الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إن حضارات العالم القديم كمصر وبابل وآشور وفارس واليونان وروما، لم تكن مجرد وحدات ثقافية منعزلة؛ بل كانت في الواقع امتزاجًا وتطوُّرًا لخليطٍ معقَّدٍ من
بينما تكشف البحوث الأثريَّة النقاب عن الماضي الإنساني السحيق، نجد المناطق المتباينة التي تبدو كأنَّها كانت في عزلةٍ عن العالم القديم تميل إلى الاندماج فيما يُشبه الوحدة، وهي ظاهرةٌ يزداد تلاميذ تاريخ الثقافة إدراكًا لها، ومنذ عشرات السنين جرت العادة على اعتبار الشعوب الكبيرة في العالم القديم: كـ مصر وبابل وآشور وفارس واليونان وروما، وحدات ثقافيَّة لم تأخذ إلَّا قدرًا يسيرًا من الثقافات الأخرى التي سبقتها أو عاصرتها، ولكنَّا نعلم الآن أنَّ تلك الثقافات كانت في الواقع امتزاجًا وتطوُّرًا لخليطٍ معقَّدٍ من السمات التي أسهمت هذه الثقافات في تكوينها، وكلُّ ثقافةٍ من هذه الثقافات ترجع أصولها إلى ثقافةٍ أقدم، كما استعارت كلٌّ منها نصيبًا وافرًا من جارتها، ولم يحدث أن ظلَّ أيُّ تقدُّمٍ عمرانيٍّ أو ازدهارٍ في الحياة الاجتماعيَّة أو فكرةٍ أخلاقيَّةٍ في عزلة، وما هذا إلَّا دليلٌ على أثر التعارف والامتزاج بين الشعوب الأولى في تكوين الحضارات الكبرى[1].
وكان لمدينة بابل في عهد الآكديِّين مكانةٌ كبرى نتيجة الامتزاج الحضاري والثقافي بين الشعوب المختلفة، وكان الذي أدَّى إلى وجود مثل هذا الامتزاج موقع بابل المميَّز؛ فهي تقع من جهةٍ على الطريق النهري الكبير الذي يُشكله نهر الفرات، وكانت تربط بلاد بابل بسوريا وبالبحر الأبيض المتوسط، وكانت تتصل من جهةٍ أخرى -بفضل تلك الطريق- بآسيا الصغرى وببلاد فارس، وتشرف على الطريق التي توصل إلى كرمنشاه عبر جبال زغروس؛ فقد كانت تقع في وسط الحوض الجنوبي لنهرين كبيرين يُؤلِّفان بلاد ما بين النهرين، وبنيت على الضفَّة اليسرى للفرات الذي يحميها من الغرب في أقرب نقطةٍ تفصله عن نهر دجلة الذي كان يقيها من جهة الشرق، وكان لهذا الموضع المميَّز أثرٌ كبيرٌ في ازدهار حضارتها؛ نتيجة التقاء كثيرٍ من الشعوب المتنوِّعة فيها[2].
ولقد امتازت منطقة غرب وجنوب غرب آسيا بوجود المستنقعات والغابات، وكانت السيطرة على هذه الغابات إنجازًا اجتماعيًّا أكثر منه تكنولوجيًّا يقوم على المصلحة المشتركة، ومن ثَمَّ التعارف والتعايش، "وفي الواقع فإنَّ كلَّ الإنجازات التكنولوجيَّة التي تمَّت على يد البشريَّة كانت إنجازات اجتماعيَّة أيضًا؛ فالإنسان كائنٌ اجتماعي... ويبدو أنَّ محدوديَّة الإنسان الاجتماعيَّة هي التي كانت تحدُّ من تكنولوجيَّته غير المحدودة؛ فالاجتماعيَّة هي الشرط اللازم لصنع حتى أبسط الأدوات واستعمالها... وكان على الإنسان في سبيل استغلال هبة الرافدين أن يُطبِّق هذه التقنية التي حذقها في الري الصناعي على مقياس كبيرٍ يتطلَّب تعاونًا بين عددٍ من الناس أكبر بكثيرٍ من أيِّ عددٍ من الناس تعاونوا في السابق في أيِّ مشروعٍ كان، وهذا الفرق في مقياس التعاون لم يكن مساويًا للفرق في الدرجة فقط بل كان فرقًا في النوع، وقد كانت هذه ثورة اجتماعيَّة ولم تكن ثورة تكنولوجيَّة"[3].
إذًا كان لانتقال الشعوب من مكانٍ لآخر أثره الكبير في التقارب والتعارف، ولا يُمكن أن نغضَّ الطرف، أو نتجاهل الآثار الإيجابيَّة التي ترتبت على حدوث مثل هذا التعارف؛ كازدهار الحضارة، وقيام الدولة، والتنوُّع العرقي، واتِّحاد اللغة، والسعي نحو القوَّة والتقدُّم على الآخرين، وكلُّ ذلك -بلا ريب- يندرج تحت مفهوم المصلحة المشتركة، ويُمكن أن نلحظ هذا بوضوحٍ في تاريخ المدنيَّات القديمة، كما في الحضارة المصريَّة أو البابليَّة أو اليونانيَّة.
فالبيئة والبحث عن الموقع الجغرافي والمناخي الجيِّد كان السبب الرئيس في تعارف الشعوب وتقاربها؛ فهي العوامل الأولى المولِّدة لمبدأ المصلحة المشتركة، ولقد عقد المفكِّر العالمي جارودي فصلًا رائعًا في كتابه (حوار الحضارات) أسماه اللقاءات القديمة، ويقصد تاريخ العلاقات بين الحضارات الموغلة في القدم، وخلُص في هذا الفصل إلى جملةٍ من النتائج المهمَّة، منها أنَّ الأرض بتنوُّعاتها الجغرافيَّة والمناخيَّة والبيئيَّة كانت العامل الأساس في تعارف الإنسان بالآخر، وأنَّ هذا التنوُّع قد أدَّى عن طريق التلاقي والتعارف إلى التكامل بين البشر، والوحدة بمعناها الأعمق؛ أي وحدة تقبلُ بالتنوُّع كالأرض تمامًا[4].
ولذلك كان التعارف الثقافي والعلمي من أبرز ما سجلته المؤلَّفات التاريخيَّة في كلِّ الأمم؛ إذ إنَّ التاريخ شاهدٌ على علاقة الإنسان بالإنسان على كلِّ المستويات، ومنها بالطبع الأبستمولوجي المعرفي الذي ينسى الإنسان في سبيل التحصُّل عليه كلَّ حدٍّ فاصلٍ بينه وبين بُغيته.
هذه الأدلة التاريخيَّة -بالإضافة إلى المؤلَّفات التي تتناول علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بمختلف فروعهما وأقسامهما- تُثبت أنَّ التعارف غريزةٌ إنسانيَّةٌ متأصِّلةٌ لدى الإنسان أيًّا كان جنسه وبيئته، وأنَّ الأصل في تعامل البشر فيما بينهم يقوم على سمةٍ اجتماعيَّةٍ غاية في الروعة والإبهار لا نجدها في غيره من الكائنات الحيَّة الأخرى، هذه السمة هي التعارف.
فهل كانت الحضارة الإغريقيَّة القديمة -التي هي أصل الفكر والفنون في أوربَّا والغرب حتى يومنا هذا- هي حضارةٌ وحدويَّةٌ ألهمت نفسها بنفسها فأخرجت ما تفخر به أوربَّا اليوم؟!
إنَّ التاريخ ينفي مثل هذه المزاعم، بل يُؤكِّد أنَّ الحضارات العالميَّة ومنها الإغريقيَّة ما هي إلَّا سلسلة من التعارف المطرد بينها وبين الحضارات الأخرى؛ فالثقافة إذًا نتيجة طبيعيَّة للتعارف والتقارب، فأصل الثقافة الإغريقيَّة الذي ازدهر أوَّل ما ازدهر في الفلسفة الإغريقيَّة التي وُلدت في آسيا الصغرى مع "تاليس الميلي" و"إنكسيمندر" و"إنكسمين" و"كزيتوفون" و"هرقليط" و"ديمقريط" من الفلاسفة الذين سبقوا "سقراط" حملوا جميعهم الطابع الآسيوي[5].
وثمَّة ينبوع آخر لتلك الحضارة نجد جذوره تتراوح بين "فينيقية" و"كريت" و"مصر"؛ لقد كان الفلاسفة والمؤرِّخون اليونان يُعجبون بمصر إعجابًا عظيمًا، وتدين آراء أفلاطون لهذه البلدان بالشيء الكثير؛ لقد كان أفلاطون يحلم بدولةٍ ذات استقرارٍ سياسي، بينما كان يعيش في ظلِّ ديمقراطيَّةٍ تحفل بالحركة، وكانت "مصر" أنموذجه، وقد ألهمت مصر الحضارة الإغريقيَّة أيَّما إلهام، وإذا قارنَّا فن اليونان في القرن السادس، قبل العصر المدرسي بالفنِّ المصري لاحظنا أنَّ النحت الإغريقي كان يُشبه كثيرًا النحت المصري، ونحن نجد مثل هذا التشابه في الفلسفة وفي السياسة أيضًا، فهل خرج هذا التشابه إلَّا من قبيل تعارف الأغارقة على الحضارة المصريَّة والفينيقيَّة القديمة؟ نعم، هو ذاك[6].
وكان من الطبيعي أن تهتمَّ الحضارة الإسلاميَّة بالآخر، ونبع هذا الاهتمام من التشريع الإسلامي ذاته؛ إذ حضارةُ الإسلام نتيجةٌ تطبيقيَّةٌ لتشريعاته التي حرصت على التعارف والتقارب، وكانت من جملة الوسائل التي اتَّبعها المسلمون في تقريب ثقافة الآخر والتعرُّف عليه من قربٍ وبصورةٍ صحيحة، أن اهتمَّ الخلفاء المسلمون بالميراث العلمي للأمم الأخرى، وبدأت نهضةٌ إسلاميَّةٌ قويَّة، وحركةٌ علميَّةٌ راقية، أنفقت عليها مؤسَّسة الخلافة الإسلاميَّة الملايين من الأموال، هذه الحركة تمثَّلت في ترجمة ونقل ثقافة الآخر، واهتمَّ المسلمون بترجمة المؤلَّفات اليونانيَّة خاصةً في مجالي الفلسفة والعلم التجريبي، وكذلك المؤلَّفات الهنديَّة والفارسيَّة وغيرها، ممَّا كان له دوره في التعريف بهذه الأمم لأبناء الحضارة الإسلاميَّة، ومن ثَمَّ فقد أعانت هذه المعرفة المسلمين في حوارهم مع أبناء هذه الأمم، وكان لها أثرها في التقابل والتقارب، حتى غدت البلاد الإسلاميَّة أرضًا خصبةً لتقابل أبناء الأمم الأخرى، فتلافى المسلمون بسبب ذلك كثيرًا من المشاكل، وصدق من قال: الإنسان عدوُّ ما يجهل[7].
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك