الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إنَّ هذا المشترك الأسمى هو أهمُّ ما يُميِّز الإنسان، وأغلى ما يمتلك، وأفضل شيءٍ يُعطيه "هويَّة" معيَّنة، وهو أقوى رباط بين اثنين أو بين شعبين، إنَّه
إن المشترك الأسمى هو ما أحسب أنَّه أهمُّ ما يُميِّز الإنسان، وأغلى ما يمتلك، وأفضل شيءٍ يُعطيه "هويَّة" معيَّنة، وهو أقوى رباط بين اثنين أو بين شعبين، وهو يتجاوز حدود الزمان والمكان، هو "العقيدة"؛ حيث يشعر أبناء العقيدة الواحدة بالانتماء إلى أبناء عقيدتهم الذين عاشوا قبلهم بألف عام، ويشعرون بالانتماء لأبناء عقيدتهم الذين ينتسبون إلى أعراقٍ مختلفة، ويشعرون كذلك بالانتماء لأبناء عقيدتهم الذين يعيشون في أرضٍ بعيدة، أو في ظروفٍ اقتصاديَّةٍ مختلفة تمام الاختلاف.. إنَّه الرابط الأسمى الذي لا يعلوه رابط، خاصَّةً في الأوساط التي تشهد صحوةً دينيَّة، وعودةً إلى الأصول.
مرَّ مصعب بن عمير رضي الله عنه يوم بدر بأخيه أبي عزيز بن عمير بن هاشم في الأسارى لأحد الأنصار، فقال: شُدَّ يديك به؛ فإن أُمَّه ذات متاعٍ لعلَّها أن تفتديه منك[1].
ما قاله مصعب بن عمير رضي الله عنه في هذه القصَّة ليس غريبًا ولا عجيبًا، فمن أجل العقيدة يترك الناس أهلهم وعشائرهم، ومن أجلها يتركون ديارهم وأوطانهم، ومن أجلها يدفعون أموالهم وثرواتهم، فلا غرو أن تكون أسمى ما يمتلك الإنسان؛ ولذلك أطلقتُ على هذه العقيدة اسم "المشترك الأسمى".
والعقيدة هي أصعب ما يُمكن أن يُغَيِّره الإنسان؛ فقد يُغَيِّر الإنسان عمله أو بلده أو حتى شكله، لكن لا يقبل بتغيير عقيدته إلَّا في ظروفٍ ضيِّقةٍ جدًّا، وعادة ما يكون هذا بعد تغييرٍ كاملٍ في قناعات الإنسان.
والعقيدة مشتركٌ بين كلِّ البشر، بمعنى أنَّ كلَّ إنسانٍ لا بُدَّ أن يكون له عقيدة، نعم تختلف العقيدة من شعبٍ إلى شعب لكنَّها موجودةٌ في كلِّ الأحوال، وليس هناك إنسانٌ بلا عقيدة، حتى الذين ألحدوا وأنكروا وجود إله لهذا الكون يعتقدون ذلك الأمر: أنَّه لا إله. ولهم تصوُّراتٌ وفلسفاتٌ تُفسِّر لهم ما يعتقدونه.. وهم يتعصَّبون جدًّا لمعتقدهم هذا، ويشعرون أنَّهم على حقٍّ وغيرهم على باطل.. والحاصل في النهاية أنَّ لكلِّ إنسانٍ –أيًّا كان هذا الإنسان- عقيدةً ودينًا، حتى لو كانت هذه العقيدة هي اللا عقيدة، وإذا كان هذا الدين هو اللا دين! وقد قال الله عز وجل في القرآن الكريم: )لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا( [المائدة: 48].
ويُمكننا أن نُقَسِّم عقائد العالم إلى مجموعاتٍ ضخمةٍ تُبرز لنا أهميَّة هذا المشترك الأسمى، وقدر ما يجمعه من بشر..
هناك مجموعة الأديان السماوية، وهي تشمل الإسلام والنصرانية واليهودية، وهؤلاء يتجاوزون نصف سكَّان الأرض (54%)، وهم يشتركون في أمورٍ كثيرة، وإن كانت هناك -بلا شكٍّ- اختلافات جذريَّة بين العقائد السماويَّة الثلاثة، لكنَّهم في النهاية يجتمعون في أكثر من مبدأ، وسنُفَصِّل هذا لاحقًا -بإذن الله- لكن المهمُّ هنا أن نُشير إلى أنَّ هذه الأفكار المشتركة بين هذه الأديان الثلاثة يُمكن أن تجمع نصف سكَّان الأرض على شيءٍ واحد! وهذا قد لا يحلم به مصلح أو فيلسوف، لكنَّه حقيقةٌ واضحة.
وهناك مجموعةٌ ثانيةٌ من الأديان التي تُعرف بــ الأديان الوضعية، وهم -أيضًا- أعدادٌ كبيرة، ولعلَّهم يُمثِّلون ما يُقارب ثلث سكَّان العالم (30%)، ويأتي في مقدِّمتهم أتباع الديانة الهندوسيَّة حيث يُمثِّلون حوالي 14% من سكَّان العالم[2]، ثُمَّ تأتي دياناتٌ أخرى كالبوذيَّة والشنتويَّة وأديانٌ كثيرةٌ محليَّةٌ في كثيرٍ من أقطار العالم.
أمَّا المجموعة الثالثة والأخيرة فهي مجموعة اللادينيِّين أو الملاحدة الذين يُنكرون وجود إلهٍ بالكليَّة، وهؤلاء يقتربون من خمس سكان العالم (16%)، أو لعلَّهم يزيدون؛ لأنَّ كثيرًا ممَّن يُحسب على النصرانيَّة في أوربَّا وأميركا هو في واقع الأمر ملحد، ولا يعترف بأيِّ دين.
المهمُّ أنَّنا وجدنا أنَّ البشر جميعًا "يشتركون" في أنَّهم يعتقدون اعتقادًا ما في قضيَّة "الإله".. مَنْ هو؟ وما صفاته؟ وكيف نعبده؟ وماذا يُريد منَّا؟ كما أنَّ هناك عددًا كبيرًا من البشر "يعتقدون" في عدم وجود إله.
ماذا يُمكن أن نفعل بعد أن عرفنا هذا المشترك الأسمى؟!
إنَّه من الثابت حقًّا أنَّ تغيير جزئيَّةٍ في العقيدة أمرٌ صعبٌ للغاية، بل المفترض أنَّه مستحيل؛ فأصحاب الأديان -سواءٌ السماويَّة أو الوضعيَّة- يعتقدون أنَّ هذه العقائد والتشريعات هي من عند الإله، وبالتالي ليس هناك مجالٌ لتغييرها، ولا نملك ذلك، ولا نقدر عليه؛ ومن هنا فليس هناك معنى أن نسعى إلى فكرة الالتقاء في منتصف الطريق، وليس هناك معنى لِمَا يُسَمَّى بوحدة الأديان، أو دمج الأديان؛ لأنَّ هذا يعني تكوين عقيدةٍ جديدةٍ لن يرضى عنها الجميع، كما أنَّنا لا نستطيع أن نلتقي في منتصف الطريق مع الذين يُنكرون وجود الإله، ويرفضون مبدأ الدين من الأساس؛ فالذي يُؤمن بالإسلام أو النصرانيَّة أو اليهوديَّة أو البوذيَّة لن يقبل مبادئ الملحد العقائديَّة، والملحد يرى كلَّ أصحاب الأديان يعيشون في وهمٍ كبير؛ ومن ثَمَّ فالالتقاء في منتصف الطريق -أيضًا- مستحيل.
فما الحلُّ؟!
هل أصبح الصدام حتميًّا هكذا؟!
أبدًا..
إنَّ الحلَّ الأمثل هو أن "يقنع" كلُّ البشر أنَّ العنف والجبر لن يُغيِّر من عقيدة إنسان، بل سيقود إلى دمارٍ وخراب، ومن هنا جاء قول الله عز وجل في القرآن الكريم: )لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( [البقرة: 256]، وجاء كذلك قوله سبحانه وتعالى: )فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ( [الكهف: 29]، الذي يُعلن عن اعتناق عقيدةٍ معيَّنةٍ تحت سيف القهر، ونتيجة ضغوط الإكراه ليس في الحقيقة معتنقًا لهذه العقيدة الإكراهيَّة، إنَّما يعتقد عقيدته الأصليَّة في السرِّ، بل لعلَّه ازداد تمسُّكًا بها، وسينقلب لا محالةً إلى قنبلةٍ موقوتةٍ تنتظر فرصة الانفجار.
إنَّ الحلَّ الأمثل حقيقةً أن نلتزم بالتوجيه القرآني العميق، الذي قال فيه الله عز وجل: )قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ( [الكافرون: 1-6].
ما أعمق هذا التوجيه..
إنَّه خطابٌ في منتهى الوضوح..
أنا سأظلُّ عابدًا ما أعبد..
وأنتم لكم مطلق الحريَّة أن تعبدوا ما تُريدون..
لكم دينكم ولي دين..
ولست مع مَنْ يقول: إنَّ هذه السورة كانت تُناسب مرحلةً معيَّنةً كان المسلمون فيها ضعفاء؛ بل إنَّني أجدها منهج حياةٍ دائمًا، ويا ليتنا نلتزم به في كلِّ الأزمان، فنحن لسنا مطالبين بإجبار الناس على تغيير عقائدهم، بل على العكس، فأنا أرى أنَّ هذا المنهج هو -حقيقةً- من روائع الإسلام، وهو من الأشياء التي نفخر أن نُقَدِّمها للبشريَّة.
وليس من قبيل المصادفة أنَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّمنا أن نُكثر من ترديد هذه السورة خاصَّةً "سورة الكافرون" في أوقاتٍ كثيرةٍ من يومنا، ومن حياتنا، فكان يقولها صلى الله عليه وسلم في أذكار الصباح والمساء[3]، وكان من سُنَّته أن يقرأ بها في صلاة الفجر "سُنَّة صلاة الصبح"[4]، وكان يقرؤها في سُنَّة المغرب[5]، وكان يقرؤها في الركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام بعد الطواف في العمرة أو الحج[6]، وكان يقرؤها في ظروف أخرى كثيرة.
إنها إعلانٌ واضح رائع..
يقول فيه المسلم يوميًّا: أنا متميزٌ عن غيري ولي عقيدتي التي أعتزُّ بها. وفي الوقت نفسه يقول: أنا محترِمٌ لغيري متعايشٌ معه، وأقبل أن يعبد ما يعبد، وأن يعتقد فيما يُريد أن يعتقد.
ولكن هل يعني هذا ألَّا يدعو أحد إلى عقيدته؟!
أبدًا.. لا يعني هذا الكلام سكوت الناس عن التعريف بدينهم.. بل هو واجبٌ عند معظم أتباع الديانات أن يَصِلُوا بعقيدتهم إلى العالم أجمع.. فما العمل؟
العمل هو الحوار الهادئ اللطيف الذي يعرض فيه كلُّ طرفٍ بنود عقيدته في سلاسةٍ وبساطة، ولْنَتْرُك الناس يختارون ما يُريدون، فليس هناك وصيٌّ على أحد..
ويقول الله عز وجل في هذا الصدد: )وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( [العنكبوت: 46]. فهو هنا لا يطلب المجادلة "بالحسنى" فقط، إنَّما يطلب المجادلة بالتي هي "أحسن"، بمعنى أنَّه كلَّما تبدَّت لك طريقةٌ ألطف وأرقُّ في الحوار فعليك بها، ولنترك الطرق الأقلَّ لطفًا أو رقَّة، فضلًا عن النزاع والصدام.
وما البديل عن المجادلة بالتي هي أحسن؟
وما البديل عن الحوار الهادئ اللطيف؟!
إنها الحرب التي لا تنتهي، والدمار الذي ليس مثله دمار!
إنَّ حروب العقيدة هي أشرس حروب الدنيا، وأشدها دمويَّة.. لأنَّ الإنسان ليس عنده مانعٌ أن يفقد حياته في سبيل عقيدته، بل إنَّ الموت في سبيل العقيدة غايةٌ عند كثيرٍ من أتباع الديانات.. وبالتالي فموت بعض الأفراد ليس نهاية الحرب، إنَّما الحرب لا تتوقف إلَّا بالفناء! ولذلك على العقلاء في العالم تجنُّب الحروب العقائديَّة قدر ما يستطيعون، فلا يُكره أحدٌ أحدًا على تغيير دينه، أو تبديل عقيدته؛ لأنَّ الطرف الذي أُكْرِه سيكون له كامل الحقِّ في الزَّوْدِ عن عقيدته في هذه الحالة، ولن تتوقَّف الحرب أبدًا.
ولهذا فإنَّ مسعري الحروب كثيرًا ما يضغطون على هذا الوتر، فيُحرِّكون الشعوب بعامل الدين والعقيدة؛ لكي يضمنوا استمراريَّة الحرب لمصالحهم الخاصَّة، بينما تكون الحرب في الحقيقة أبعد ما تكون عن الدين، ولعلِّي لا أبالغ إن قلتُ: إنَّ نسبة الحروب الدينيَّة العقائديَّة الخالصة في الدنيا قليلةٌ جدًّا، وإنَّ معظم الحروب كانت لأهدافٍ أخرى -سنتعرَّض لها في نظريَّتنا بإذن الله- ومع ذلك فالذي يُعْلَن في الظاهر أسباب دينيَّة لا لشيءٍ إلَّا لحشد الشعوب وقبول التضحيَّات.
لكل ما سبق فإنني أدعو العالم في هذه النظريَّة إلى أمرين يبدوان وكأنَّهما متناقضان! وهما ليسا كذلك..
أمَّا الأمر الأول: فهو نداء إلى كلِّ شعوب العالم أن تتوحَّد في المقام الأوَّل على أساس عقيدتها، فهذا أقوى رباط يربط بين شعبين، ولو فعلنا ذلك لتكوَّنت في العالم تكتُّلات محدودة، وسيكون بين أفراد كلِّ تكتُّلٍ علاقةٌ قويَّة، متحابَّة تُقَلِّل جدًّا من وتيرة الحرب والنزاع داخل التكتُّل الواحد.
ولو أخذنا على سبيل المثال الكتلة الإسلاميَّة، فإنَّنا نتكلم عن ما يقرب من مليار ونصف مليار إنسان، وهؤلاء إذا ارتبطوا على أساس العقيدة لتوحَّدوا وَحدةً لا يُحَقِّقها أيُّ عاملٍ آخر من عوامل الوحدة المتعارف عليها بين الناس كعوامل الأرض والعرق.. وغير ذلك، ولقلَّتْ بذلك الصراعات داخل الكتلة الإسلاميَّة الواحدة -وهي للأسف كثيرة- ونظرةٌ على خريطة العالم الإسلامي ستوضِّح أن هناك صراعًا بين معظم الدول المتجاورة في هذه الكتلة، مع أنَّهم ينتمون إلى عقيدة واحدة؛ ذلك لأنَّهم لا يضعون العقيدة في أُولَى أولويَّاتهم، ولا ينظرون إليها نظرة "المشترك الأسمى"، ولهذا نجد صراعًا جزائريًّا مغربيًّا، وليبيًّا تشاديًّا، وعراقيًّا كويتيًّا، وتركيًّا كرديًّا، وسوريًّا لبنانيًّا.. وهكذا، مع أنَّ الجميع ينتمون إلى أُمَّةٍ واحدة، وعقيدةٍ واحدة.
وما قلناه عن الكتلة الإسلاميَّة نقوله عن الكتلة النصرانيَّة -كذلك- فالحرب العالميَّة الثانية -مثلًا- كانت كلُّها بين دول الكتلة النصرانيَّة باستثناء اليابان والاتحاد السوفيتي، فالأولى بوذيَّة شنتويَّة، والثانية ملحدة، وإذا تجمَّع الغرب تحت عقيدةٍ واحدةٍ لقلَّت حروبه بشكلٍ لافت، وهكذا في كلِّ بلاد العالم.
ولكن هناك خطورةً كبيرةً وراء هذه الفكرة.. وهي أنَّه في حالة حدوث صدامٍ بين كتلةٍ ضخمةٍ كهذه وكتلةٍ أخرى فإنَّ الحرب ستكون كارثيَّة بكلِّ المقاييس؛ لأنَّها أوَّلًا حرب عقيدة، وكما أسلفنا فحروب العقيدة حروبٌ في غاية الدمويَّة، وثانيًا لأنَّها بين كتلٍ ضخمةٍ مجمَّعة!
وهنا تبدو أهميَّة الأمر الثاني الذي أدعو العالم إليه مع دعوتي إيَّاه بالتوحُّد على أساس العقيدة، وهو ما قلتُه منذ قليل بوجوب عدم التعرُّض بأيِّ شكلٍ من الأشكال العنيفة إلى عقيدة الآخرين، بل عدم التعرُّض لها بالتعليقات السلبيَّة التي من الممكن أن تُثير حفيظة قوم فيردُّوا بالمثل، وتبدأ دوائر الصدام في الاتِّساع، ويجدر بنا في هذا المقام أن نذكر الآية القرآنيَّة التي تُؤكِّد لنا العلاقة مع العقائد المختلفة، وذلك في قوله تعالى: )وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ( [الأنعام: 108].
إذًا لا يُؤخذ الأمر الأوَّل دون الثاني..
بمعنى أنه في الوقت الذي ننادي فيه كلَّ كتلةٍ عقائديَّةٍ في العالم أن تتجمَّع على أساس عقيدتها؛ فتَقِلُّ بذلك حروبٌ كثيرةٌ داخل الكتلة الواحدة، فإنَّنا نُنادي كذلك بتجنُّب صدام كتلةٍ عقائديَّةٍ مع كتلةٍ أخرى؛ حتى نحفظ العالم من صدامٍ مروِّع.
إِذَنْ خلاصة حديثنا في مجموعة المشترك الأسمى أنَّ كلَّ البشر له تصوُّرٌ عن الإله، وهذا التصوُّر يُصبح عقيدة راسخة ليس من السهل التنازل عنها أبدًا، وهذه العقيدة يُمكن أن تجمع تحتها عشرات العرقيَّات والأجناس والألوان، ولكنَّها في الوقت نفسه إذا كانت سببًا في صدام فإنَّ هذا الصدام يكون مروِّعًا؛ ولذلك يجب عدم المساس مطلقًا بعقائد الآخرين.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] ابن هشام: السيرة النبوية 3/195، وتاريخ الطبري 2/39، وابن كثير: السيرة النبوية 2/475.
[2] يتناول الدكتور راغب نسب توزُّع الأديان بين البشر وآثارها بتفصيلٍ أكبر في فصل "المشترك الأسمى"، من الباب الثاني من كتاب المشترك الإنساني.
[3] عن نوفلٍ الأشجعيِّ قال: قلت: يا رسول الله؛ أخبرني بشيءٍ أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت. فقال: "اقْرَأْ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ". مصنف ابن أبي شيبة (27059).
[4] عن أبي هريرة "أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)". رواه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب ركعتي سنة الفجر (726)، وأبو داود (1256)، والترمذي (417)، والنسائي (945).
[5] عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الْفَجْرِ بِـ(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وَ(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)". الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في الركعتين بعد المغرب والقراءة فيهما (431)، والنسائي (992)، وابن ماجه (1166)، وأحمد (4763) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[6] قال جابر رضي الله عنه: "... لسنا ننوى إلَّا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثُمَّ نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام فقرأ: )وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى( [البقرة: 125]. فجعل المقام بينه وبين البيت... كان يقرأ في الركعتين: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)، ثم رجع إلى الركن فاستلمه...". مسلم: كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم (1218).
التعليقات
إرسال تعليقك