التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
على الرغم من أنَّ الجانب الجهادي لم يكن الجانب الوحيد في حياة محمد الفاتح إلاَّ أنَّ كل لحظةٍ من لحظات حياته كانت مشغولة بالجهاد وبالإعداد له.
سَأَلَ عَلْقَمَةُ رَحِمَه اللهُ عَائِشَةَ أمَّ المؤمنين رضي الله عنها: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، يَخْتَصُّ مِنَ الأَيَّامِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: «لا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يُطِيقُ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُطِيقُ؟» [1].
والمقصود من كلمة «ديمة» هو العمل الدائم المستمر غير المنقطع، وترى عائشة رضي الله عنها أنَّ استمراريَّة العمل بالطاقة نفسها والجهد أمرٌ صعب لا يطيقه عامَّة الناس، ولهذا خفَّف رَسُولُ اللهِ ﷺ على أمَّته، فقال عندما سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» [2].. فليس الأهمُّ هو الكثرة؛ إنَّما -بنصِّ الحديث- الديمومة..
وكلمة «ديمة» هذه تشرح حياة محمد الفاتح رحمه الله!
وهناك نقطةٌ مهمَّة ملاحَظَة في كلِّ حياته رحمه الله، وهي نقطة حفاظه على استمراريَّة العمل بنشاطٍ في كلِّ فترات حياته، وعدم وجود فترات راحة طويلة في هذه الحياة.
إنَّ البقاء «نشيطًا» ثلاثين سنةً كاملةً دون توقُّفٍ أمرٌ صعبٌ حقًّا!
حيث كان العمل في حياة الفاتح «كثيرًا دائمًا»، وليس «قليلًا دائمًا»، وهذا لا يُحقِّقه إلَّا قليلٌ من البشر، وصدق رَسُولُ اللهِ ﷺ إذ يقول فيما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً»[3].
ولنأخذ الجانب الأعظم في حياة الفاتح، وهو جانب الجهاد في سبيل الله، كمثالٍ لتوضيح هذه الملاحظة. إنَّنا نرى في حياة كثيرٍ من القادة والزعماء فترة نشاطٍ معيَّنة يُحقِّق فيها بعض الإنجازات، ثم نجد بعد ذلك هدوءًا في حياته، وغيابًا للأحداث الكبرى، بمعنى أنَّ فترات النشاط في حياة القادة يُمكن تحديدها بشكلٍ واضح، ويُمكن أن تكون هذه الفترات في أوَّل أيَّام حكمه، أو في نهايتها، وأحيانًا تكون هنا وهناك بصورةٍ متقطعة، أمَّا أن يحتار المؤرِّخ في تحديد فترة النشاط في حياة القائد أو الزعيم فهذا أمرٌ غير متكرر كثيرًا.
فهل يُمكن أن نُحدِّد فترة «النشاط» في جانب الجهاد في حياته؟!
إنَّ هذا أمرٌ مستحيل؛ فالنشاط الجهادي يشمل حياته كلَّها بلا انقطاعٍ ولا فتور!
اختلف المؤرِّخون في عدد الحملات الهمايونيَّة؛ أي في عدد الحملات التي خرج فيها السلطان محمد الفاتح بنفسه، فذكر أوزتونا أنَّها خمسٌ وعشرون حملةً [4]، وذكر آخرون أنَّها ثماني عشرة فقط[5]، ويرجع السبب في الاختلاف إلى عدم اكتمال بعض الحملات فأحصاها بعضهم، وأهملها آخرون، أو بسبب تحرُّك حملةٍ واحدةٍ إلى أكثر من مكان فتُحْسَب عند بعضهم حملةً واحدة، ويحصيها آخرون أكثر من واحدة.
وقد قمتُ بعمليَّة إحصاءٍ لهذه الحملات فوجدتُها أربعًا وعشرين حملة، بالإضافة إلى الحملة الخامسة والعشرين، التي لم تكتمل لوفاته في أولها، وهذه الحملات موزَّعةٌ على الثلاثين سنةً التي حكمها الفاتح بشكلٍ متوازنٍ جدًّا، وهذا يعني أنَّ الفاتح رحمه الله كان يخرج بنفسه على رأس الجيش كلَّ خمسة عشر شهرًا، فإذا أخذنا في الاعتبار أنَّ الحملة الواحدة كانت تأخذ عدَّة شهورٍ، لتباعد المسافات، ووعورة الأرض، وكثرة العوائق الجغرافيَّة، ناهيك عن المطاولة في الحصار عند القلاع والمدن، إذا أخذنا كلَّ ذلك في الاعتبار علمنا أنَّه رحمه الله قضى حياته كلَّها في الجهاد..
أمَّا بخصوص الديمومة التي نتحدَّث عنها فإنَّه يكفي أن ننظر إلى تواريخ الحملات لنُدرك ديمومة جهاده رحمه الله، فالحملة الأولى التي خرج فيها كانت في عام ولايته نفسه؛ أي في عام 1451م، والحملة الأخيرة كانت في عام 1478م؛ أي قبل وفاته بثلاث سنوات فقط، آخذين في الاعتبار أنَّه خرج كذلك في عام وفاته نفسه -أي في عام 1481م- في حملةٍ عسكريَّةٍ إلى وجهةٍ غير معلومة، ولكنَّها لم تتم لوفاته المفاجئة.
وإذا نظرنا إلى تواريخ الحملات أيضًا وجدنا أنَّه لا تكاد تمرُّ سنتان إلَّا ونرى حملة، بمعنى أنَّه ليس هناك تركيزٌ للحملات في السنوات الأولى مثلًا، أو في الأخيرة، أو في غيرها؛ إنَّما هناك توزيعٌ متناسقٌ جدًّا، وهذا لا يعني إلَّا شيئًا واحدًا، وهو «ديمومة الجهاد»، فلا يكاد ينتهي من حملةٍ وتوابعها حتى يقوم بالتجهيز لحملةٍ أخرى مباشرة.
وينبغي لفت النظر إلى أنَّ الحملات الهمايونيَّة هي التي خرج فيها السلطان بنفسه، أمَّا معارك الدولة العثمانيَّة التي أرسل فيها الفاتح قادةً آخرين لقيادة الجيوش فهي معارك كثيرة، فإذا أخذنا هذه المعارك في الاعتبار، وأدركنا أنَّ الفاتح كان يُشارك في الإعداد، ويُتابع الخطوات، ويتفاعل مع النتائج، علمنا أنَّ «كلَّ» لحظةٍ من لحظات حياته كانت مشغولةً بالجهاد، أوبالإعداد له، أو بمتابعة نتائجه.
هذه هي الديمومة التي نتحدَّث عنها!
لم يكن الجانب الجهادي هو الجانب الوحيد في حياة الفاتح، بل إنَّ هناك جوانب أخرى كثيرة في المجالات السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والعلميَّة، والاجتماعيَّة، وغيرها، ومن المهمِّ أن نُشير إلى أنَّ «الديمومة» التي نتحدَّث عنها في جانب الجهاد كانت موجودةً كذلك في بقيَّة الجوانب، وما توقَّفت قط حركة الإعمار، والبناء، ووضع القوانين، وتسيير الدولة بشكلٍ سلسٍ ومتوازن، وذلك من أوَّل أيَّام حكمه وإلى آخر أيَّام حياته.
ومن الجميل أن نعلم أنَّ استمراريَّة العمل الجادِّ في حياة الفاتح وديمومتها لم تكن تتأثَّر بالعوارض الكثيرة التي يُمكن أن تقف عائقًا أمام هذا الكدِّ المتواصل عند بعض الناس، وما أكثر العوائق التي يُمكن أن تُحْدِث هذا التوقُّف، لكنَّها لم تكن تفعل ذلك مع الفاتح الكبير.
من هذه العوائق مثلًا المرض، وكان من المعروف أنَّ السلطان محمدًا الفاتح يُعاني من النقرس، وأنَّه كان يُسبِّب له آلامًا مبرحةً في قدمه [6]، وهو ابتلاءٌ شديدٌ لرجلٍ يحتاج إلى ركوب الخيل، والسير لمسافاتٍ طويلة، ومقارعة الجيوش بالسيوف، والبقاء لشهور خارج بيته أو عاصمته، ومع ذلك فإنَّ هذا لم يُوقف جهاده، ولقد نقل المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون رسائل سفير ميلانو لرئيس الدوقيَّة بخصوص حملة الفاتح على البوسنة في عام 1464م، وذكر فيها أنَّ الفاتح يُعاني من اعتلالٍ كبيرٍ في صحَّته [7]، فهذا يعني أنَّ المرض مبكِّرٌ جدًّا في حياة الفاتح، فعمره في هذه الحملة كان اثنين وثلاثين عامًا، وقد ظلَّ مريضًا إلى آخر عمره بهذا الداء، فهذه سبعة عشر عامًا من الإعاقة، ومع ذلك فهي لم تُؤثِّر في «ديمومة» جهاده رحمه الله.
ومن عوائق الديمومة أيضًا تقدُّم السنِّ، ومع أنَّ الفاتح مات صغيرًا نسبيًّا -أي دون الخمسين من عمره- فمن المؤكَّد أنَّ جهد الشاب في العشرينيَّات من عمره ليس كجهد الرجل المتجاوز الأربعين، ولقد وجدتُ مؤلَّفاتٍ كثيرةً تتحدَّث عن صحَّة الرجال بعد عمر الأربعين، وذلك لأنَّه من الثابت أنَّ هناك تأثُّرًا ملموسًا في الوظائف العضويَّة والنفسيَّة بعد هذه السنِّ [8]، فكيف كان حال الفاتح في ديمومة جهاده بعد هذه السنِّ؟!.
إذا نظرنا إلى تواريخ الحملات الهمايونيَّة وجدنا أنَّه قام بعد هذا العمر بأربع حملاتٍ كبرى، لعلَّها أكبر حملاته قاطبةً بعد حملة القسطنطينية، فكانت أولاها ضدَّ أوزون حسن في صحراء أوتلق بلي عام 1473م، وكانت الثانية ضدَّ استيفين الثالث أمير البغدان في عام 1476م، وكانت الثالثة ضدَّ ماتياس ملك المجر في العام نفسه؛ أي في 1476م، وكانت الرابعة حملةً طويلةً في ألبانيا عام 1478م فتح فيها مدينة كرويه، وعدَّة مدنٍ أخرى، وحاصر شقودرة، بل سنجد حملةً خامسةً أخيرة، وهي التي لم تكتمل بسبب وفاته عام 1481م. كانت هذه الحملات من أشقِّ حملاته، وأبعدها عن إسطنبول، ومن أطول حملاته زمنًا، ومن أشدِّها عنفًا، ومن أكثرها جهدًا.. يفعل كلَّ ذلك وهو السلطان الذي لو كلَّف غيره بالخروج ما لامه أحد.
ومن عوائق الديمومة أيضًا التعلُّق بالأسرة؛ أي بالزوجات والأولاد وحياة الاستقرار، وهذا ليس أمرًا غريبًا، بل لاحظه بعض الصحابة على أنفسهم، وذلك كما في حديث حنظلة عندما ظنَّ في نفسه النِّفاق، وكان السبب في ذلك انشغاله بالأسرة. قال حَنْظَلَةُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً». ثَلَاثَ مَرَّاتٍ [9].
ولاحِظْ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ هنا يتحدَّث عن صعوبة «الديمومة» على الروح الإيمانيَّة العالية نفسها التي يكون عليها الصحابة في مجالس العلم والذكر، وسبب الصعوبة هو الإعاقة بالأسرة، وهي إعاقةٌ طبيعيَّةٌ فطريَّة لأنَّ كلَّ الناس يتعلَّقون بزوجاتهم وأولادهم.
أين هذا في حياة الفاتح؟!
فهل شُغِل بأسرته وقَطَعَت عنه ديمومة جهاده؟!
إنَّ هذا في الواقع لم يحدث!
وليس هذا فقط، بل كان الفاتح رحمه الله يُكمل العمل، ويستمرُّ في إدارة الأمور، و«يُداوم» على الجهاد والنضال، على الرغم من مصيبة فَقْدِ ابنه الأوسط مصطفى، الذي مات فجأةً وهو في الثالثة والعشرين من عمره! إنَّها مصيبةٌ تقصم ظهور رجالٍ كثيرين، ولكن الفاتح حَمِد اللهَ واسترجع، وأكمل مسيرته!
هل لم يحزن الفاتح على فقد ابنه؟!
الإجابة أنَّه حزن كثيرًا وطويلًا، ولكن هذا الحزن لم يكن عائقًا له عن استكمال مسيرة العمل. ليست هذه قسوة قلب؛ إنَّما تقدير مسئوليَّة، وفهم واقع، ولن يُدرك ذلك إلَّا قلائلُ من البشر.
لم تكن الأسرة، أو النساء، أو الأولاد عائقًا إِذَنْ عن ديمومة جهاد الفاتح رحمه الله.
بل لم تكن الملذَّات بشكلٍ عامٍّ تشغل ذهن الفاتح؛ فقد ذكر الإمام السخاوي المعاصر له، أنَّه كان منخفضًا في اللذات [10].
وهناك عاملٌ مهمٌّ آخر غير العوامل التي ذكرناها يُمكن أن يحول دون ديمومة الجهاد والعمل المتواصل، وهو الإحباط! فالمحبط لا يقوى على العمل، بل لا يرغب فيه أصلًا، وكان رَسُولُ اللهِ ﷺ يستعيذ بالله من العجز والكسل [11]، فهذه أبرز صفات المحبَطين، والإحباط يأتي من عوامل كثيرة؛ منها مثلًا تعرُّض المرء للخسارة، والواقع أنَّ جيوش الفاتح تعرَّضت للخسارة كثيرًا في معاركها المتتالية، وكانت واحدة من هذه الخسائر في وجود الفاتح شخصيًّا، وهي خسارة معركة بلجراد عام 1456م.
لكنَّ الشاهد هنا أنَّ الخسائر المتكرِّرة للفاتح في معارك متعدِّدة لم تُضعف قوَّته، ولم تدفعه إلى العجز والكسل، ولم تُؤدِّ إلى إحباطه، ولم تُوقِف ديمومة جهاده؛ بل كان يستخدم هذه الخسارة كقوَّةٍ دافعةٍ له ولجيشه للوقوف من جديد، وتُشجِّعه هذه الخسارة على التعويض والفوز، فكان يُتْبِع الخسارة بنصرٍ يمحو بها الآثار النفسيَّة التي تحدث عند الناس من تكرار الأزمات.
وقد يحدث الإحباط نتيجة تعرُّض المرء لخسائر لا دخل له فيها بشكلٍ مباشر، وذلك مثل ما ينجم عن الكوارث الطبيعيَّة الكبرى، التي تُفْقِد الإنسان كثيرًا من ممتلكاته، وتُوقِف كثيرًا من مصالحه، فيشعر بالإحباط نتيجة عجزه عن الوقوف أمام الكارثة الكبرى، لكن هذا الإحباط لم يحدث كذلك في حياة الفاتح مع تعرُّضه لكوارث طبيعيَّة كبيرة، كان منها على سبيل المثال طاعونٌ شديدٌ ضرب عاصمته إسطنبول عام 1467م [12].
لم تُحْبِط هذه الكارثة السلطان محمد الفاتح رحمه الله، بل تعامل مع الأمر بواقعيَّة، وبعد انتهاء الطاعون أكمل العمل في إعادة إعمار المدينة التي فقدت العاصمة أكثر من ثلث أهلها [13].
لم تؤدِّ إِذَنْ كلُّ العوامل التي يُمكن أن تُقلِّل من حماسة إنسانٍ إلى الحدِّ من جهد الفاتح المتواصل! إنَّه عملٌ دءوبٌ لا بُدَّ أن يلفت النظر!
إنَّ هذا أمرٌ يحتاج إلى دراسةٍ متعمِّقةٍ لفهم طبيعة هذه الروح التي لا تعرف الكسل.. إنَّ مَرَدَّ ذلك لا شَكَّ يعود إلى أمور كثيرة متفاعلة، أهمها ثلاثة عوامل حافظتْ على هذه «الديمومة» في حياة الفاتح النموذج..
أمَّا العامل الأوَّل فهو قوَّة العقيدة، وعمق الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأنَّ المؤمن الواعي يُدرك أنَّ الله يُحاسب على العمل وليس على النتيجة، ومِنْ ثَمَّ فالساعي إلى العلاج مأجورٌ ولو لم يتم الشفاء، والمقاتل الآخذ بالأسباب الصحيحة للنصر مأجورٌ ولو لم يتحقَّق له الفوز، فهذا كان يدفعه إلى العمل بشكلٍ «دائم»، لأنَّه مأجورٌ في كلِّ الأحوال. قال تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الشورى: 36].
وأمَّا العامل الثاني فهو إحاطة الفاتح نفسه بالعلماء؛ فإنَّ همَّة الفرد تفتر أحيانًا فيحتاج إلى تذكير. قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55]، ومَن أفضل مِنَ العلماء للقيام بهذا الدور؟ ومن المؤكَّد أنَّ الفاتح -كإنسان- كان يتعرَّض أحيانًا للفتور النسبي، ولكن وجود العلماء كان يجعل هذا الفتور قليلًا، أو كانوا يدفعونه إلى استغلال الفتور على نحوٍ شرعي، أو كما يقولون: «استراحة المحارب»! بمعنى أنَّه يستغلُّ لحظات الفتور استغلالًا إيجابيًّا يدفعه إلى مزيد عملٍ في الفترات اللاحقة، وهو ما يُمكن أن نفهمه من حديث رَسُولِ اللهِ ﷺ الذي رواه عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍورضي الله عنهما، وقَالَ فيه: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ» [14].
فمِنَ الحديث نفهم أنَّ الفتور يحدث لكلِّ الناس، ولكلِّ الأعمال، وأنَّ النشاط (الشِّرَّة) من الطبيعي أن يتحوَّل إلى فتورٍ في إحدى اللحظات، ولكن ينبغي أن يكون هذا الفتور داخل إطار السُّنَّة النبويَّة، وهذا له حدودٌ يعرفها العلماء في كلِّ موقف، ولهذا إذا كان العبد مصاحبًا للعلماء، وملازمًا لهم، فإنَّهم يدلُّونه على صواب السُّنَّة في كلِّ أحواله، وهذا ما يضمن له «ديمومة» العمل الصالح.
أمَّا العامل الثالث والأخير في هذا الصدد فهو طموحه الكبير، فهذا الطموح في حدِّ ذاته يدفعه إلى ديمومة العمل؛ لأنَّه مهما حقَّق من نجاحٍ فإنَّه يرنو إلى ما هو أعلى منه، وإذا حدث له فشلٌ قام من كبوته بسرعةٍ ليُحقِّق الطموح الذي يحلم به.
لقد وصفت المؤرِّخة الأميركيَّة ليندا دارلينج، محمد الفاتح بأنَّه كان متحمِّسًا لفتح العالم كلِّه [15]! وصدقت المؤرِّخة الأميركيَّة في وصفها لطموح الفاتح، ولقد كان المؤرِّخ التركي طورسون يصف الفاتح بأنَّه «حاكم العالم»، وكان كيفامي أيضًا يصفه بالوصف نفسه، «حاكم العالم» [16]، فإذا أخذنا في الاعتبار أنَّ المؤرِّخين طورسون وكيڤامي كانا معاصِرَين للفاتح أدركنا أنَّ طموح «فتح العالم» هو الذي كان يُحرِّك الفاتح في معاركه ونضاله، وهذا في الواقع يُفسِّر لنا كلَّ شيء! [17].
[1] البخاري: كتاب الصوم، باب هل يخص شيئًا من الأيام (1886)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (783) واللفظ له.
[2] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (782)، وأحمد (25512)، وأبو يعلى، 1984م (4533).
[3] البخاري: كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة (6133)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب قوله r الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة (2547) واللفظ له.
[4] يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، 1988م، 1/169.
[5] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973, p. 75.
[6] Kinross Patrick Balfour Baron The Ottoman Centuries: The Rise and Fall of the Turkish Empire [Book]. - London : Cape,, 1977,p. 157.
[7] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, p. 250.
[8] Sundar Geeta and G Vassilakis Health After Forty [Book]. - India : Macmillan Publishers India Limited, et al., 2002.
[9] مسلم: كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات والاشتغال بالدنيا (2750)، والترمذي (2514).
[10]السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، دار الجيل، بيروت، لبنان، 1412هـ= 1992م، 10/47.
[11]عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ». البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب ما يتعوذ من الجبن (2668)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره (2706).
[12] Alchon Suzanne Austin A Pest in the Land [Book]. - Albuquerque, USA : University of New Mexico Press, 2003, p. 21.
[13] Woodhead Christine The Ottoman World [Book]. - New York, USA : Routledge, 2012, pp. 251-263.
[14] أحمد (6958)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وابن حبان، 1993م (11)، وصححه الألباني، 2003م (11).
[15] Darling Linda T. A History of Social Justice and Political Power in the Middle East [Book]. - london, UK : Routledge, 2013, p. 131.
[16] Hosaflook David Marin Barleti: The Siege of Shkodra: Albania's Courageous Stand Against Ottoman Conquest, 1478 [Book]. - Albania : Onufri Publishing House, 2012, pp. 217-221.
[17] هذا المقال من كتاب "قصة محمد الفاتح" للدكتور راغب السرجاني، ويمكنك شراء الكتاب من خلال صفحة دار أقلام أو الاتصال برقم 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك