التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
تمصير البصرة والكوفة مقال لسهيل طقوش يتحدث فيه عن تمصير مدينة البصرة وتأسيس وتمصير مدينة الكوفة من حيث أسباب التمصير ومعايير اختيار المكان وطريقة
تمصير البصرة:
بالقدر الذي تحولت فيه عمليات الفتوح في العراق وفي الأقطار الأخرى -بعد ذلك- إلى حالةٍ دائمةٍ ومستقرة، أخذت تتوضَّح بذات القدر ملامح تنظيمٍ جديدٍ يحل محلَّ أشكال الاستقرار الطارئة والعفويَّة والمحليَّة التي كانت سائدة في البداية، فمن البديهي أنَّ العرب وقد غادروا الجزيرة العربية كمحاربين، فإنَّ التجمُّعات السكانيَّة في المدن والقرى المفتوحة ظلَّت كالسابق مقتصرة على سكانها الأصليين دون اختلاطٍ بين هؤلاء وبين العرب؛ فقد كان الخليفة حريصًا على أن يكون العنصر المقاتل في الدولة من العرب وحدهم، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ في وقتٍ لم يكن فيه إسلام الشعوب الخاضعة لهم قد طُرح جديًّا في تلك المرحلة المبكِّرة، وبهدف الاحتفاظ بشدَّة الروح القتاليَّة لدى العرب عَمَد الخليفة إلى إبعاد هؤلاء عن المراكز الحضاريَّة خارج الجزيرة العربية، وتجميعهم في قواعد عسكرية يتمُّ اختيارها عادةً على شواطئ الأنهار، وهي قريبة الشبه بالقواعد العسكريَّة من حيث المهمَّات المنوطة بها ودورها في خطط الفتوح[1].
كانت قاعدة البصرة في جنوب العراق من أقدم هذه الأمصار، وكان عمر رضي الله عنه -لكي يحمي البلاد من الهجمات الفارسية الارتدادية- قد كلَّف عتبة بن غزوان بإقامة مدينة قريبة من ميناء الأبلة حيث كانت ترسو سفن فارس والهند، وقد وصف له طبيعة الأرض وموقعها: "أجمع أصحابك في موضعٍ واحد، ولكن قريبًا من الماء والمرعى، واكتب إليَّ بصفته". فاختار موضع البصرة وكتب إلى الخليفة بصفته فاستحسنه واطمأنَّ إلى موقعه[2]. والواقع أنَّ هذا المكان كان ميدانًا قفرًا به حصى وحجارة، محاطًا بالماء والكلأ، فهو مناسب تمامًا لطبيعة العربي.
وضع عتبة أساس المدينة وبنى المسجد الجامع من القصب، وكذلك بنى الناس منازلهم، وكلَّف عاصمَ بن دلف ليُنزل القبائل في مواضعها، وتَمَّ بناء المباني الخاصَّة بدوائر الحكومة والإدارة، وفي عام (17هـ/ 638م) اندلعت النار في المكان فاحترق أكثر البيوت، فأرسل سعدٌ رضي الله عنه إلى الخليفة يستأذنه في بناء مبانٍ من اللبن تكون أكثر ثباتًا، فوافق عمر رضي الله عنه لكنَّه أكَّد على ألَّا يبني الفرد أكثر من ثلاث حجراتٍ في المنزل[3]، كما أمر بشقِّ قناةٍ تصل المدينة بدجلة، وأضحت البصرة بعد ذلك ثغر العراق على الخليج العربي.
استأذن عتبة الخليفة في أن يقدم عليه في المدينة فأذن له، فاستخلف المغيرة بن شعبة على البصرة، وأقرَّ عمر رضي الله عنه إمارته فظلَّ بها حتى شهر (ربيع الأول 17هـ/ إبريل 638م) عندما استبدله بأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فاختطَّ البصرة من جديد، وأقام البناء باللبن والطين، ووسَّع المسجد الجامع، وجدَّد دار الإمارة[4].
تمصير الكوفة:
استقر المسلمون في المدائن بعد فتحها، ويبدو أنَّ البنية الجغرافيَّة لهذا الإقليم لم تتناسب مع ما ألفه العرب من جوٍّ صحراويٍّ مفتوح، فشحب لونهم، فلمَّا وقف الخليفة على ذلك كتب إلى سعدٍ رضي الله عنه يأمره بأن يتَّخذ للمسلمين دار هجرةٍ يُقيمون فيها، وأن يختار مكانًا مناسبًا بحيث لا يكون بينهم وبينه بحرٌ ولا جسر[5]، وإنَّما أراد عمر رضي الله عنه بهذا أن يُحقق عدَّة أهداف لعلَّ أهمها:
- أن يكون المكان المختار لمقام هؤلاء العرب جافًّا كالبادية، وتجري فيه -مع ذلك- المياه
الصالحة.
- أن تكون المدينة الجديدة قاعدة متقدِّمة لإمدادٍ بشريٍّ للفاتحين بحيث لا يحول بحرٌ ولا
جسرٌ دون إرسال المدد إلى الجند المقيمين في هذه المنطقة إذا احتاجوا يومًا إليه.
- أن يُشكِّل الموضع مركز انطلاقٍ عسكريٍّ يُساعد على تثبيت أقدام المسلمين في البلدان
المفتوحة.
نزل سعدٌ رضي الله عنه في الأنبار وقرَّر اتخاذها مقرًّا، ولكن كثرة الذباب فيها اضطرَّه إلى النزوح إلى كويفة عمر فلم يجدها كما يرغب، فكتب إلى الخليفة للوقوف على رأيه فأجابه: "إنَّ العرب لا يُوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان وحذيفة[6] رائدين فليرتادوا منزلًا بريًّا بحريًّا ليس بيني وبينكم فيه بحرٌ ولا جسر". نفَّذ سعدٌ أوامر عمر رضي الله عنهما، ونجح الرائدان في اختيار مكانٍ مناسبٍ بين الحيرة والفرات، فنزله المسلمون في شهر (محرم 17هـ/ يناير 638م) وضربوا خيامًا في بادئ الأمر حتى يظلُّوا متأهِّبين للجهاد، ويبدو أنَّ هذه كانت رغبة الخليفة حتى لا يلجأ المسلمون إلى الدعة، ثُمَّ أَذِن لهم بعد ذلك بأن يُقيموا بيوتًا من القصب والقش، ولكنَّ حريقًا كبيرًا شبَّ فالتهم معظم هذه البيوت، فطلب المسلمون من عمر رضي الله عنه أن يأذن لهم بإعادة البناء باللبن، فأَذِن لهم بشرط ألَّا يتطاولوا في البنيان[7].
أشرف أبو الهيجاء بن مالك الأسدي على تخطيط المدينة، وأوَّل ما شيَّد من أبنيتها المسجد الجامع، وبُنيت أمامه ظلَّةٌ واسعة المساحة أُقيمت على أعمدة، وشُيِّدت دار الإمارة بجوار المسجد وسُمِّيت قصر سعد، وأقام الجند منازلهم حول فناء المسجد، فاختارت كلُّ قبيلةٍ مكانًا نزلت فيه وجعلت به خيامها. وكان من أهمِّ مميزات المدينة الجديدة اتساع طرقها؛ حتى لا تحجب الأبنية هواء البادية عن سكَّانها.
المصدر: كتاب تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.
ـــــــــــــــ
[1] بيضون: ص96.
[2] الطبري: ج3 ص590-595.
[3] المصدر نفسه: ص590-592، والبلاذري: ص341، 342.
[4] الطبري: ج3 ص595-597، والبلاذري: ص342.
[5] الطبري: ج4 ص40، 41.
[6] الطبري: ج4 ص41، 42.
[7] المصدر نفسه: ص43، 44.
التعليقات
إرسال تعليقك