الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
لم يَجِد الإنسان نفسه وحيدًا في هذه الأرض؛ بل وجد غيره من البشر يسكن إلى جواره على الكوكب نفسه حتى آدم عليه السلام كانت معه امرأته، وسرعان ما أصبح له
منذ اللحظات الأولى للإنسان على هذه الأرض وهو يعيش ظروفًا صعبة، فلا بُدَّ من كَدٍّ وتعبٍ حتى يأكل ويشرب، ولا بُدَّ من جهدٍ ونَصَبٍ حتى يلبس ويسكن، ولا بُدَّ من حذرٍ وترقُّبٍ حتى يأمن ويطمئنَّ.. إنَّه الكفاح منذ اللحظة الأولى، وقد جرت سُنَّة الله عز وجل أنَّ السماء لا تُمطر ذهبًا ولا فضَّة، فكان لزامًا على الإنسان أن يكدح من أوَّل أيَّام الدنيا حتى آخرها، قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ( [الانشقاق: 6]. ولم يَجِد الإنسان نفسه وحيدًا في هذه الأرض؛ بل وجد غيره من البشر يسكن إلى جواره على الكوكب نفسه، حتى آدم عليه السلام كانت معه امرأته، وسرعان ما أصبح له ذريَّة، وكلٌّ منهم يبحث عمَّا يُصلح حياته، وله مصالح وطلبات؛ ومِنْ ثَمَّ كان على الإنسان أن يحرص على ما ينفعه، وهو يعلم أنَّ غيره يطمع الطمع نفسه، ويرجو الرجاء عينه.
وقد لاحظ الإنسان أنَّه على الرغم من اتِّفاقه مع مَنْ حوله من البشر في أشياء كثيرة؛ فإنَّه يختلف عنهم في أشياء كثيرةٍ كذلك، وأنَّ هذا الاختلاف ليس في الشكل والمظهر فقط، ولكن في العادات والسلوك؛ فالبيئات التي نشأ فيها البشر مختلفة، والظروف التي ترعرعوا فيها متباينة، وهي سُنَّةٌ ماضية.. قال سبحانه وتعالى: )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ( [هود: 118]. وهذا الاختلاف له مزاياه ومنافعه، ولكن في الوقت ذاته يحمل في داخله بذور فتنة؛ فكثيرٌ من البشر لا يَقْبَلُون المخالف لهم، وقد ينشأ صراعٌ وصدام، لا لشيءٍ إلَّا للاختلاف، وما زال الأبيض ينظر إلى الأسود نظرةً متوجِّسةً حتى لو كثر مال الأسود، أو عزَّ سلطانه.
ولاحظ الإنسان كذلك أنَّ قدرته محدودة، وإمكاناته لها نهاية، وأنَّه يستطيع أن يفعل أشياء بمهارة، ولكنَّه يفعل غيرها بصعوبة، وفي أمورٍ أخرى هو لا يستطيع أن يفعل شيئًا ألبتة، فعلم أنَّه خَلقٌ منقوصٌ غير كامل، وأنَّه مهما بلغت قوَّته، وزادت حدَّة ذكائه يحتاج إلى عونٍ من أخيه الإنسان، فكان لزامًا عليه أن يتعامل معه وأن يطلب ما عنده، فسلك البعض سبيل التودُّد والتلطُّف؛ ليحمل أخاه على مساعدته، وسلك آخرون سبيل القهر والسخرة؛ ليُجْبِرُوا بقيَّة البشر على خدمتهم، والجميع في النهاية يعلم أنَّه لن يعيش بمفرده على هذا الكوكب ولا يستطيعه.
ولاحظ الإنسان كذلك أنَّ الله عز وجل قد وزَّع الثروات على بقاع العالم المختلفة، وأنَّه يندر -بل يستحيل- أن تجد منطقةً من الأرض تحمل كلَّ خيرات الدنيا ولا تحتاج إلى غيرها؛ بل وجدنا أرضًا قد مُنِحت بترولًا ومعادن، ولكنَّها حُرمت ماءً وأشجارًا، ووجدنا مكانًا ساخنًا تنمو فيه نباتاتٌ معيَّنة، وآخر باردًا تنمو فيه نباتاتٌ أخرى، ووجدنا بيئةً تصلح لحيوانٍ ما، وبيئةً أخرى تصلح لغيره، ووجدنا في أماكن سحرَ الجمال في جبالها ووديانها، بينما سحر الجمال في أخرى يكون في بحارها وشواطئها، إنَّه تنوُّعٌ بديعٌ جعل الكلَّ في النهاية مضطرًّا إلى النظر إلى ما حوله من بيئاتٍ ومناطق؛ ليُكمل النقص الذي عنده في بيئته، ومرَّةً أخرى وجد الإنسان نفسه أمام طريقٍ من اثنين لا ثالث لهما.. إمَّا أن يتودَّد ويتلطَّف، وإمَّا أن يتجبَّر ويتسلَّط.
إنَّهما منهجان أصيلان رأيناهما في قصَّة البشريَّة..
- منهج التعارف لتحقيق المصلحة المشتركة للطرفين..
- ومنهج التصادم لتحقيق المصلحة الذاتيَّة على حساب مصالح الآخرين..
لا شكَّ أنَّ المنهج الأوَّل قاد إلى خيرٍ كثير، ونفع أممًا عديدة، ولا شكَّ كذلك أنَّ المنهج الثاني قاد إلى حروبٍ كثيرةٍ وكوارث مستطيرة.
وعقلاء العالم بحثوا في القضيَّة ومحَّصوها.. كيف السبيل إلى تعارفٍ ينفع الأرض ويُعمِّرها؟ وكيف السبيل إلى نبذ الصدام أو على الأقل تقليل حدَّته ووتيرته؟!
إنَّها معضلةٌ لا شكَّ..
ولعلَّنا لكي نصل إلى الإجابة، لا بُدَّ أن نبحث في قصَّة الإنسان من البداية، ثُمَّ بعد أخذ العبرة من التاريخ نقف على أرض الواقع، فنقرؤه ونُحَلِّله، وعندها قد نخرج بمنهجٍ يُصلح البشريَّة، ويُنْقِذها من دركات الهاوية!
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك