التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
زخر التاريخ الإسلامي بعد عهد رسول الله والخلافة الراشدة بالكثير من المواقف التكافلية والإغاثية، التي شملت كافَّة مظاهر التعاون والتآخي داخل المجتمع
التكافل والإغاثة في الخلافة العثمانيَّة (699- 1342هـ)
نشأت الدولة العثمانية إمارة صغيرة عام 699هـ، وما لبثت أن توسَّعت حتى شملت قارَّات العالم الثلاثة واستمرَّت حوالي 661 سنة، مرَّت فيها بمراحل قوَّة ومراحل ضعف، ولكن السمة الأساسيَّة في كلِّ مراحل القوَّة هي اهتمامها ببناء مجتمعٍ متماسكٍ يتكافل أعضاؤه.
ففي عهد السلطان مراد الثاني العثماني (824 - 855هـ) ظهر الاهتمام الكبير بأهالي الحرمين الشريفين وبيت المقدس، فكان يُرسل إليهم من خاصَّة ماله في كلِّ عامٍ ثلاثة آلاف وخمسمائة دينار[1]، كما بنى بجوار جامع أدرنة مدرسة وتكيَّة يُطعم فيها الفقراء والمساكين[2].
وبلغ من اهتمامه بجميع طبقات المجتمع أنَّه كان كثيرًا ما يسدُّ عوز الشعراء المعوزين بنائلة أو بإيجاد حرفةٍ لهم تدرُّ الرزق عليهم؛ حتى يفرغوا من هموم العيش ويتوفَّروا على قول الشعر؛ فلذلك أنجب عصره كثيرًا من الشعراء[3].
أمَّا السلطان محمد الفاتح (855 - 886هـ) فقام بتشييد جامع في العاصمة (إسلام بول) حمل اسمه وهو (مسجد المحمدي، أو جامع السلطان محمد الفاتح)، وقد ضمَّ إليه ما هو معهود من المتطلبات وأهمها المدارس والمطابخ وأمكنة الوضوء والحمَّامات، وكذلك الخانات، علاوة على دار العجزة والمستشفى[4]. وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجَّان، ويغشاها جميع الناس دون تمييزٍ بين أجناسهم وأديانهم[5].
كما حرص السلطان محمد الفاتح على نشر العلم فأنشأ من أجل ذلك المدارس والمعاهد في جميع المدن الكبيرة والصغيرة، وكذلك القرى وأوقف عليها الأوقاف العظيمة، وجعل التعليم في كلِّ مدارس الدولة بالمجَّان.
وأنشأ بجانب مسجده الذي بناه بــ القسطنطينية ثماني مدارس، وأُلحقت بهذه المدارس مساكن للطلبة ينامون فيها ويأكلون فيها طعامهم ووضعت لهم منحة ماليَّة شهرية.
وكان الوزراء والعلماء من أصحاب الثروات يتنافسون في إنشاء المعاهد والمدارس والمساجد والأوقاف الخيرية[6].
وكان السلطان محمد الفاتح يحترم العلماء وأهل الورع والتُّقى احترامًا عظيمًا، فلا يسمع عن عالمٍ في مكانه أصابه عوزٌ وإملاقٌ إلَّا بادر إلى مساعدته، وبذل له ما يستعين به على أمور دنياه[7].
كما اهتمَّ بنشر العلوم والمعارف بين رعيَّته عن طريق الإكثار من المكتبات العامَّة[8]؛ فقد كان الفاتح على إدراكٍ تامٍّ بأنَّ العلماء في الدولة بمنزلة القلب في البدن، إذا صلحوا صلحت الدولة، فلذلك اعتنى بالعلم وأهله، ويسَّر سبل العلم على طالبيه، وكفاهم مئُونة العيش والتكسُّب ليتفرَّغوا للدرس والتحصيل.
وقد اعتنى الفاتح بوجهٍ خاصٍّ برجال القضاء الذين يتولُّون الحكم والفصل في أمور الناس، فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتضلِّعين في الفقه والشريعة والاتِّصاف بالنزاهة والاستقامة وحسب؛ بل لا بد إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع محبَّةٍ وتقديرٍ بين الناس، وأن تتكفَّل الدولة بحوائجهم المادية حتى تسدَّ طرق الإغراء والرشوة، فوسَّع لهم في عيشهم كلَّ التوسعة، وأحاط منصبهم بحالةٍ مهيبةٍ من الحرمة والجلالة والقداسة والحماية[9].
وهذه وصيَّة محمد الفاتح لابنه وهو على فراش الموت، التي تُعبِّر أصدق تعبيرٍ عن منهجه في الحياة، وقيمه ومبادئه التي آمن بها، التي يتمنَّى من خلفائه من بعده أن يسيروا عليها، فنجده يقول في وصيَّته: "... واضمن للمعوزين قوَّتهم، وابذل إكرامك للمستحقين"[10].
وانتشرت في عهود الخلافة العثمانية المختلفة فكرة الوقف؛ حيث كانوا يرصدون أعمالًا وأموالًا تدرُّ عائدًا ثابتًا يُنفق في وجوه الخير المختلفة، ولقد أوقف السلاطين والوزراء أوقافًا عظيمة على طلاب العلم والفقراء والمساكين والأرامل وغير ذلك، وكان الوقف ركنًا أساسيًّا في اقتصاد الدولة[11].
وعن التكافل الاجتماعي في الدولة العثمانية يقول محمد حرب: "نشطت الحركة العلميَّة في جوامع إسلامبول وكان صقوللي محمد باشا -على سبيل المثال- يُنفق على الحركة العلميَّة في إسلامبول من دخل وقف 2000 قرية عثمانية في تشيكوسلوفاكيا، وكانت تابعة للدولة العثمانية. وأسعد أفندي قاضي عسكر الروملي -يعني عسكر البلقان- أوقف وقفين كبيرين على تجهيز الفتيات المعدمات اللاتي يصلن إلى سنِّ الزواج، كما كانت هناك أوقافٌ خاصَّةٌ بصرف مرتَّباتٍ للعائلات المعوزة -غير الأكل- لأنَّ الأكل المجاني له أوقافٌ عامَّةٌ أخرى تُسمَّى "عمارات وقفي" أي وقف المطاعم الخيريَّة، وكانت الـ "عمارات" تُقدِّم أكلًا مجانيًّا لعددٍ يبلغ 20 ألف شخصٍ يوميًّا مجانًّا، وكان مثل هذا في كلِّ الولايات"[12].
وكان المطعم الخيري الملحق بــ جامع السليمانية بلغت ميزانيَّته عام (994هـ=1586م) ما يُعادل 10 ملايين دولار أميركي إلَّا قليلًا[13].
ظلَّ الاهتمام بالتكافل الاجتماعي والإغاثة أساسًا ثابتًا حرص عليه حكام المسلمين طوال فترات التاريخ الإسلامي المتنوِّعة، وذلك انطلاقًا من المبادئ الإسلامية التي أصَّلت هذا الأمر في نفوسهم، فلم يكن أحدهم ليعيش في رخاء وصحَّة، ويترك الجموع الكثيرة تُعاني الجوع والمرض وثقل الديون، فكان هذا دافعًا لهم إلى الإنفاق بكثرة، وبناء المستشفيات والمدارس، والإكثار من الأوقاف، حتى غدا العالم الإسلامي في كثيرٍ من فترات التاريخ في قمَّة التعاون والتكافل إغاثةً للمكروبين، وتيسيرًا على المعسرين.
المصدر:
كتاب رحماء بينهم، للدكتور راغب السرجاني.
[1] القرماني: تاريخ سلاطين آل عثمان ص25.
[2] الصلابي: الدولة العثمانية ص83، 84.
[3] محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة ص266.
[4] بسام العسلي: الفاتح القائد ص104، 105.
[5] سالم الرشيدي: محمد الفاتح ص413.
[6] السابق: ص384، 385.
[7] الصلابي: الدولة العثمانية ص140.
[8] سالم الرشيدي: محمد الفاتح ص396.
[9] السابق: ص409.
[10] عبد السلام فهمي: السلطان محمد الفاتح ص171.
[11] الصلابي: الدولة العثمانية ص154.
[12] محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة ص514، 515.
[13] السابق: ص515.
التعليقات
إرسال تعليقك