التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
نص رسول الله على حتمية قرشية إمام المسلمين، فقال: الأئمة من قريش، وقال: إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين..فما
مسألة الخلافة:
أُسِر الخليفة العباسي الأخير المتوكل على الله في موقعة مرج دابق عام 1516م، واحتفظ به السلطان سليم الأول أسيرًا، بل سيأخذه معه إلى إسطنبول عند عودته[1]، ولن يعود إلى مصر إلا بعد وفاة السلطان العثماني، وبذلك تكون الخلافة العباسية الصورية في مصر قد سقطت بشكلٍ نهائي.
كان المماليك يحتفظون بخليفة عباسي صوري في مصر منذ عام 1260 (659 هجرية)[2]، ولم يكن له شأنٌ في الحكم، إلا أنه كان يُعطي شرعيَّةً لحكم المماليك، لأن المماليك ليسوا قُرَشِيِّين، وقد نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حتميَّة قُرَشِيَّة إمام المسلمين، فقد قال: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ..»[3]، وقال: «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ، إِلَّا كَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ»[4]، وقال: «لاَ يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ»[5].
فالمسألة محسومةٌ في كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم، وتهدف إلى سهولة تجميع المسلمين تحت رايةٍ واحدة، فالمسلمون جميعًا يُوَقِّرون قريشًا، لكون الرسول صلى الله عليه وسلم منها، ولكونها أعظم القبائل شرفًا، وأرعاهم لبيت الله الحرام، فعموم المسلمين سوف يوقِّرون الخليفة إذا كان قرشيًّا، وهذا يدفعهم إلى اتِّباعه إذا جاءت فرصةُ وحدةٍ، بعكس ما لو كان الخليفة من أيِّ قبيلةٍ أخرى، فعندها ستظهر النوازع القَبَليَّة الحتميَّة، وسيكون التفاضل بين القبائل دافعًا لصدامٍ لا ينتهي، وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى الاتحادي فقال: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ»[6]، فالناس، أي عموم المسلمين، شعوبًا وقادة، سيكونون تبعًا للأئمة القرشيين، ولن يقبلوا بالتبعيَّة لغيرهم.
لهذا، على مدار التاريخ، لم يُحاول أحدٌ من القادة الكبار غير القرشيِّين ادِّعاء هذا المنصب، بدايةً من الأنصار الكرام، وقادتهم العظام، وفي مقدِّمتهم سعد بن عبادة رضي الله عنه، والذي كان أهلًا للخلافة، ومن أهل المدينة التي كانت الدولة الأولى للإسلام، والذي كان قويًّا مؤيَّدًا بالخزرج الأشدَّاء، لولا أنه لم يكن قرشيًّا، فذهبت الخلافة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه القرشي، مع ضعف الفرع الذي ينتمي إليه، وهو فرع بني تميم، لكن «الناس» كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ستكون تبعًا له «لقرشيَّته»، لا تبعًا لسعد بن عبادة رضي الله عنهم جميعًا.
على هذا المنوال سار كبار القادة المسلمين في كلِّ العصور، سواءٌ من الطولونيين، أم الإخشيديين، أم السلاجقة، أم الزنكيين، أم الأيوبيين، أم المماليك. وظلَّ هذا المنصب يأخذ شكلًا دينيًّا على أمل تجميع المسلمين يومًا ما تحت رايةٍ واحدة؛ فالمصريُّ مثلًا لن يجد غضاضةً في اتِّباع القرشي، لكنَّه سيُفكِّر ألف مرَّة في اتِّباع العثماني، أو الألباني، أو المغولي، مهما كان مسلمًا صالحًا، وهذه هي طبيعة الناس عامَّة، والتي يعرفها ربُّهم سبحانه وتعالى، ولهذا شرع هذه القاعدة.
يُضاف إلى هذا أن مظنَّة وجود الأفضل للقيادة ستكون في قريشٍ أكثر من غيرها، وهذا واقعٌ تاريخيٌّ صنعه الله عزَّ وجل، فأفضل البشر قرشي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم[7]، وأفضل المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قرشي كذلك، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والأفضل بعده هم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عنهم، وكلُّهم قرشيُّون، بل العشرة المبشَّرون بالجنة كلُّهم قرشيُّون، واصطفى الله قريشًا لرعاية البيت الحرام قبلة المسلمين[8]، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة مع بني عبد الدار وهم قرشيُّون[9].
إن وجود الأفاضل في قريش بهذه الصورة يجعل احتمال وجود الأفضل فيهم لاحقًا أعلى، ولذلك شَرَعَ اللهُ عز وجل أن يكون الإمام منهم، لكي تكون هناك فرصةٌ أعلى لوجود شخصٍ أفضل، ولقد صرَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل قريشٍ على بقيَّة العرب فقال: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»[10]، فهذا الاصطفاء يقضي الخيرية، وبنو هاشم أفضل القرشيين بهذا الحديث، لكن لم يشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحصر الإمامة فيهم لكونهم قليلي العدد، فأراد أن يُوسِّع على الناس في الاختيار، فذكر أن الإمامة تكون في أيِّ قرشي، وليس بالضرورة أن يكون هاشميًّا، وإن كان هذا لا يمنع بالطبع أن يكون هناك أفرادٌ من قبائل أخرى غير قرشيَّة أكثر فضلًا من كثيرٍ من القرشيِّين، وها هم الأنصار جميعًا من غير قريش، وقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الفضل.
ومع ذلك، فكلُّ هذا لا يمنع أن تكون ولايات الدول، والأقطار، والإمارات، لغير القرشيِّين؛ فالحديث عن شرط «القرشية» خاصٌّ بالخلافة فقط، ولهذا لم يكن هناك بأسٌ من أن يكون هناك حاكمٌ للهند مثلًا من أصل مغولي، أو حاكم للمرابطين بالمغرب من أصل بربري، أو حاكم لمصر من أصل شركسي، أو حاكم للدولة العثمانية من أصل تركي، ومع ذلك كان هؤلاء الحكَّام يحرصون على أخذ «تصديق» الخليفة القرشي -ولو كان الخليفةُ صوريًّا- على قيادتهم لبلادهم، فهذا يُعطيهم رسوخًا قويًّا مرتبطًا بدوافع دينيَّة مهمَّة عند الشعوب المسلمة، وقد رأينا حرص بايزيد الأول مثلًا على تصديق الخليفة العباسي بالقاهرة على إعطائه لقب «سلطان» على الدولة العثمانية، وكذلك فعل يوسف بن تاشفين عند ولايته على دولة المرابطين الكبرى، فطلب تقليدًا للبلاد التي يحكمها من الخليفة[11]، و-أيضًا- فعل ذلك صلاح الدين الأيوبي عند ولايته للدولة الأيوبية العظيمة[12]، وهكذا.
الآن، وفي أعقاب ما فعله السلطان سليم الأول، صار هذا المنصب شاغرًا، ولن يملئه إلا قرشي، و«الناس» لن تكون تبعًا للأتراك أو الجراكسة، إنما ستكون تبعًا للقرشيِّين فقط، وحيث إن السلطان سليم الأول يخاف من بقاء الخليفة العباسي في القاهرة، لئلَّا يحدث انقلابٌ مفاجئٌ على الحكم العثماني، فإنه أغلق الملفَّ متجاهلًا لأيِّ آثارٍ مستقبليَّة، ولم يبحث عن عباسيٍّ آخر يقوم بالمهمة، حتى عندما جاءه شريف مكة الهاشمي القرشي ليُعلن تبعيَّة الحجاز للدولة العثمانية لم يُفكِّر فيه كخليفةٍ صوري، وهكذا اختفى هذا المنصب في هذا التوقيت.
تُشير بعض الروايات إلى أن الخليفة العباسي المتوكل على الله تنازل عن الخلافة للسلطان سليم الأول[13][14]، ولكن هذه رواياتٌ غير صحيحة[15]، ولم يتنازل الخليفة العباسي، ولا يملك ذلك أصلًا، ولو فعله ما كان العلماء ليقبلوه، بما فيهم علماء الدولة العثمانية، ولم نجد حديثًا عن هذا الأمر في الكتابات المعاصرة للحدث، ولا في خطابات السلطان سليم الأول لابنه سليمان وهو يُبشِّره بالنصر، ولو كان هذا حقيقيًّا لكان الحديث عنه مؤكَّدًا في الخطابات.
-أيضًا- يُؤكِّد العياشي، وهو رحالة وأديب مغربي، في رحلته إلى مكة، أن الخطباء فيها كانوا يدعون على المنابر «لسلطان» الترك[16]، ولم يذكر أن دعاءهم كان لخليفة المسلمين، إنما ذكر بوضوح أنه «سلطان». إن السلطان سليم الأول لم يجرؤ على استعمال لفظ «خليفة المسلمين»، إنما ظلَّ يستعمل لقب «سلطان»، وإن كان قد أضاف إليه بعد انضمام مكة والمدينة إلى الدولة العثمانية لقب: «خادم الحرمين الشريفين»[17]، وكان أوَّل مَنْ استعمل هذا اللقب -على الأغلب- هو صلاح الدين الأيوبي رحمه الله[18].
وعلى طريقة السلطان سليم الأول سار بقيَّة السلاطين العثمانيين، ولم يظهر لقب «الخليفة العثماني» إلا في العهود المتأخرة جدًّا في الدولة، أي في آخر قرنٍ من عمرها، وهي في أشدِّ حالات ضعفها، وكان الغرض من استعماله عند السلاطين العثمانيين المتأخرين، أمثال السلطان عبد المجيد الأول، أو السلطان عبد العزيز، أو السلطان عبد الحميد الثاني، هو محاولة جذب المسلمين من الأقطار المختلفة لإنقاذ الدولة من السقوط بعد تكالب الأعداء عليها[19].
[1] Garcin, Jean-Claude: The regime of the Circassian Mamluks, In: Petry, Carl F.: The Cambridge History of Egypt: Islamic Egypt, 640-1516, Volume 1, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 2008., vol. 1, p. 303.
[2] اليونيني، 1992 صفحة 2/123.
[3] النسائي: كتاب القضاء وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، الأئمة من قريش ( 5942)، وأحمد (19792)، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره وهذا إسناد قوي. وأبو يعلى (3644)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح. والحاكم (6962). وسكت عنه الذهبي في التلخيص.
[4] البخاري: كتاب المناقب، باب مناقب قريش (3309)، والنسائي (8750)، والدارمي (2521).
[5] البخاري: كتاب المناقب، باب مناقب قريش (3310)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش (1820).
[6] البخاري: كتاب المناقب، باب قول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13] (3305)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش (1818).
[7] عن أبي هريرة t عن النبي ﷺ أنه قال: «أَنَا سَيِّدُ القَوْمِ يَوْمَ القِيَامَةِ». البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ﴾ [نوح: 1] (3162).
[8] قال الخطابي: «كانت العرب تُقدِّم قريشًا وتُعظِّمُها، وكانت دارهم موسِمًا، والبيت الذي هم سدنته منسكًا، وكانت لهم السقاية والرفادة يُطعمون الحجيج ويُسقونهم فحازوا به الشرف والرئاسة عليهم». انظر: الخطابي، 1988 صفحة 3/ 1578.
[9] الدينوري، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: المعارف، تحقيق: ثروت عكاشة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الثانية، 1992م.صفحة 70.
[10] مسلم: كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (2276).
[11] ابن الأثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري: الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1997م. صفحة 8/531.
[12] ابن واصل، محمد بن سالم بن نصرالله بن سالم: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق: حسنين محمد ربيع، سعيد عبد الفتاح عاشور، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 1377هـ=1957م.الصفحات 2/25-29.
[13] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م.صفحة 1/531.
[14] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م، 2008 صفحة 214.
[15] إينالچيك، خليل: تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، ترجمة: محمد الأرناءوط، دار المدار الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 2002م. صفحة 92.
[16] العياشي، عبد الله بن محمد: الرحلة العياشية 1661-1663م، حققها وقدم لها: سعيد الفاضلي، سليمان القرشي، دار السويدي للنشر والتوزيع، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2006م.صفحة 1/463.
[17] أمجن، فريدون: مولد الإمارة العثمانية ونموها، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م. صفحة 1/34.
[18] ابن شداد، أبو المحاسن بهاء الدين: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين الأيوبي)، تحقيق: جمال الدين الشيال، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1415هـ=1994م.صفحة 25.
[19] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 401- 405.
التعليقات
إرسال تعليقك