الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
على الرغم من أن مدينة مكناس في بلاد المغرب تعرَّضت لكثيرٍ من عوامل الهدم على مرِّ العصور فإنَّ جدرانها لا زالت ماثلةً كالجبال الشوامخ، فما قصة هذه
قال ابن الخطيب: "مكناسة مدينة أصيلة وشعب للمحاسن وفضيلة، فضَّلها الله تعالى ورعاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، فجانبه مريع وخيرها سريع".
وقال صاحب البستان[1]: "لو اجتمعت آثار دول ملوك الإسلام لرجح بها ما بناه السلطان الأعظم المولى إسماعيل في قلعة مكناس دار ملكه، ولم تزل تلك البناءات على طول الدهر قائمةً كالجبال لم تخلفها عواصف الرياح ولا كثرة الأمطار والثلوج ولا آفات الزلازل، وقد شاهدنا آثار الأقدمين بالمشرق والمغرب وبلاد الترك والروم فما رأينا مثل ذلك في دولهم ولا شاهدناه في آثارهم، وكلُّ من شاهد تلك الآثار من سفراء الترك والروم يعجب من عظمتها، ويقول: ليس هذا من عمل بني آدم ولا يقوم به مال!!
أصل تسمية مكناس
مكناس أو مكناسة الزيتون مدينة مشهورة بالمغرب الأقصى، وأُضيفت إليها كلمة الزيتون لشهرتها به، وسُمِّيت بمكناسة نسبةً إلى قبيلة مكناسة البربرية الشهيرة التي سكنت في سالف الدهور في تلك المنطقة التي تأسَّست فيها المدينة.
مدينة مكناس قبل عهد الدولة العلوية
كانت مدينة مكناس من الأمصار القديمة بأرض المغرب، وقد بناها البربر قبل الإسلام، ولما جاءت دولة الموحدين حاصروها ثم افتتحوها عنوة وخربوها، ثم بنوا مكناس الجديدة واعتنى بها بنو مرين من بعدهم فبنوا قصبتها وشيدوا بها المساجد والمدارس والزوايا وجعلوها كرسي للوزارة، واختصت مكناس بطيب التربة وعذوبة الماء وصحة الهواء وسلامة المختزن من التعفين وغير ذلك، وقد وصفها ابن الخطيب في مواضع من كتبه واثنى عليها نظمًا ونثرًا وأنشد قول ابن عبدون من أهلها فيها:
يكفيك من مكناسة أرجاؤها ... والأطيبان هواؤها والماء
مدينة مكناس ومكانتها أيام الدولة العلوية الشريفة
مكناس .. عاصمة المغرب ومقر الحكم
في سنة (1082ه= 1671م) تُوفِّي المولى الرشيد ثاني ملوك الدولة العلوية[2]، وبعد وفاته اجتمع الناس على أخيه المولى إسماعيل وبايعوه واتَّفقت كلمتهم عليه، وبعد أن تولَّى المولى إسماعيل الحكم قضى على بعض الفتن الداخلية التي ظهرت في بداية حكمه، ثم نهض إلى مكناس في سنة 1084ه وأخذ في ترتيب أمور دولته.
تجديد مكناس وجعلها حاضرة المغرب
لمـَّا كانت مكناس بهذه المثابة كان المولى إسماعيل لا يبغي بها بدلًا، فلمَّا فرغ من أمر الفتن في دولته شرع في تجديد بنائها، وأطلق أيدي الصناع في البناء ومداومة العمل، وجلبهم من جميع حواضر المغرب.
فأسَّس المسجد الأعظم بداخل القصبة مجاورًا لقصر النصر، الذي كان أسَّسه في دولة أخيه المولى الرشيد، ثم أسس الدار الكبرى.
وقد استمرَّ السلطان المولى إسماعيل بمكناس قائمًا على بناء حضارتها بنفسه، وكلَّما أكمل قصرًا أسَّس غيره، ولمـَّا ضاق مسجد القصبة بالناس أسَّس الجامع الأخضر أعظم منه، وجعل له بابين؛ بابًا إلى القصبة وبابًا إلى المدينة، وجعل لهذه القصبة عشرين بابًا في غاية السعة والارتفاع، وفوق كلِّ بابٍ منها برجٌ عظيمٌ عليه من المدافع النحاسيَّة والمتاريس الحربيَّة ما يقضي منه العجب.
وجعل في هذه القصبة بركةً عظيمةً تسير فيها الفُلك والزوارق للنزهة والانبساط، وجعل بها هريًا[3] عظيمًا لاختزان الطعام من قمحٍ وغيره يسع زرع أهل المغرب، وجعل بجواره سواقي للماء، وجعل في أعلاها برجًا عظيمًا لوضع المدافع الموجهة إلى كلِّ جهة، وجعل بها إصطبلًا عظيمًا لربط خيله وبغاله، يقال: إنَّه كان مربوطًا بهذا الإصطبل اثني عشر ألف فرس، مع كل فرسٍ سائسٌ من المسلمين وخادمٌ من أسرى النصارى، ويُجاور هذا الإصطبل بستانٌ على قدر طوله فيه من شجر الزيتون وأنواع الفواكه كل غريب، وطوله فرسخ وعرضه ميلان، إلى غير ذلك ممَّا لا يُحيط به الوصف[4].
الحركة العلمية في مدينة مكناس
كان بمدينة مكناس علماء أجلة، من مشاهيرهم: الشيخ الفقيه القاضي الصالح محمد بن ورياش، ومحمد بن أبي الفضل بن الصباغ، و-أيضًا- الحافظ محمد السطي، والأستاذ الزواوي، وغير ذلك من الفقهاء والعلماء الذي كان لهم أكبر الأثر.
وبداخل مكناس الكثير من الزوايا والمدارس لبثِّ العلم، و-أيضًا- بها عائلات أندلسيَّة اشتهر من بين أفرادها عدَّة علماء، كما أنتجت عدَّة شعراء مجيدين.
[1] وهو عماد الدين أبو حامد محمد بن محمد الأصفهاني (المتوفى 597هـ).
[2] الدولة العلوية إحدى الدول المستقلة في بلاد المغرب الأقصى، وأوَّل ملوكها هو المولى محمد بن الشريف بن علي الشريف المراكشي بن محمد بن علي بن يوسف بن علي الشريف السجلماسي ابن الحسن بن محمد بن حسن الداخل ابن قاسم بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي محمد بن عرفة بن الحسن بن أبي بكر بن علي بن الحسن بن أحمد بن إسماعيل بن قاسم بن محمد النفس الزكية ابن عبد الله الكامل ابن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يزال أسرة الأشراف العلويين في حكم البلاد إلى يومنا هذا.
[3] الهري: بيت كبير ضخم يُجمع فيه طعام السلطان، وخليج ضيق أو مجتمع ماء تستمد الآلات الرافعة منه الماء.
[4] السلاوي: "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"، تحقق: جعفر الناصري، محمد الناصري، دار الكتاب، الدار البيضاء، 7/ 3 – 56، وانظر: عبد الرحمن بن زيدان "إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس"، تحقيق: دكتور علي عمر، مكتبة الثقافة الدينة، الطبعة الأولى، 1429هـ= 2008م، 1/ 44- 280، وابن غازي: الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون، تحقيق: عبد الوهاب ابن منصور، المطبعة الملكية، الرباط، الطبعة الثانية، 1408ه= 1988م، ص8-70، وكاتب مراكشي: "الاستبصار في عجائب الأمصار"، دار الشئون الثقافية، بغداد، 1986م، 1/ 187، 188، وعلي المنتصر الكتاني: "انبعاث الإسلام في الأندلس"، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1426هـ= 2005م، ص394.
التعليقات
إرسال تعليقك