التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
تُعد معركة وادي سليط بين الأمير الأموي محمد بن عبد الرحمن الأوسط وثوار طليطلة من أمهات المعارك في تاريخ الأندلس، ولم يعرف بالأندلس قبلها مثلها، فما قصة
وصلت الدولة الأموية في الأندلس في عهد عبد الرحمن الأوسط (206-238هـ= 822-852م) إلى درجةٍ لم تسبق من البهاء والروعة، وبدت الأرستقراطيَّة العربيَّة في أبدع مظاهرها، وسطعت الفروسيَّة الأندلسيَّة وتجلَّت سماتها الباهرة التي غدت فيما بعد مثلًا يُحتذى به في مجتمعات العصور الوسطى، كما كانت أيَّام عبد الرحمن أيام سكينة وأمن ورخاء، وفيها ازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة وزاد الدخل زيادة عظيمة، وفي عهده أيضًا سما شأن حكومة قرطبة الإسلامية وأخذت تتبوَّأ مكانتها من الهيبة والنفوذ، بين مختلف القصور والحكومات، وتغدو مركز التوجيه للدبلوماسيَّة الإسلاميَّة في الغرب.
الأوضاع في الأندلس قبل معركة وادي سليط
في الرابع من (ربيع الآخر سنة 238هـ= 24 سبتمبر سنة 852م)، تُوفِّي حاكم الدولة الأموية في الأندلس عبد الرحمن بن عبد الحكم المعروف بعبد الرحمن الأوسط أو عبد الرحمن الثاني، وتولَّى بعده ابنه محمد بن عبد الرحمن [1].
ترك عبد الرحمن بن عبد الحكم بعد وفاته مملكة زاهرة موطدة الأركان، تنعم بالاستقرار والهدوء، ولكن هذا الاستقرار الظاهر كان يحجب كثيرًا من التيارات الخفيَّة التي تُهدِّد أمن المملكة وسلامتها، ذلك أنَّ الهزات العنيفة التي توالت على الأندلس في عهد عبد الرحمن بن الحكم، تركت آثارها العميقة في هذا الصرح الباذخ، كما كانت الثورات المحلية المتعاقبة وغزوات النورمانيِّين ودسائس النصارى، كلها تُنذر أنَّ الاستقرار المؤقَّت الذي تنعم به المملكة لم يكن سوى هدنةٍ خادعةٍ حقَّقتها سياسة قويَّة حازمة، وكانت عناصر الاضطراب تُنذر حكومة قرطبة وعرش بني أمية بأعظم الأخطار [2].
تولَّى محمد بن عبد الرحمن الملك في اليوم نفسه الذي تُوفِّي فيه والده، وكان يومئذٍ قد جاوز الثلاثين بقليل، وبعد توليته استدعى محمد إلى مجلس البيعة إخوته التسعة والأربعين، وعمومته، وأهل بيته، وعظماء المملكة، وأُخِذَتْ له البيعة دون خلاف، ثم أُخذت له بيعة الكافَّة في المسجد الجامع أيَّامًا متوالية، وكان محمد بن عبد الرحمن أميرًا ذكيًّا فطنًا بالأمور، وقد تولَّى والأفق الذي ظلَّل عصر أبيه ما زال يحتفظ بلمعانه، وملوك إسبانيا يحسبون حسابه ويشعرون بأنَّه خلفٌ كفءٌ لأبيه، وملوك العدوة القريبين من الأندلس يخطبون ودَّه، وملك الفرنج يسعى إلى عقد السلم معه [3].
أسباب معركة وادي سليط
شاء القدر أن يكون عهد محمد بن عبد الرحمن بداية عصرٍ من أخطر عصور التاريخ الأندلسي وأشدهم خطرًا على مُلك بني أمية وعلى دولة الإسلام في الأندلس؛ ذلك أنَّه ما كاد يتبَّوأ العرش حتى بدأت طلائع تلك الثورة الجارفة التي قدر له أن يضطلع بكفاحها طوال حكمه، الذي امتدَّ خمسةً وثلاثين عامًا.
فبعد أيَّامٍ قلائل فقط من ارتقائه للعرش ثار أهل طليطلة بتحريض من مسوقة بن مطرَّف أحد الزعماء الخوارج، واشتعلت الثورة داخل المدينة، إلَّا أنَّ الأمر انتهى بهزيمة جند الأمير محمد بن عبد الرحمن أثناء مقاومتهم للثوار [4].
المسير إلى معركة وادي سليط
بعد انتصارهم على جند الأمير محمد بن عبد الرحمن في طليطلة قام الخوارج من أهل قرطبة يهاجمون بعض القلاع الأخرى وقتل كثيرٍ من أهلها، عندئذٍ شعر الأمير محمد بن عبد الرحمن بما يُهدِّد عاصمته قرطبة من الأخطار، فقرَّر أن يخرج إلى طليطلة بنفسه ليُلقي على ثوارها درسًا عميق الأثر، فسار إليها في (المحرم سنة 240هـ= يونيه 854م) على رأس قوَّة كبيرة، وكانت أوَّل حملة يقودها بنفسه بعد تبوُّئه الملك [5].
كان عماد الثورة في مدينة طليطلة جمع كبير من المولدين [6] والنصارى، الذين كانوا يتطلَّعون دائمًا إلى الاستعانة بملك النصارى، ولمـَّا استشعروا عزم محمد بن عبد الرحمن على قتالهم بادروا بالفعل بالاستعانة بملك نافار وبأردونيو (أردن) ملك ليون، فأمدهم أردونيو بقوَّةٍ على رأسها الكونت غاتون [7].
أحداث معركة وادي سليط
كان تأييد النصارى للثوار في طليطلة ضدَّ محمد بن عبد الرحمن قرطبة عاملًا في إذكاء حماسة المسلمين، فهرعت جموع كبيرة إلى جيش الأمير محمد، ومنهم كثيرٌ من الفرسان الأشراف وذوي الحسب، وسار محمد بن عبد الرحمن صوب طليطلة في بعض قوَّاته، وترك بقيَّة جيشه الكثيف مستترًا بالتلال التي تُظلِّل وادي سليط [8].
فلمَّا رأى أهل طليطلة قلَّة جيش محمد بن عبد الرحمن خرجوا لقتاله ومعهم حلفاؤهم النصارى وهم على ثقةٍ من الظفر، فارتدَّ محمد بجنوده نحو وادي سليط متظاهرًا بالهزيمة، وعندئذٍ برزت قوَّات الأندلس من مكامنها، وأطبقت على الثوار وحلفائهم النصارى، وهزموهم شرَّ هزيمة [9].
نتائج معركة وادي سليط
كانت معركة وادي سليط معركة هائلة مُزِّقت فيها جموع الطليطليِّين والإسبان في ساعاتٍ قلائل من الصباح إلى الضحى، وقُتِل منهم مقتلة عظيمة تُقدِّرها الرواية الإسلامية بأحد عشر ألفًا، وقيل: بل عشرين ألفًا، وأُسِر منهم كذلك عددٌ كبير، بينهم كثيرٌ من القساوسة وقد أُعْدِموا على الفور، ورُصَّت رءوس القتلى وأُذِّن فوقها لصلاة الظهر، فكان حقًّا كان نصرًا عظيمًا[10]، ووقعةٌ من أمَّهات الوقائع التي لم يُعرف بالأندلس قبلها مثلها[11].
[1] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1417هـ= 1997م، 1/ 289، وانظر: ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، دار الثقافة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1983م، 2/ 94.
[2] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 288، 289.
[3] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 290.
[4] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 291، 292، وانظر: ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، 2/ 94.
[5] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 292.
[6] المولدين: هم أبناء الذين أسلموا من أهل الأندلس الأصليين، فقد كان الأب عربيًا أو أمازيغيًّا بربريًّا والأم أندلسية، انظر: راغب السرجاني: قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط، مؤسسة اقرأ، القاهرة، الطبعة الأولى، 1432هـ= 2011م، 1/ 88.
[7] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 292.
[8] وادي سليط: هو نهر صغير جنوب طليطلة. المقري: نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب، دار صادر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1968م، 1/ 350.
[9] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 1/ 292، 293، وانظر: ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، 2/ 94، 95.
[10] محمد عنان: دولة الإسلام في الأندلس 1/ 293، وانظر: ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ، 2/ 95.
[11] ابن عذاري: البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، دار الثقافة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1983م، 2/ 111.
التعليقات
إرسال تعليقك