التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
حكاية الشركس في مصر، حكايةٌ بدأت بالقتال والحرب والجهاد، ثم انتقلت إلى التنعم والرفاهية والثروة، وانتهت بالتمصير والاندماج الكامل في نسيج الشعب
أهم مقتطفات المقال
حكاية الشركس في مصر، حكايةٌ بدأت بالقتال والحرب والجهاد، ثم انتقلت إلى التنعم والرفاهية والثروة، وانتهت بالتمصير والاندماج الكامل في نسيج الشعب المصري، فخرج منهم مثقفون وأدباء وسياسيون..
للشركس تاريخٌ طويلٌ ضاربٌ بجذوره في دول العالم العربي، مثل سوريا والأردن ومصر؛ فقد تتابع مجيئهم من موطنهم الأصلي في بلاد القوقاز عبر أزمنة طويلة، سواء في عصر المماليك أو العثمانيين، وطالما امتاز الجركس أو الشركس بقوَّة البنية، وجمال الخِلْقَة، وهو الأمر الذي أهَّلهم للدخول إلى سلك الجندية والعسكريَّة من أوسع الأبواب، فنالوا مكانةً "نخبويَّة" في أزمنةٍ طويلة، خاصَّةً في مجالي السياسة والعسكرية، بل إنَّ بعضهم صار من نجوم السينما والتلفزيون في القرن العشرين.
لكن كيف جاء الشركس إلى مصر؟ وكيف انتقلوا من كونهم مجرَّد عبيد بيض كانوا يُستخدمون عسكرًا في الحروب والمعارك إلى الوصول إلى سُدَّة حكم مصر؟ وكيف ظلَّ نفوذهم باقيًا إلى العصر الحديث؟ وما أهم الأدوار التي لعبوها طوال تلك القرون في تاريخ مصر الوسيط والحديث؟
الشركس في عصر المماليك
يُمثِّل الجركس أو الشركس العنصر صاحب السيادة الأوَّل طوال الفترة المملوكيَّة الثانية (1381-1517م)، والجركس أو الجهاركس لفظ أعجمي يعني "الرجال الأربعة"؛ بمعنى القبائل الجركسية الأربع الرئيسة: "سركس، أركس، كسا، آص"، وهي القبائل التي تندرج تحتها الفروع والأفخاذ القوقازيَّة الأخرى.
والجراكسة من أقدم الشعوب التي سكنت المناطق الممتدَّة شمالي نهر "ترك" حتى نهر الدون والفولجا، وعلى ساحلي بحر آزوف "آزاق"، وشغلوا منطقتين كبيرتين شمالي القوقاز، وهما بلاد الجركس الشماليَّة التي تتكوَّن من حوض نهر "ترك"، وبلاد الجركس الجنوبيَّة التي تتكوَّن من حوض نهر "قوبان"، وبعض سواحل البحر الأسود [1].
وقد تعرَّض الجراكسة في مواطنهم في شمال بحر قزوين وشرقي البحر الأسود لغارات الدولة الخوارزمية القادمة من وسط آسيا في القرن السابع الهجري الذين اعتدوا عليهم، وقتلوا أعدادًا كبيرةً منهم، وسبوا نساءهم وجلبوهم رقيقًا إلى مختلف الأقطار، وكذا فعل بهم مغول الشمال الذين استوطنوا مناطق شمال بحر قزوين، الأمر الذي اضطرَّ الشركس إلى النزوح شرقًا وجنوبًا ووقوع كثيرٍ منهم في الأسر والرق.
وكان أوَّل من جلبهم إلى السلطنة المملوكيَّة (1250-1517م) السلطان المنصور سيف الدين قلاوون (ت689هـ=1290م)؛ ذلك أنَّه اتَّخذ استراتيجيَّة أستاذه الملك الصالح نجم الدين أيوب في جلبه للمماليك البحرية ليكونوا أقرب إليه من الأكراد وغيرهم من عناصر الجيش الأيوبي، وكذلك فعل المنصور قلاوون بجلب الجراكسة ليكونوا عونًا له، وأقرب إليه، وحائط صدٍّ أمام بقايا المماليك البحرية إذا عزموا على الانقلاب عليه، قال المقريزي في خططه: "أكثرَ المنصور قلاوون من شرائهم، وجعلهم وطائفة اللاض (اللاظ) جميعًا في أبراج القلعة، وسمَّاهم البرجيَّة، فبلغت عدَّتهم ثلاثة آلاف وسبعمائة" [2] ونُسِبوا إليه.
إذ كانت انتماءات المماليك شخصيَّة؛ فنحن نقرأ في المصادر التاريخيَّة المعاصرة للمماليك عن طوائف شتَّى، تنتمي كلٌّ منها إلى شخصٍ بعينه، مثل طائفة "المماليك الصالحية" نسبةً إلى الصالح نجم الدين أيوب، وطائفة "المماليك الظاهرية" نسبةً إلى الظاهر بيبرس، و"المنصورية" نسبة إلى المنصور قلاوون، و"الأشرفية" نسبةً إلى الأشرف خليل بن قلاوون؛ ذلك أنَّ تلك الرابطة الخاصَّة كانت الوسيلة المثلى لتحقيق الشعور بالأمن للمماليك في ظلِّ حياتهم التي كانت تحكمها المنافسة الدمويَّة كطريقٍ يعترف به الجميع للوصول إلى العرش [3].
لقد كانت العلاقة بين السلطان والمماليك الذين اشتراهم وربَّاهم عادةً ما تكون أقوى من العلاقة بينه وبين غيرهم من المماليك، لذا كان السلاطين يُولُون عنايةً كبيرةً لتربية مماليكهم وتدريبهم؛ لأنَّهم كانوا بمنزلة الحرس السلطاني الخاص، كما كان السلطان يختار لهم أعلى الوظائف قدرًا، وأكبرها إقطاعًا؛ حتى يضمن رضاهم وولاءهم على الدوام، وهذا هو الذي فعله السلطان المنصور قلاوون بالنسبة إلى مماليكه من الجراكسة [4].
نزل المماليك الشركس في أبراج قلعة صلاح الدين فصار اسمهم من يومها المماليك البُرجيَّة، وأبعدهم المنصور قلاوون عن المماليك الترك الذين كانوا في "الطِّباق" أو الثكنات العسكريَّة المخصَّصة لهم في القلعة، وكانت عناية قلاوون بالمماليك البرجية الجدد سببًا في خلق بداية التنافس العنصري بين الجراكسة والترك.
ويتساءل المؤرِّخ سعيد عاشور عن سبب جلب الشركس وإدراجهم في الجيش المملوكي، قائلًا: "لا ندري بالضبط الدوافع التي دفعت السلطان المنصور قلاوون إلى اختيار مماليك فرقته الجديدة من الجركس بالذات؛ فهل يرجع ذلك إلى توافرهم في أسواق الرقيق بعد أن شرَّدهم المغول من بلادهم، أم أنَّ السبب هو ما اشتهروا به من شجاعةٍ وقوَّةٍ جعلت السلطان قلاوون يتوسَّم فيهم الأداة الصالحة لتحقيق أغراضه؟
وسواءٌ كان السبب الذي دفع قلاوون إلى اختيار مماليكه الجدد من عنصر الجركس هو هذا أم ذاك من الأسباب؛ فإنَّ ثَمَّة حقيقة هامَّة يجب ألَّا نُسقِطها من اعتبارنا؛ هي أنَّ الرقيق الجركس كانوا عندئذٍ -بسبب كثرتهم وتحكُّم قانون العرض والطلب- أرخص سعرًا من عناصر الرقيق الأبيض الأخرى، حتى قرَّر بعض الباحثين أنَّ متوسِّط ثمن الرأس من الجراكسة بلغ وقتذاك 115 دينارًا، في حين أنَّ متوسِّط ثمن الرأس من عنصر الترك بلغ 135 دينارًا" [5].
لم يتوقَّف جلب الشركس إلى مصر بعد وفاة السلطان قلاوون؛ فقد أكثرَ ابنه الأشرف خليل بن قلاوون (ت693هـ) من شرائهم، فاشترى نحو ألفي مملوك، وسمح لهم أن ينزلوا من أبراجهم بالنهار، ممَّا أدَّى إلى انغماسهم في الحياة العامَّة بعد أن كانوا بمعزلٍ عن الناس، وصاروا يُعرَفون بالأشرفيَّة نسبةً إليه، وبدأت بذلك المنافسة بين الترك والجراكسة، ولمـَّا قتل نائبُ السلطنة التركي بدر الدين بيدرا (ت693هـ= 1294م) السلطانَ الأشرف خليل، ثار المماليك الأشرفية البرجية من الجراكسة لقتل أستاذهم، ولم تهدأ ثائرتهم حتى قتلوا الأمير بيدرا شرَّ قتلة، ومثَّلوا بجثَّته، وقتلوا من اشترك معه في قتل أستاذهم السلطان خليل من الأمراء الترك.
تقلَّص عدد الشركس منذ واقعة مقتل السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، وعاد المماليك الأتراك إلى صدارة المشهد العسكري والسياسي في البلاد طوال قرنٍ من الزمان حتى جاء عصر أولاد وأحفاد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وهو أربعون سنةً عاشت فيها دولة المماليك البحرية نوعًا من الانشطار والتشظِّي والضعف، وزيادة نفوذ القادة العسكريِّين على حساب السلاطين، وعانت البلاد مصائب اقتصاديَّة وسياسيَّة، وحروبًا بين الجماعات المملوكية على الزعامة والنفوذ، واستغلَّ كبار القادة العسكريِّين من المماليك هذه الأوضاع؛ فراح كلُّ واحدٍ منهم يستجلب مماليك لحسابه الخاص؛ لتقوية النفوذ والقوَّة؛ لعلَّ أحدهم يرتقي إلى منصب السلطنة، فعاد الباب مشرعًا لجلب الشركس من جديد.
وكان أحد هؤلاء الشركس القادمين من بلاد القوقاز يُسمَّى برقوق؛ ذلك المملوك الذي سرعان ما ارتقى في وظائف المماليك العسكرية حتى أصبح أميرًا كبيرًا، واستطاع بدهاءٍ ومكرٍ شديدٍ أن يُقصِي كافَّة المنافسين له على الزعامة، حتى استطاع الوصول إلى عرش الدولة المملوكيَّة، ليكون مؤسِّس دولة المماليك الشراكسة في مصر، والتي ستستمرُّ حتى مجيء العثمانيِّين ودخول السلطان سليم الأول سنة 1517م، هؤلاء الشراكسة الذين ظهر منهم سلاطين على قدرٍ كبيرٍ من القوَّة والشهرة، مثل: قايتباي، وبرسباي، وجقمق، وقانصوه الغوري، وطومان باي، وغيرهم.
تمتَّع الجراكسة في تلك السنوات بمزايا الطبقة الأرستقراطية؛ فكلُّ مملوكٍ وأميرٍ كان له إقطاعٌ يُدِرُّ عليه ربحًا سنويًّا ثابتًا، يزيد إلى 80 ألف دينارٍ ذهبيٍّ في بعض الحالات، وكانت قصورهم تعجُّ بأفخر أنواع الأثاث والعطور والأطعمة والألبسة، فضلًا عن الجواري والزوجات، وكثيرًا ما ثار الشراكسة على سلاطينهم وأمرائهم في أوقات الأزمات الاقتصاديَّة، مستغلِّين حالة الضعف الأمني، فلا يجدون أمامهم إلَّا انتهاب حوانيت ودكاكين المصريين وأملاكهم، بل ربَّما تعدوا إلى كبار الموظفين المدنيِّين في جهاز الدولة فانتهبوهم، ويُعدِّد مؤرِّخو تلك الحقبة أمثلةً كثيرةً على هذه الحالة المتكرِّرة من قِبل الشركس [6].
ومن اللافت أنَّ الشركس في هذا العصر انخرط كثيرٌ منهم في بنية المجتمع المصري، وظهر منهم من اهتمَّ بالعلوم والمعارف، لا سيَّما الاشتغال بالفقه والحديث النبوي والتاريخ، ويُعطينا السخاوي في موسوعته "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" أسماء عشراتٍ من هؤلاء الشراكسة، كان لهم نصيبٌ وافرٌ في الحياة الثقافية والاجتماعية في مصر العصر الوسيط، ولعلَّ أشهر هؤلاء واحدٌ من أشهر مؤرِّخي مصر آنذاك "جمال الدين يوسف بن تغري بردي" صاحب المصنَّفات التاريخيَّة الموسوعيَّة الكبيرة.
وإذا كان الشركس قد حملوا على عاتقهم الاشتغال بالعسكرية والسياسية، وشاركوا ببعض الأنصبة الأقل في العلوم والمعارف، فإنَّهم على الجانب الأثري والفني والمعماري بلغوا إلى النهاية، حتى لا تزال آثار الشراكسة المماليك بين شوارع وأزقَّة وقرافة القاهرة القديمة شاهدة على هذا الإبداع، وتلك الفنون التي تُوصَف بالجمال والندرة والفخامة والعظمة، ما بين جوامع ومساجد ومُصليَّات ومدارس وأواوين وقصور ومناظر ووكالات ورباع وأسواق وخانات لا تزال تحمل أسماءهم إلى اليوم، مثل:
"الغورية" نسبةً إلى السلطان الشركسي "قانصوه الغوري"، ومجموعة قايتباي، وإينال، وبرسباي، فضلًا عن أمرائهم الذين أنشأ بعضهم أحياءً جديدةً في القاهرة مثل حيِّ الأزبكية نسبةً إلى الأمير والقائد الشركسي العسكري "أزبك بن ططخ" أحد كبار الأمراء في زمن السلطان قايتباي [7] في النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي.
الشركس من الهزيمة إلى السيادة من جديد!
كان دخول العثمانيِّين مصر سنة 1517م ضربةً قويَّةً وموجعةً للمماليك الشركس، فمن المنافسة الإقليميَّة، والزعامة على بلاد الشام ومصر، وخدمة الحرمين الشريفين، إلى التبعيَّة المطلقة، وقُتِل الآلاف منهم على يد الجيش العثماني في عدَّة معارك طاحنة بدءًا من مرج دابق التي قُتل فيها السلطان "قانصوه الغوري" وفُقد أثره، وانتهاءً بشنق آخر سلاطين المماليك الشراكسة "طومان باي" على باب زويلة في القاهرة.
إزاء هذه التطوُّرات، أذعنت الطوائف المملوكيَّة وأغلبها من الشركس آنذاك بعد هزائمهم المتتالية إلى سلطان العثمانيِّين وفرماناته، ورأى العثمانيُّون أنَّ إذعان هؤلاء واعترافهم بالسيادة العثمانيَّة على مصر مفيدٌ لحفظ الأمن واستتبابه، فأعادت استخدامهم وإدراجهم في القوَّات أو الفرق العسكرية العثمانية "السباهية" التي كانت تتكوَّن من سبعة أوجاقات "فرق"، مثل: الإنكشارية، والعزب، والجنليان، والتفنكجيان، والشراكسة، وتخصيص مرتَّبات ثابتة لهم من الخزينة الميريَّة [8].
وكان من اللافت والغريب أنَّ الشركس الذين كانوا على مدار أكثر من قرن المنافسين الشرسين للعثمانيِّين، والذين واجهوهم في معارك وحروب كثيرة هزموا فيها العثمانيِّين في بعضٍ منها لا سيَّما في عصر السلطان قايتباي، قد أصبحوا بعد ذلك الأداة العسكريَّة الأقوى في خدمة مصالح العثمانيِّين في مصر، ووأد حركات العصيان المسلَّح التي استمرَّت منذ عام (928هـ) حتى عام (931هـ)، إلى أن قرَّر العثمانيُّون أن يكون رؤساء هذه الجماعة الشركسيَّة موظَّفين وقادة عثمانيِّين ظلُّوا على ولائهم للعثمانيِّين.
وعلى الرغم من ذلك، وطوال عقود، ووَفْق استراتيجيَّةٍ هادئةٍ وفعَّالة؛ استطاع الشركس النفاذ والدخول إلى الفرق العسكرية العثمانيَّة الأخرى في مصر، حتى أضحى عدد بلوكَّاتهم أو مجموعاتهم العسكرية 138 بلوكًّا، كلُّ بلوكٍّ منها كان يحوي ما بين 3 إلى 10 من الجنود الشركس، وكانت وظائف أمرائهم تنحصر ما بين الأمور الإداريَّة مثل مراجعة الأوقاف والدفاتر الماليَّة، وما بين حراسة الجسور والحالة الأمنيَّة في الأرياف خاصَّة.
وهكذا أصبح الشركس عنصرًا لا غنى عنه في المنظومة الأمنيَّة العثمانيَّة في مصر، لكن بمرور الوقت، ومع ضعف قيمة العُملة العثمانيَّة آنذاك "آقجة"، وضعف قبضة الآستانة على مصر، انخرطت هذه الفرق في النشاط الاقتصادي والتجاري بما فيهم الشركس، وأصبحوا يُسيطرون على مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي في الريف مقابل دفع ضريبةٍ سنويَّةٍ للدولة، فازدادت ثرواتهم خصوصًا الشركس، واستغلُّوا هذه الأوضاع للعودة إلى نفوذهم العسكري والاقتصادي القديم في زمن دولة المماليك الشركس قبل دخول العثمانيِّين مصر، وأصبح الموظَّفون العثمانيُّون وعلى رأسهم الباشا أو الوالي مجرَّدَ دمًى للشركس ونفوذهم المتنامي.
ففي أحداث سنة (1134هـ= 1722م) يذكر بعض المؤرِّخين المعاصرين آنذاك كيف أجبر الشركس الوالي العثماني على الموافقة لمحاربة عُربان الشرقيَّة، فيقول: "ثم إنَّ إسماعيل بك عمل جمعيَّةً (مشورة) في بيت عبد الرحمن أغا في الجملية على أنَّهم يُرسِلون تجريدةً إلى سالم بن حبيب، ثم إنَّهم عرضوا العرض على الباشا، وطلبوا على موجبه فرمانًا فأبى، ثم إنهم أخذوا الفرمان منه بالقهر عليه، وعيَّنوا علي بك وعبد الرحمن أغا باش التجريدة" [9].
بل وصل الحال إلى أنَّ الولاة العثمانيِّين كانوا يضطرُّون إلى الاعتراف بسيادة المماليك في مصر، ففي ذكر تولية محمد باشا النشنجي (1721- 1726م) يقول الوالي العثماني لزعماء المماليك الذين كانوا في استقباله: "وليس هناك إن شاء الله إلَّا الخير، وأنتم أمن للسلطان في أرضه والبلاد، وأمَّا نحن فإنَّنا ناسٌ ضيوفٌ عندكم، وبلاد السلطان لا يسأل عليها إلَّا منكم" [10].
بل لقد وصل نفوذ أمراء المماليك الشركس إلى حدِّ عزل الولاة العثمانيِّين وتعيين من يرتضونه واليًا على مصر، فيذكر الجبرتي في أحداث سنة (1188هـ=1774م) أنَّ محمد بك أبو الذهب آوى مصطفى باشا النابلسي فأكرمه وبالغ في تقديره، وأرسل إلى الأستانة طالبًا منها تعيينه واليًا على مصر، "فأُجيب إلى ذلك، ووصلت إليه التقاليد (الفرمان)، ووجَّه خليل باشا (الوالي السابق) إلى ولاية جدَّة" [11]!
ولهذا يصف كثيرٌ من المؤرِّخين لتلك الحقبة مدى البذخ والثروة التي تمتَّع بها الشركس، يقول عمر الإسكندري: "غالى المماليك في أواخر العصر العثماني في ابتزاز الأموال من الأهلين، وانغمسوا في الترف في مسكنهم وملبسهم ومعيشتهم، على غير عاداتهم الأولى المبنيَّة على الخشونة، وصارت حُلَّة البيك منهم لا يقل ثمنها عما يُعادل 600 جنيه (في سنة 1916م)، ولا يمتطون إلا خيول نجد العربيَّة الأصيلة... وصار أهل البلاد هم العبيد الحقيقيُّون، والمماليك هم السادة" [12].
ونظرًا إلى هذا الانغماس في الثروة الهائلة، والقصور الفارهة، والعيش الرغيد، كان التنافس بين الشركس أنفسهم على أشُدِّه، حتى انقسموا إلى فريقين، هما: الفقَّارية، والقاسمية.
وظلَّ الفريقان على الدوام في صراعٍ مستمرٍّ على تركة مصر، وثرواتها، وخيراتها، حتى استطاعوا الاستقلال فعليًّا عن الدولة العثمانيَّة، بل والهجوم عليها وأخذ بلاد الشام منها في ولاية علي بك الكبير ورجله الأول الأمير محمد بك أبو الذهب، وهو ذروة بلوغ الشركس نفوذهم في زمن العثمانيِّين الذين لم يكن لهم حولٌ ولا قوَّةٌ في مصر.
الشركس بين بونابرت ومحمد علي!
وقد راقبت الأطماع الغربيَّة المماليك الشركس في مصر مراقبةً دقيقةً طوال القرن الثامن عشر، ورأوا أنَّهم المتنفِّذون الوحيدون في البلاد، يُسيطرون على مداخلها ومخارجها وتجارتها وموانئها، ويفرضون الجمارك والضرائب على التجَّار الأوروبيِّين منهم، وحين قام نابليون بحملته الفرنسية على مصر في صيف عام 1798م، كان نداؤه الأوَّل بعد استيلائه على الإسكندرية إلى المصريِّين بتذكيرهم بمدى شراسة وجُرم الشركس، ومدى ما قاموا به من مظالم للمصريِّين على مدار عقودٍ طويلة، فيقول بونابرت في بيانه:
"منذ زمنٍ بعيدٍ دأب المماليكُ الذين يحكمون مصر على إهانة الأمَّة الفرنسية، وإذلال تُجَّارها، وقد حانت لحظة العقاب، منذ أمدٍ بعيدٍ وهذه الحثالة من العبيد الذين تمَّ شراؤهم من القوقاز وجورجيا يُمعِنُون في طغيانهم، ويستبدُّون بأفضل أجزاء العالم، ولكنَّ الله -والأمر له- قد قضى بأنَّه آن الأوان لنهاية مُلكهم" [13].
ثم كانت الهزيمة الفرنسية المذلَّة للشركس تحت سفح الأهرام، ودخولهم القاهرة، واستيلاؤهم على كافَّة قصور وأملاك وثروات الشركس ضربةً موجعةً للنفوذ الشركسي في مصر، وظلُّوا طوال سنوات الحملة الفرنسية غير قادرين على حماية مصر ومواجهة الاحتلال الفرنسي، حتى خرج الفرنسيون نتيجة ثورات المصريين والدعم العثماني القادم من الأستانة وعلى رأسه محمد علي باشا وفرقته الألبانية، التي كان لها دورٌ كبيرٌ في إيصاله إلى حكم مصر في نهاية المطاف سنة 1805م.
طوال سنوات 1801 إلى 1805م -أي السنوات الأربع ما بين خروج الفرنسيين من مصر وبين اعتلاء محمد علي ولاية مصر- عاد الشركس موحِّدين صفوفهم، وقد أسهموا بنصيبٍ كبيرٍ في سوء الأوضاع السياسيَّة والأمنيَّة في البلاد، ومواجهة الولاة العثمانيِّين الذين تعاقبوا على البلاد طوال هذه الفترة القصيرة، حتى استطاع محمد علي باشا أن يرتقي إلى ولاية مصر بمساعدةٍ من المصريين أنفسهم الذين أجبروا السلطان العثماني على هذا القرار.
رأى محمد علي أن يُزيح القوى المدنيَّة التي ساعدته رغبةً منه في الاستئثار بحكم مصر؛ فنفى عمر مكرم وبعضًا من شيوخ الأزهر الآخرين، ورأى أنَّ استيلاءه على مصر لن يكون إلَّا بالقضاء نهائيًّا على الأمراء المماليك الشركس، فدبَّر لهم مذبحة القلعة الشهيرة في (مارس سنة 1811م) [14]، فأُبيد أغلب الشراكسة، وصُودِرَت ممتلكاتهم، وزوَّج نساءهم إلى جنودهم، والبقيَّة منهم كانوا بين الهرب والتخفِّي.
باشاوات ووزراء وفنانون
لم تنتهِ حكاية الشركس في مصر عند تاريخ مذبحة القلعة، فإنَّ بقيَّةً منهم استطاعوا التخفِّي تارةً والانخراط في الجيش الجديد الذي أنشأه محمد علي، وجعل ضبَّاطه من الأرناءوط وبقايا الأتراك والشركس، وجنوده من المصريِّين، لكنَّ الشركس كانوا يُمثِّلون أعدادًا قليلةً للغاية في عصره.
وحين استولى الروس على بلاد القوقاز في سبعينيَّات القرن التاسع عشر، كانت الهجرة الثانية للشركس إلى بلاد الشرق الأوسط، ولكن هذه المرَّة كانت هجراتُهم بأعدادٍ قليلة، بضع مئاتٍ استطاعوا الانخراط والتكيُّف مع المصريِّين، وهم بالإضافة إلى من بقي من الشركس المماليك استطاعوا تفهُّم اللغة العربيَّة، والولوج إلى مناصب كبيرة في دولاب الإدارة والجيش المصري في عصر الخديوي سعيد، وعباس الأول، وإسماعيل، وطوال عصر أسرة محمد علي، وظهرت منهم عائلاتٌ كبيرةٌ كان لها إسهامها في المجال الاقتصادي والزراعي خاصَّةً، مثل: عائلات لاشين، وبكتاش، وأباظة، ورستم، والدمرداش، وذو الفقار، وثابت، والمناسترلي، والبرديسي [15]، وغيرهم.
فظهر منهم على سبيل المثال محمد ثابت باشا الذي ناسب الأسرة العلويَّة في مصر، وارتقى في مناصب كبيرة في عصر محمد علي وأبنائه، وعصر الخديوي توفيق، وابنه عباس حلمي؛ فتقلَّد منصب محافظ القاهرة والجيزة، ورئيس الديوان الخديوي وغيره.
وبرز من شراكسة القرن التاسع عشر -أيضًا- عثمان رفقي باشا ناظر الجهادية (وزير الحربية) في عصر الخديوي إسماعيل، وهو الذي ثار ضبَّاط الجيش عليه وعلى رأسهم أحمد عرابي لمظالمه في حقِّ الضباط المصريِّين في الجيش وعدم مساواتهم مع الضباط الشركس في الترقيَّات والرواتب، وانتهى الأمر بعزله من منصبه بالفعل، وتعيين محمود سامي البارودي باشا خلفًا له.
أمَّا من أشهر الشخصيَّات الشركسيَّة المصرية في القرن العشرين فيأتي على الرأس منها الفريق عزيز باشا المصري رئيس أركان الجيش المصري أيَّام الملك فاروق، وكان واحدًا من كبار الضباط الوطنيِّين، والثوَّار المطالبين بالتحرُّر الوطني من الاحتلال البريطاني، ونال على أيدي الإنجليز العديد من المظالم، وحاول الاتصال بالألمان أثناء الحرب العالمية الثانية للتحالف معهم.
أمَّا من عائلة ذو الفقَّار الشركسيَّة فتنتسب الملكة فريدة أو صافيناز ذو الفقار زوجة الملك فاروق الأولى وأم بناته، ومن عائلة ثابت الشركسية يأتي محمود ثابت باشا سفير مصر في اليونان.
ولعلَّ من أشهر العائلات الشركسية في مصر حتى يومنا هذا تأتي عائلة أباظة التي تُشتهر باسم عائلة الباشاوات، حيث خرج منها أكبر عدد من كبار المـُلَّاك والباشاوات منذ عصر محمد علي وأبنائه، كما خرج منهم دسوقي باشا أباظة وزير المواصلات في عصر الملَكِيَّة، وابنه الكاتب المعروف ثروت أباظة، كما ظهر منهم الممثِّل المعروف رشدي أباظة، ولا تزال العائلة تمتدُّ بنفوذها وقوَّتها وثرائها في محافظة الشرقيَّة في شمال شرقي مصر إلى يومنا هذا، بل إنَّ بعض مناطق وقرى الشرقيَّة تُسمَّى بأسماء أبناء هذه العائلة.
تلك بعضٌ من حكاية الشركس في مصر، حكايةٌ بدأت بالقتال والحرب والجهاد، ثم انتقلت إلى التنعُّم والرفاهية والثروة، وانتهت بالتمصير والاندماج الكامل في نسيج الشعب المصري الذي استوعب الشركس في منظوماته الاجتماعية والثقافية، فخرج منهم مثقفون وأدباء وسياسيون على قدر كبير من الفهم والدراية.
المصادر:
1) محمد-عبد-الله-سالم العمايرة: الجيش في العصر المملوكي الثاني، ص62، 63.
2) خطط المقريزي 3/420.
3) قاسم عبده قاسم وعلي السيد علي: الأيوبيون والمماليك، ص202.
4) السابق ص202، 203.
5) سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكي، ص141، 142.
6) ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة 16/84.
7) محمد شعبان أيوب: تاريخ المماليك، ص580.
8) سيد محمد: مصر في العصر العثماني في القرن ال16، ص293.
9) أحمد شلبي بن عبد الغني: أوضح الإشارات، ص339.
10) المصدر نفسه، ص321.
11) الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار.
12) عمر الإسكندري: تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر، ص67.
13) مذكرات ضابط في الحملة الفرنسية، ص31.
14) محمد شفيق غربال: محمد علي الكبير، ص66.
15) راسم رشدي: شركسي يتحدث عن قومه، ص54، 55.
التعليقات
إرسال تعليقك