورة أهلها على محمد بن صول سنة (133هـ=750م)، وفتك بها العباسيون فتكًا ذريعًا، حتى إنَّ أسواقها بقيت معطَّلةً عدَّة سنين، وكان هذا على يد يحيى بن محمد أخي السفاح، ومع ذلك بقيت عاصمةً لبلاد الجزيرة.
وفي عام (133هـ=750م) ولَّى أبو جعفر المنصور عليها عمَّه إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس، ولمـَّا دخل البلد وجدها بحالةٍ يُرثى لها، فجمع الناس وخطبهم ووعدهم بحسن السيرة فيهم بأن يردَّ عليهم المظالم، ويُعطيهم ديات من قتلهم يحيى، وكتب إلى المنصور يُعلمه بسوء حال البلد وخرابها، فكتب إليه المنصور: أن أرفق بالناس وتألَّفهم. فأخذت المدينة تستعيد مركزها الاقتصادي حتى بلغت جبايتها في خلافة هارون الرشيد (24,000,000) درهم و(20,000) رطل عسل، مع العلم أنَّ المهدي كان قد خزل منها كورة دراباذ وكورة الصامغان، ومع أنَّ المعتصم بالله خزل منها -أيضًا- كورة تكريت وكورة الطيرهان، فإنَّه بلغ ما كان يجبى منها ومن أعمالها في خلافته (6,300,000) دينار كان هذا في الربع الأول من القرن الثالث الهجري.
في عهد الدولة الحمدانية
وفي أواخر القرن (الثالث الهجري= التاسع الميلادي) ملكها الحمدانيون فاهتمُّوا بالزراعة كثيرًا، فغرسوا فيها الأشجار، وكثرت الكروم، وغرست الفواكه، وغرست النخيل والخضر، وكانوا يعنون بزراعة القطن والأرز والحبوب، وبلغ خراج الحنطة والشعير فيها خمسة ملايين درهم.
في عهد الإمارة العقيلية
وخلف العقيليون الحمدانيين في حكم الموصل سنة (368-486هـ=979-1093م)، وكانت مدينة الموصل مقرَّ الدولة العقيلية وعاصمة ملكهم، لكن عدم الاستقرار السياسي وكثرة الحروب والمنازعات الداخلية والخارجية التي سادت خلال فترة حكمهم، اضطرتهم إلى ترك المدينة، واتِّخاذ بعض المدن الأخرى الخاضغة لنفوذهم مراكزَ لإقامة الأمراء، ولقد تضافرت عوامل كثيرة داخليَّة وخارجيَّة لإزالة دولة بني عقيل في الموصل، بعد أن دامت قرنًا من الزمان معلنةً راية العصيان والثورة ضدَّ التسلُّط الأجنبي على بغداد حاضرة الدولة العباسية، كالبويهيين والسلاجقة، ولمـَّا أقام العقيليون دولتهم بالموصل اهتمُّوا بتعميرها وتعمير المناطق التي امتدَّت إليها دولتهم، ومن عمائر بني عقيل في الموصل سورها، الذي ما زالت آثاره قائمةً في المدينة، وقد أنشأه الأمير مسلم بن قريش العقيلي.
في العهد السلجوقي
لكن الامور بالموصل لم تستقر لبني عقيل؛ فقد تمكن السلاجقة من الاستيلاء على الموصل وأعمالها، وزال ملك العقيليين منها سنة (489هـ=1096م) وصارت بلادهم جزءًا من دولة السلاجقة، وقد تزعَّم السلاجقة حركة الجهاد ضدَّ الصليبيين الغزاة؛ فقد أنقذ أمير الموصل شرف الدين مودود بن التونتكين دمشقَ من السقوط في براثن الحملة الصليبية عام (518هـ=1124م)، ودمج إمارتها مع إمارة الموصل قبل أن تغتاله الباطنية (الإسماعيلية) وهو يُؤدِّي صلاة الجمعة في الجامع الأموي.
لقد تميَّزت حياة الموصل خلال العصر السلجوقي (489-521هـ) بالقلق وعدم الاستقرار، ما أدَّى إلى انصراف ولاة الموصل عن الاهتمام بالنواحي العمرانية، فشمل الخراب مناطق الموصل، وأصبح القسم الشرقي منها أنقاضًا وردمًا لا يسكنه أحد، وقد أشار المؤرِّخ ابن الأثير إلى ذلك بقوله: "كانت البلاد -أي الموصل- قبل أن يملكها عماد الدين زنكي خرابًا؛ من الظلم، وتنقُّل الولاة، ومجاورة الفرنج". وقد أدَّى تدهور العمران في الموصل إلى تقلُّص رقعتها ورحيل عددٍ من السكان إلى المناطق المجاورة، ولم تنهض الموصل من عثرتها إلَّا في العصر الأتابكي.
في عهد الدولة الزنكية الأتابكية
وفي رمضان من عام (521هـ=1127م) تسلَّم عماد الدين زنكي الموصل، وتأسَّست الإمارة الزنكية في الموصل، وبدأ بذلك العهد الأتابكي لحكم الموصل، ولمـَّا تسلَّم عماد الدين الموصل أقام بها يُقرِّر أمرها ويُصلح قواعدها، وكانت الموصل هي المركز بالنسبة إليه، فانطلق منها ليُوسِّع دولته خاصَّةً بعد أن وجد البلاد مقسَّمةً بين الأمراء، وكلِّ واحدٍ منهم قد استأثر بولايته لا يهمُّهم من أمر البلاد سوى جمع ما يقدر على جمعه من أيِّ طريقٍ كان، كما استفحل خطر الصليبيين واحتلُّوا أكثر البلاد السوريَّة ووصلوا إلى أسوار حلب، فحشد عماد الدين جيوشه وبدأ بأمراء الأطراف، ثم سار إلى حلب فاستبشر به أهلها؛ خاصَّةً لِمَا كانوا يقاسونه من النزاع بين الأمراء، فضلًا عمَّا يُصيبهم من مضايقة الصليبيين لهم حتى كانوا يُقاسمونهم في بعض محاصيلهم، ثم توجَّه إلى حماة فاستولى عليها عام (524هـ=1130م)، ثم التفت إلى ما جاوره من حصون النصارى فهاجمهم ودخل معهم في معارك كبيرة، كان فيها مؤيَّدًا من الله بالنصر العظيم عليهم فهابه النصارى، وأصبح أعظم قائدٍ في الهلال الخصيب، وصار ملكه يمتدُّ من شهرزور شرقًا، إلى قرب سواحل سوريَّة غربًا، ومن آمد وديار بكر وجبال الأكراد الهكارية والحميدية شمالًا إلى الحديثة جنوبًا.
وقد توَّج زنكي حروبه بإسقاط إمارة الرها الصليبية عام (539هـ=1144م)، ثم خلفه ابنه نور الدين محمود بن زنكي (مهندس فتح بيت المقدس)، الذي بنى المسجد الجامع الكبير (النوري) عام 566هـ، الذي ما زالت منارته من أهمِّ معالم الموصل والمنطقة، ونور الدين زنكي هو الذي عبَّد الطريق أمام صلاح الدين الأيوبي لاحقًا لفتح بيت المقدس.
في العهد المغولي
وعلى الرغم من سقوط الموصل عام 660هـ على يد المغول، فإنَّها تحتفظ بمأثرة إسلام الملك "تكودار بن هولاكو" عام 681هـ على يد الشيخ عبدالرحمن الموصلي، الذي سمَّى نفسه أحمد تكودار، وبعد السيطرة المغولية تعاقب عدَّة دويلات عليها، واحتلَّها الشاه إسماعيل الصفوي عام (913هـ=1508م)، ثم صارت تحت سيطرة الدولة العثمانية عام (922هـ=1516م).
في عهد الخلافة العثمانية
وفي عهد الخلافة العثمانية كانت الموصل إحدى الولايات التابعة لها، ثم أصبحت ولايةً عثمانيةً قائمةً بذاتها عام (945هـ=1539م)، وقد تمكَّنت في حكمها المحلي والإقليمي الأسرة الجليلية (1136-1249هـ=1724-1834م)، التي تنتمي إلى مؤسِّسها عبد الجليل، وبرز من هذه العائلة اسم الوزير الحاج حسين باشا الجليلي (1108-1171هـ=1697-1758م) بشكل مؤثِّرٍ من خلال الخدمات العسكرية التي قدَّمها للدولة العثمانية ضدَّ الفرس وخصوصًا نادر شاه، وقاد هذا الوزير انتصار الموصل على نادر شاه في عام (1156هـ=1743م)، ومنع بذلك امتداد إيران الأفشارية في السيطرة على المشرق العربي؛ حيث أرسل نادر شاه أكثر من 200 ألف مقاتل لمحاصرة الموصل والقضاء عليها في سعيه نحو إسطنبول، وقد استعمل مئات المدافع لقصف الموصل بأكثر من 200 ألف قذيفة، وتصدَّى أهل الموصل لهذا الهجوم الهمجي، ولم يكن فيها إلَّا 30 ألف مقاتلٍ بقيادة حسين باشا الجليلي، واستطاعوا وقف جيش نادر شاه وإجباره على الانسحاب، وتُعدُّ هذه الملحمة واحدةً من أكبر ملاحم الحصار في التاريخ الحديث.
وقد اكتسب حسين باشا الجليلي لقب "بطل الحصار"، فثبت من خلال عمله الاستراتيجي موقع أسرته المحليَّة سياسيًّا وإداريًّا في حكم ولاية الموصل لفترة تقترب من قرنٍ كاملٍ في التاريخ الحديث للمشرق العربي.
وكان من أبرز أبناء الأسرة الجليلية الوزير محمد أمين باشا الذي مُنح لقب "الغازي" نظرًا إلى اشتراكه في الحرب العثمانية - الروسية عام (1184هـ=1770م) كسردار للجيوش العثمانية، وقد أُسِرَ من قِبَلِ الروس، وفُكَّ أسره بعد حوالي خمس سنوات، فقابل السلطان عبد الحميد الأول (1180-1203هـ=1774-1789م) الذي وكل إليه مهمَّة تعديل نظام بلاد الشرق والعراق وولَّاه العراق، ولكنَّه تُوفِّي سنة (1181هـ=1775م) قبيل الشروع بمهمَّته الكبرى.
إحدى المدن العراقية الكبرى
بقيت الموصل وولايتها الواسعة ضمن إطار الدولة العثمانية إلى أن سقطت بيد الاستعمار البريطاني عام 1918م؛ حيث ألحقوها بدولة العراق التي كوَّنوها بعد دمجها بولايتي بغداد والبصرة، وبعد تنكُّرهم لاتفاقية "سايكس بيكو"؛ حيث كانت الموصل تابعةً للنفوذ الفرنسي حسب هذه الاتفاقية، وصارت جزءًا من مملكة العراق المستحدثة، وذلك بسبب اكتشاف النفط آنذاك في كركوك، وعين زالة التي زالت بانقلابٍ عسكريٍّ عام 1958م، وهي الآن مدينةٌ من أهم المدن العراقية التي تحظى بمكانةٍ عالية.
والديموجرافية في الموصل تختلف اختلافًا جذريًّا عن منطقة العراق التاريخي، الذي يبدأ من جنوب سامرَّاء تقريبًا، وهي كما رأينا لم تكن يومًا جزءًا من العراق، على الرغم من وجود الروابط التاريخية، وهي مسألةٌ معقَّدة.
في عام 1948م عملت القوى الصهيونية على تهجير اليهود من الموصل، ولم يبقَ فيها أحدٌ منهم، تعرَّضت الموصل عام 1959م لمجزرةٍ من قِبَل الشيوعيين والشعوبيين؛ ذهب ضحيَّتها العشرات بين قتلٍ وسحلٍ ونهبٍ لبيوتهم؛ حيث إنَّ جذور المدينة عربية إسلامية، وأهم معالمها التسامح والتعايش مع الأقليَّات؛ ويوجد فيها أكثر من 30 ديرًا وكنيسةً للمسيحيين، ولم يمسها أحدٌ بسوءٍ على مدى مئات السنين.
_______________
المصادر:
- ياقوت الحموي: معجم البلدان، الناشر: دار صادر، بيروت، الطبعة: الثانية، 1995م.
- سعد سعيد الديوه جي: الموصل .. نينوى .. في التاريخ، مجلة المجتمع، نوفمبر 2014م.
- وسيم الشريف: الموصل في التاريخ، مدونة تاريخنا، أبريل، 2013م.
التعليقات
إرسال تعليقك