التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
سار الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاهتمام بالفقراء، ورعاية المحتاجين، والحرص على التكافل الاجتماعي بين أفراد
سار الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاهتمام بالفقراء، ورعاية المحتاجين، والحرص على التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع كافة، وبذل ما في وسعهم لإغاثة كلِّ ملهوفٍ أو محتاج، ولا عجب في ذلك؛ فقد تَخَرَّجوا في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعلَّموا من معينه الصافي عمليًّا ونظريًّا، فكانت خلافتهم رحمةً للمسلمين، وأتاحت للمسلمين لونًا من الحياة تعجز الأمم المتحضرة -الآن- عن بلوغه. فما نراه الآن في الغرب هو توفير التأمين الاجتماعي للعاجز عن العمل، وهذا التأمين إنَّما نفقاته من الناس في وقت صحتهم ثم تُرَدُّ عليهم فيما بعد، أمَّا ما وُجِدَ في عهد الخلافة الراشدة فيفوق ذلك؛ فقد كفلت الدولة لكلِّ أفراد المجتمع الإسلامي نصيبًا مقسومًا من بيت المال، من لحظة ولادته إلى وفاته، بل ورعاية أبنائه وأهله من بعده. فمجتمع بمثل هذه القيم والمبادئ حُقَّ له أن يسود العالم.
وقد تميَّز عصر الخلفاء الراشدين بأنَّه أفضل فترات التاريخ الإسلامي بعد عصر النبوَّة؛ حيث تولَّى الحكم كبار الصحابة المقرَّبون من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مِمَّن شَهِدَ لهم بالسابقة والفضل، والبشارة بدخول الجنة، يُعاونهم في إدارة البلاد أعدادٌ من الصحابة العدول، الذين مثَّلوا النخبة في مجالات الفكر، والسياسة، والإدارة، والاقتصاد، والقيادة العسكرية.
خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
جاد الصديق أبو بكر رضي الله عنه منذ أيام الإسلام الأولى -كما ذكرنا سابقًا- بكلِّ ما يملك في سبيل الإسلام فسارع إلى عتق الرقاب، وفك أزمات المسلمين المستضعفين، ولمـَّا ولي أبو بكر خلافة المسلمين بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم سار على نهجه في مراعاة الفقراء والمساكين وإغاثة الملهوفين؛ بل وقاد حروب الردة دفاعًا عن حقِّهم الذي فرضه الله على الأغنياء بعدما رفض المرتدون هذا الركن العظيم -الزكاة- من أركان الإسلام، الذي يُقيم مجتمعًا متحابًّا فقراؤه وأغنياؤه. فمن مظاهر التكافل والإغاثة في عهده رضي الله عنه:
1- بيت المال.. قِبْلة الفقراء.
2- إغاثته العسكرية للمسلمين.
3- مظاهر تكافلية في عهده.
بيت المال.. قبلة الفقراء:
بعد ما تولى أبو بكر رضي الله عنه خلافة المسلمين كان يُعطي ما في بيت المال للفقراء والمساكين حتى لا يبقى فيه شيء؛ فيروي ابن سعد في طبقاته أنَّ أبا بكر الصديق كان له بيت مالٍ بالسنح معروف ليس يحرسه أحد، فقيل له: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لا يخاف عليه. قلت: لم؟ قال: أعطينا ما فيه ولم يبقَ منه شيء. فلمَّا تحوَّل أبو بكر إلى المدينة جعل بيت ماله في الدار التي كان فيها، وكان قَدِم عليه مالٌ من معدن القبلية ومن معادن جهينة كثير، وانفتح معدن بني سليم في خلافة أبي بكر فقدم عليه منه بصدقته، فكان يُوضع ذلك في بيت المال، فكان أبو بكر يقسمه على الناس نفرًا نفرًا، فيصيب كل مائة إنسان كذا وكذا، وكان يُسوِّي بين الناس في القسم الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير فيه سواء، وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح فيحمل في سبيل الله، واشترى عامًا قطائف أُتي بها من البادية، ففرَّقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء، فلما تُوُفِّي أبو بكر ودُفِن دعا عمر بن الخطاب الأمناء ودخل بهم بيت مال أبي بكر ومعه عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما، ففتحوا بيت المال فلم يجدوا فيه دينارًا ولا درهمًا، ووجدوا خيشة للمال فنقضت فوجدوا فيها درهمًا، فترحموا على أبي بكر[1].
إغاثته العسكرية للمسلمين:
عظمة الصديق أنَّه ثمرة من ثمرات النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومن أسرار عظمته رضي الله عنه أنَّه حافظ على الدولة الإسلامية الناشئة من الزوال، فواجه المرتدين بكلِّ جهده وطاقته، وردَّ كلَّ ظلمٍ واعتداء من قِبَل هؤلاء المرتدين على الإسلام والمسلمين؛ فقد قدم عليه رضي الله عنه أثناء حروب الردة رجلًا من بني سليم يُقال له: الفجاءة. وهو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف، فقال لأبي بكر: إنِّي مسلم، وقد أردت جهاد من ارتدَّ من الكفار، فاحملني وأعنِّي. فدعمه أبو بكر وأعانه وأعطاه سلاحًا، فخرج يستعرض الناس: المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم، ويُصيب من امتنع منهم، ومعه رجلٌ من بني الشريد يُقال له: نجبة بن أبي الميثاء. أرسله للإغارة على كلِّ مسلمٍ في سليم وعامر وهوازن.
ثم علم أبو بكر بما كان يفعله الفجاءة؛ فكتب إلى طريفة بن حاجز: "إنَّ عدو الله الفجاءة أتاني يزعم أنَّه مسلم، ويسألني أن أقوِّيه على من ارتدَّ عن الإسلام، فحملته وسلَّحته، ثم علمت أنَّ عدوَّ الله قد استعرض الناس: المسلم والمرتد، يأخذ أموالهم، ويقتل من خالفه منهم، فسِر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله، أو تأخذه فتأتيني به".
فسار طريفة بن حاجز وخاض معركةً حاسمة، أمكن له بعدها أسر الفجاءة وبعث به إلى الخليفة فقتله[2].
وفي عهده ارتدَّ أهل البحرين بعد موت ملكهم المنذر بن ساوي العبدي، ولم يبقَ بها بلدةٌ على الثبات سوى قريةٍ يُقال لها جواثا[3]. وكانت هذه القرية هي أول قريةٍ أقامت الجمعة من أهل الردَّة، كما ثبت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بجواثا مِن البحرين"[4].
فحاصر المرتدُّون هذه القرية وضيَّقوا عليهم، حتى مُنعوا من الأقوات وجاعوا جوعًا شديدًا حتى فرج الله عنهم، وكان في المسلمين المحصورين رجل صالح يقال له: عبد الله بن حذف من بني بكر بن كلاب، حيث يصور لنا هذا الموقف تصويرًا رائعًا وقد اشتدَّ عليهم الجوع، فيرسل إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه مستغيثًا، فيقول:
ألا أبلغ أبا بكـرٍ رسـولًا |
|
وفتيان المــدينة أجمـعينـا |
فهل لكم إلى قومٍ كـرامٍ |
|
قعودٍ في جُـواثي محصرينــا |
كأن دماءهـم في كلِّ فجٍّ |
|
شعاع الشمس يغشى الناظرينا |
توكلنـا على الرحمـن إنَّا |
|
وجدنا النصـر للمتـوكلينـا |
وبمجرَّد وصول الرسالة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذا به يُسرع لنجدة المسلمين وإنقاذهم، فأرسل جيشًا بقيادة العلاء بن الحضرمي استطاع أن ينتصر على المرتدِّين، ويُنقذ المسلمين من الهلاك[5].
مظاهر تكافلية في عهده رضي الله عنه:
وممَّا يُذكر في خلافة أبي بكر عن شيوع ظاهرة التكافل بين أفراد المجتمع، ما رواه المناوي في "الدر المنضود" أنَّه "أصاب الناس قحطٌ في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلمَّا اشتدَّ بهم الأمر، جاءوا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقالوا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنَّ السماء لم تمطر، والأرض لم تنبت، وقد توقَّع الناس الهلاك، فما تصنع؟ فقال: انصرفوا واصبروا، فإنِّي أرجو الله ألَّا تمسوا حتى يفرج الله عنكم. فلمَّا خرجوا يتلقونها، فإذا هي ألف بعيرٍ موثوقة بُرًّا وزيتًا ودقيقًا، فأناخت بباب عثمان رضي الله عنه، فجعلها في داره، فجاء إليه التجار، فقال: ما ترون؟ قالوا: إنَّك لتعلم ما نُريد. فقال: كم تربحوني؟ قالوا: اللهم درهمين. قال: أعطيت زيادة على هذا. قالوا: أربعة. قال: أعطيت أكثر. قالوا: خمسة. قال: أعطيت أكثر. قالوا: ليس في المدينة تجار غيرنا، فمن الذي أعطاك؟ قال: إنَّ الله أعطاني بكلِّ درهمٍ عشرة دراهم، أعندكم زيادة؟ قالوا: لا. قال: أشهدكم الله تعالى أنِّي جعلتُ ما حملت العير، صدقة لله على الفقراء والمساكين"[6].
كما تصدَّق ملك البحرين المنذر بن ساوي العبدي -الذي أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم- بثلث ماله تكافلًا مع أصحاب الحاجة؛ فيُروى أنَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه كان قد حضر عنده في مرض موته، فقال له: يا عمرو، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل للمريض شيئًا من ماله؟ قال: نعم، الثلث. قال: ماذا أصنع به؟ قال: إن شئت تصدَّقت به على أقربائك، وإن شئت على المحاويج، وإن شئت جعلته صدقة من بعدك حبسًا محرمًا. فقال: إنِّي أكره أن أجعله كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ولكنِّي أتصدَّق به. ففعل، ومات في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه[7].
المصدر:
كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.
[1] انظر ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/213بتصرف.
[2] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/148.
[3] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/165. ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/376. ابن كثير: البداية والنهاية 6/360.
[4] البخاري: كتاب المغازي، باب وفد عبد القيس (4113)، وأبو داود (1068)، وابن خزيمة (1725)، والطبراني في الكبير (12957)، والبيهقي في السنن الكبرى (5393)، وأبو بكر الشيباني في الآحاد والمثاني (5393).
[5] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/165، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/376، وابن كثير: البداية والنهاية 6/360.
[6] ابن حجر الهيثمي: الدر المنضود ص66.
[7] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/165، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/376، وابن كثير: البداية والنهاية 6/360.
التعليقات
إرسال تعليقك