الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
لقد كان الإنسان منذ القدم يسعى حثيثًا للتوصل لآليَّات تُمكِّنه من التواصل والتقارب بينه وبين شركاء الإنسانيَّة، وقد بدأت تلك الآليَّات باختراع الكتابة
لقد كان الإنسان منذ القدم يسعى حثيثًا للتوصل لآليَّاتٍ تُمكِّنه من التواصل والتقارب بينه وبين من حوله، سواء أفراد أم شعوب أم حضارات، وكان من بين هذه الآليَّات الكثير من الأمور التي كان بعضها فطري غريزي، والبعض الآخر من صنعه لتقوية تلك الأواصر بينه وبين شركاء الإنسانيَّة، وقد بدأت تلك الآليَّات باختراع الكتابة قديمًا حتى وصلت إلى التقدُّم التكنولوجي حديثًا.
أولًا: أثر الكتابة في تقارب الشعوب
هل بالفعل كان لاختراع الكتابة أيُّ أثرٍ في تقارب الشعوب وتعارفها؟ وكيف مثَّلت الكتابة نوعًا جديدًا ومهمًّا في مسيرة التواصل الإنساني؟!
إنَّ الكتابة باختصار لصيقةٌ بتطوُّر الفكر الإنساني بكامله، ولا شَكَّ في أنَّ عمليَّة التدوين (التسجيل أو الكتابة) مرتبطة إلى حدٍّ كبيرٍ باستقرار الإنسان، وإنتاجه للقوت، وتخزين فائض إنتاجه، والمبادلة عليه، أو التجارة به؛ فالكتابة إذًا نوعٌ من التواصل الجديد بين الأمم والحضارات المختلفة لم يعهده الإنسان من قبل، وبالطبع قد قام الإنسان منذ عصور ما قبل التاريخ بتنفيذ الأشكال والصور لأغراضٍ أخرى غير اقتصاديَّة كالعبادة والسحر، أو لأغراضٍ جماليَّة، وإن كان لذلك كلِّه أو بعضه مساسٌ بالإنتاج الإنساني، المهمُّ أنَّ الإنسان كتب -كما يُقرِّر دونالد جاكسون- لضرورةٍ معيشيَّةٍ اقتصاديَّةٍ قبل كلِّ شيء، وضرورةٍ اجتماعيَّةٍ تمثَّلت في التواصل والتقارب والتعارف مع الآخر، والمسلَّم به حتى الآن أنَّ مطالع الكتابة ظهرت في بلاد الرافدين أو الهلال الخصيب إجمالًا وفي مصر، وكان ذلك بسبب المناخ والبيئة الزراعيَّة الصالحة التي ساعدت باكرًا على الاستقرار والإنتاج، ومن ثَمَّ الكتابة.
وقد تمَّ ذلك في كلٍّ من المنطقتين بشكلٍ مستقل، ولكنَّ الكتابة فيهما لم تنشأ فجأة، أو بمعزلٍ عن تراكم خبرات السنين، أو تطوُّر حاجات المجتمع الإنساني وتفاعل الأقوام والشعوب فيما بينها.
ومن المهم أن نعرف أنَّه تفصل ثلاثون ألف سنةٍ أو أكثر بقليلٍ بين رسومات الكهوف في "لاسو" وأتلاميرا في جنوب أوربَّا وبين الرسومات الجداريَّة في مصر، وأنَّنا بصعوبة نعرف ما هي الخطوة التي ربطت سرد القصص عن طريق الصور وسردها بواسطة الرموز، غير أنَّنا نعلم ما هي الدوافع التي حدت بالإنسان القديم إلى رسم فيل الماموث والأيل والثور الأميركي على جدران الملاجئ التي عاش فيها "قصَّة صيدها"؛ فقد حفر الإنسان القديم خطوط هذه الرسوم على العظام بواسطة حجارة مدبَّبة، كما رسمها ولوَّنها على جدران الكهوف بواسطة الفحم وأرياش مصنوعة من عيدان وأغصان الأشجار، وصنع الألوان من أصبغة ترابية سحقها ومزجها بشحم الحيوانات.
إذًا يعتمدُ علماء الأركيولوجيا والتاريخ على الآثار التي خلفتها الحضارات للإجابة على الأسئلة السابقة، فقد كانت الإجابة الشائعة في الأوساط العلميَّة -على ما يُقرِّر العالم الكرواتي ألكسندر ستيبتشفتش- أنَّ السومريِّين هم أوَّل الشعوب التي قامت بالتعبير عن فكرها من خلال كتابةٍ تصويريَّةٍ وُجدت على رِقَمٍ طينيَّةٍ صغيرةٍ تعود إلى منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد، وقد يكون السومريُّون بدءوا الكتابة قبل هذا التاريخ على مواد أخرى ذات تركيبةٍ عضويَّة، وأن تكون هذه المواد قد تلاشت وتحلَّلت[1].
ومن المحتمل -أيضًا- ألَّا يكون السومريُّون هم أوَّل من توصَّل إلى تطوير الكتابة وسيلةً جديدةً للتواصل؛ أي أن يكونوا قد أخذوا هذا الاختراع العظيم عن شعبٍ آخر غير معروفٍ كان يعيش قبلهم في الجزء الجنوبي من بلاد الرافدين، وربَّما تجدر الإشارة إلى الفرضيَّة التي تقول: إنَّ السومريِّين قد تعلَّموا الكتابة من أحد الشعوب التي كانت تقطن على ضفاف نهر الدانوب، ولكنَّهم قاموا بدورهم بتطوير هذه الكتابة، وقد أصبحت هذه الفرضيَّة مقبولة أكثر منذ أن عُثِرَ في عام 1961م على الرِّقَمِ الطينيَّة التي تعود إلى العصر الحجري الجديد في منطقة تارتاريا برومانيا؛ فالتَّشابه بين الإشارات الواردة في هذه الألواح وبين أقدم الكتابات التي خلفها السومريُّون واضحٌ للغاية؛ ولذلك فقد استخلص علماء الآثار أنَّ هذه الإشارات، بالإضافة إلى الكثير من أمثالها التي اكتُشفت قبل عام 1961م في ضفاف نهر الدانوب، قد نشأت تحت تأثير الحضارات الكبيرة للشرق الأوسط إلَّا إنَّ نتائج التحاليل الراديو كربونيَّة قد فاجأت وحيَّرت الخبراء؛ لأنَّها أوضحت أنَّ تلك الإشارات من ضفاف نهر الدانوب أقدم بمئات السنين من أقدم الرِّقَم السومريَّة[2].
فهذا التَّشابه الواضح بين الكتابة السومريَّة وكتابة تارتاريا في شرق أوربَّا يُمكن أن تُعبِّر بكلِّ وضوحٍ عن أنَّ التواصل الإنساني والتعارف عن طريق الكتابة في تلك القرون الموغلة في القدم- قد أتى بنتائج إيجابيَّة تمثَّلت في التقاء شعبين متباعدين جغرافيًّا، ويُمكن أن نقيس على هذا المثال أمثلةً أخرى، ما يُؤكِّد على أهميَّة الكتابة في ارتقاء الإنسان في تعامله مع الآخر، وتواصله معه، ومن ثَمَّ كانت الكتابة عاملًا مهمًّا من عوامل التقارب والتعارف الحضاري بين الأمم والشعوب.
ثانيًا: دور التكنولوجيا الحديثة
لقد أسهم التقدُّم العلمي والتكنولوجي بدوره الفاعل في التقارب والتعارف بين الأمم؛ إذ حملت الأعوام العشرون الماضية ثورةً تقنيَّةً كبيرة كان لها دورها الكبير في تقارب الشعوب وتعارفها، وقامت ثورةٌ في الأقمار الاصطناعيَّة التي أتاحت للعالم أن يتعرَّف على ثقافاته وتنوُّعاته البشريَّة والعلميَّة الكثيرة، فضلًا عن ثورةٍ أخرى هي الإنترنت التي جعلت العالم قريةً بل أسرةً صغيرة، يتعارف كلٌّ منَّا على الآخر بيسرٍ وسهولة.
ولقد باتت هذه التكنولوجيا الحديثة نوعًا مهمًّا من أنواع المصلحة المشتركة، التي يأتي في مقدِّمتها "المعلوماتيَّة"، فهناك كثيرٌ من المواقع التي تُتيح لنا التوصُّل إلى المعلومات المجهولة، مثل موقع "الموسوعة البريطانيَّة"، وموقع "ويكيبيديا" الذي يُوضِّح لنا بصورةٍ سريعةٍ التعرُّف على الدول والملوك والشخصيَّات العامَّة والأديان والعلوم، فضلًا عن المواقع التي تُتيحها كلُّ دولةٍ عن نفسها وثقافتها وأهمِّ مزاراتها وجامعاتها والمجالات المتفوِّقة فيها، كلُّ هذا يُتَوَصَّل إليه بطرقٍ عدَّةٍ أشهرها عملاق البحث في الشبكة العنكبوتيَّة ونقصد موقع (جوجل)، وهو محرِّكٌ بحثيٌّ يطوف بك في أرجاء العالم في طرفة عين، وغير ذلك ممَّا تُتيحه الشبكة من وسائل تُعين على التعرُّف، مثل البريد الإلكتروني والقوائم البريديَّة وبرامج المحادثة الشهيرة مثل "ماسنجر" و"جوجل توك" و"بال توك"، وغيرها من البرامج الأخرى. وتُوجد برامج أخرى رائعة تُتيح لنا الاتصال هاتفيًّا بأيِّ فردٍ في العالم، مثل برنامج "ويب فون".
ومن الرائع أنَّ الإنترنت يُتيح لنا عقد المؤتمرات العالميَّة من خلاله، ومتابعة الأحداث العالمية لحظةً بلحظة من خلال المواقع الإخباريَّة العالميَّة مثل نيويورك تايمز، نيوزويك، واشنطن بوست، وسي إن إن، بي بي سي..، ومن اللافت أنَّ خدمة التعليم عن بُعد أضحت موجودة الآن عن طريق الإنترنت، فيستطيع الباحث في مصر -على سبيل المثال- أن ينال شهادةً معتمدةً من جامعةٍ في الولايات المتحدة عن طريق الإنترنت، وذلك عن طريق حضور المحاضرات التي تنزل تباعًا على الشبكة؛ فَمِنْ خلال هذه الشبكة الرائعة يُوفِّر الباحث آلاف الأميال والجهد والمال، ليأخذ من العلم حاجته في نهاية المطاف وهو جالسٌ في بيته لا يبرحه[3]!
ولا شَكَّ في أنَّنا لن نستطيع في هذا المقام الضيِّق أن نُحيط علمًا بالوسائل الكثيرة التي تُعين على تعارف الشعوب وتقاربها، وهذه الغزارة في الوسائل تُعدُّ حجَّةً علينا -نحن البشر- في ضرورة البحث عن الآخر والتقارب معه، ولعلَّ أنجح الدول العالميَّة هي من استطاعت أن تُطبِّق هذه الوسائل على أكمل وجهٍ وأفضله للتقارب مع الآخر الذي قد يبعد عنها آلاف الأميال.
ومع كلِّ آليَّات التعارف والتقارب العديدة، إلَّا إنَّنا نُؤمن أنَّ التصادم أمرٌ حتميُّ الحدوث؛ ذلك إذا فشل الإنسان في التعارف، واستعاض عن المصلحة المشتركة بالتصادم في سبيل الحصول على المصلحة الذاتية، مجانبًا لمصالح الآخرين.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك