الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
تميَّزت النقود في عهد سلاجقة الروم بتعدُّد طرز نقوشها وتغيُّر كتاباتها من سلطانٍ إلى آخر، فما أبرز الملامح الفنِّيَّة والزخرفيَّة للنقود في العصر
دولة سلاجقة الروم
ينحدر سلاطين الدولة السلجوقيَّة -التي تأسَّست في هضبة الأناضول على أجزاء من ممتلكات الروم البيزنطيِّين- من قتلمش بن إسرائيل أرسلان بيغو بن سلجوق، ويُعتبر سليمان الأوَّل هو المؤسِّس لهذه الدولة عندما استقلَّ بها حوالي سنة (470هـ=1077م) مستفيدًا من الخلاف بين محمد وبركياروق وَلَدَي ملكشاه عقب وفاة أبيهما.
وبلغت دولة سلاجقة الروم أقصى اتِّساعٍ لها على حساب البيزنطيِّين في عهد السلطان علاء الدين كيقباد حفيد سليمان، الذي حكم هذه الدولة بين عامي (616=634هـ)، ولكنَّ هذه الدولة التركيَّة -التي استقطبت ولاء قبائل الترك في تلك الأنحاء- تعرَّضت لنكبةٍ كبرى عندما خضع سلطانها الضعيف غيَّاث الدين كيخسرو الثاني لنفوذ المغول، وقبل أن يحكم البلاد تحت حمايتهم في عام (641هـ=1243م)، ومنذ ذاك الوقت أصبح حكَّام السلاجقة ألعوبة في أيدي خاقانات المغول، وكان ذلك إيذانًا بسقوط دولتهم في أوائل القرن (الثامن الهجري= الرابع عشر الميلادي).
نقود سلاجقة الروم
وأصدر سلاجقة الروم نقودهم من المعادن الثلاثة؛ الذهب والفضة والنحاس، وتميَّزت بتعدُّد طرز نقوشها وتغيُّر كتاباتها من سلطان إلى آخر، والمزاوجة بين استخدام الخطِّ الكوفي وخطِّ النسخ في تسجيل العبارات، التي ضمَّت دومًا اسم الحاكم السلجوقي إلى جانب اسم الخليفة العباسي، حتى بعد سقوط بغداد علي أيدي المغول عام 656هـ وزوال الخلافة العباسيَّة، ونظرًا إلى قرب السلاجقة من الحدود مع البيزنطيِّين ونشأة مصالح اقتصاديَّة مباشرة؛ فقد تجنَّب سلاجقة الروم استخدام العبارات الإسلاميَّة في الإصدارات المتأخِّرة والاكتفاء بعباراتٍ ذات صبغةٍ عموميَّةٍ مثل "المِنَّةُ لله".
زخارف وصور حيوانات
وتميَّزت نقود السلاجقة وخاصَّةً تلك التي ضربت من الفضة والنحاس بكثرة استخدام الزخارف النباتيَّة ورسوم الحيوانات خاصَّةً الأسد، بل ورسوم الأشخاص، فضلًا عن رموزٍ فلكيَّةٍ متعدِّدة؛ فعلى بعض النقود رُسِمت صور لشخصٍ جالس القرفصاء يُشبه الإمبراطور البيزنطي الكيوس كومين، وشخص جالس، وفارس في وضع صيد، ورسم الحصان والأسد والغزال، وصورة الأسد والشمس التي ظهرت على نقود السلطان غيَّاث الدين كيخسرو الثاني التي اتَّخذت هيئة وجه امرأة بوسط قرص الشمس المشرقة، وكان ظهور الرسم الأخير بمثابة تعبير عن حبِّ كيخسرو لزوجته وعلاقتها بهذا الرمز التنجيمي، ثم اكتفى بعد ذلك بنقش برج زوجته دون رسم ملامح وجهها بداخله بعد أن نصحه وزراؤه بالإقلاع عن هذا العمل غير اللائق.
ومن الملفت للنظر في نقود سلاجقة الروم منذ عهد كيخسرو الثاني استخدامها للخط الديواني باستعارة رموز من الحرف العربي؛ للتعبير عن أعداد الآحاد والعشرات والمئات لتسجيل تواريخ سكِّ العملات، وكان استخدام هذه الرموز شائعًا في الديوان العربي، وبدأ سلاجقة الروم استخدام الأرقام الديوانيَّة على عملاتهم، ونقلها العثمانيُّون عنهم فيما بعد.
ومن الإصدارات الذهبيَّة المميزة لسلاجقة الروم عددٌ من الدنانير صدرت باسم السلطان عزِّ الدين قلج أرسلان، وتميَّزت بحصر كتابات مركزي الوجه والظهر داخل دائرة، وتسجيل عبارات الهامش خارج هذه الدائرة من الجانبين وبالأسفل، وضُرِبَت هذه الدنانير بالعاصمة قونيَّة في سنوات مختلفة، ويحوي مركز الوجه تسجيلًا لشهادة التوحيد مع اسم الخليفة العباسي "الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين"، بينما اشتملت كتابات مركز الظهر على اسم الحاكم السلجوقي "السلطان المعظَّم قلج أرسلان مسعود"، واسم النبي الكريم "محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
أمَّا نقود علاء الدين كيقباد فقد عادت إلى الشكل الإسلامي التقليدي؛ من حيث استخدام كتابات مركزية من أسطر متوازية، وأخرى هامشيَّة تدور مع محيط القطعة النقديَّة، ومن أمثلتها دينار ذهبي ضُرب في عام 630هـ وسُجِّل في مركز الوجه "الإمام المستنصر بالله"، وفي الهامش "أمير المؤمنين سنة ثلاثين وستمائة"، بينما احتوى مركز الظهر على ثلاثة أسطر "السلطان/ الأعظم علاء/ للدنيا والدين"، ونقش الهامش "أبوالفتح كيقباد بن كيخسرو قسيم أمير المؤمنين أعزَّ الله أنصاره بحقِّ محمد وآله".
واستمرَّ كلٌّ من كيخسرو الثاني وابنه عزِّ الدين كيكاوس في استخدام لقب قسيم أمير المؤمنين الذي ابتدعه السلاجقة؛ للتعبير عن تمتُّعهم بالنفوذ السياسي نظير احتفاظ الخليفة العباسي بمركزه الديني دون أن يكون له نصيبٌ في الحكم، فكان السلطان السلجوقي قسيمه بالفعل في سلطاته الزمانيَّة والدينيَّة.
ومن دنانير كيكاوس واحد من ضرب دار الملك قونية، وقد حصرت فيه كتابات المركز داخل مربَّعين، ممَّا ترك أربع مناطق خارجية سجلت بها كتابات الهامش في محاكاة واضحة لطراز دنانير الموحدين التي ضُرِبت بالمغرب والأندلس، وهيمنت بطرازها على نقود دول المغرب فيما بعد، ونُقش بمركز وجه الدينار "بسم الله الرحمن الرحيم/ لا إله إلا الله/ وحده لا شريك له/ محمد رسول الله"، وبالهامش "الإمام/ المستعصم/ بالله أمير/ المؤمنين"، بينما سجل بمركز الظهر "السلطان الأعظم/ ظل الله في العالم/ عز الدنيا والدين/ أبوالفتح كيكاوس بن/ كيخسرو قسيم أمير المؤمنين".
سك سلاجقة الروم عددًا من النقود التذكاريَّة، أشهرها دراهم المصاهرة التي ضُربت في مدينة حلب عام 635هـ؛ تخليدًا للمصاهرة التي ربطت بين السلاجقة وبقايا البيت الأيوبي؛ إذ تزوَّج السلطان غياث الدين كيخسرو بأخت السلطان الأيوبي الناصر يوسف حاكم حلب، بينما تزوَّج الأخير أخت السلطان السلجوقي، وكان مقدار الصداق لكلِّ زيجةٍ خمسين ألف دينار ذهبي، وبهذه المناسبة وُزِّعت الهدايا وأُقيمت الاحتفالات في كلٍّ من قونيَّة وحلب، وضُربت النقود الفضِّيَّة التذكاريَّة أيضًا.
__________________
المصدر: جريدة الاتحاد الالكترونية، سبتمبر 2007م.
التعليقات
إرسال تعليقك