التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يُعتبر فتح المجر سنة 1541م منعطفٌ تاريخيٌّ مهم؛ لذا يُعَدُّ من أعظم انتصارات العثمانيين على إمبراطورية النمسا التي قرَّرت الانتقام في مكان آخر.
فتح جبهة النمسا من جديد، وفتح المجر (1540-1547م)
كانت إمبراطورية النمسا-إسبانيا في هذه المرحلة هي أعتى أعداء الدولة العثمانية؛ ومِنْ ثَمَّ لا تُفْتَح هذه الجبهة إلا وتُعْطَى الأولويَّة، وتُغْلَق الملفَّات الأخرى على قدر الإمكان! ولقد حدث تطوُّرٌ جديدٌ في عام 1540م على الساحة المواجهة للنمسا جعل اهتمام الدولة العثمانية يعود لهذه الجبهة بعد هدوء سبع سنوات!
الحملة الهمايونية التاسعة وفتح جنوب ووسط المجر: (1541م)
قبل الحديث عن تطوُّر عام 1540م نذكر أن اتفاقًا سرِّيًّا عُقِد في 24 فبراير عام 1538 بين أمير النمسا فرديناند وملك المجر التابع للدولة العثمانية چون زابوليا، وهو اتِّفاق خيانة صريح للحكومة العثمانية؛ سواءٌ من زابوليا الذي يتبعها بشكلٍ مباشر، أم من فرديناند المعاهِد لها على بنودٍ معيَّنة من عام 1533م.
هذا الاتفاق عُرِف باسم معاهدة ناچيڤاراد Treaty of Nagyvarad، وفيها اتَّفق الطرفان على اقتسام المجر دون الدولة العثمانية، فيأخذ النمساويون ثلثي البلاد الغربي، ويأخذ المجريون الثلث الشرقي، ويدعم فرديناند المجريِّين في مواجهة العثمانيِّين نظير أن يجعله زابوليا وريثًا له في حكم المجر كلِّها بعد موت زابوليا[1]، وكان زابوليا حتى هذه اللحظة بلا أولاد، فكانت توقُّعات فرديناند لوراثة المجر كبيرة نظرًا إلى مرض زابوليا واحتمال موته عاجلًا[2].
تزوَّج چون زابوليا في أول عام 1539م، بعد المعاهدة بعام تقريبًا، من إيزابيلا Isabella بنت ملك بولندا سيجيسموند الأول Sigismund I، وفي 7 يوليو 1540م أنجب الملك طفلًا أسماه چون كذلك؛ فصار معروفًا بچون الثاني John II، ويُعْرَف كذلك بچون سيجيسموند زابوليا John Sigismund Zápolya للإشارة إلى نَسَبِه للملِكين معًا[3].
أربك هذا الميلاد حسابات فرديناند؛ فقد صار للمجر وليُّ عهدٍ جديد، ثم أُرْبِكت حسابات الجميع بموت الملك زابوليا المفاجئ بعد ميلاد ابنه بأسبوعين في 22 يوليو 1540م[4]! كان مجلس الشيوخ المجري (الدايت Diet) لا يُريد الهيمنة النمساوية فأعلن الطفل الرضيع چون الثاني ملكًا للبلاد؛ وذلك تحت وصاية أمِّه الملكة إيزابيلا. أرسلت حكومة المجر إلى سليمان القانوني تُخبره بتبعيَّة الملك الجديد له، ودفع الجزية التي كان يدفعها أبوه، فأقرَّت الحكومة العثمانية الأمر[5]. لم يرضَ فرديناند بالطبع عن هذا الوضع، وقرَّر التدخل العسكري لحسم الأمر لصالحه.
في صيف 1541م أرسل فرديناند جيشًا نمساويًّا يُقدَّر بخمسين ألف جندي لغزو بودا والسيطرة على حكم المجر. حاصر النمساويون العاصمة الحصينة بدايةً من 4 مايو[6]؛ ولكن المدينة قاومت بشدَّة، واستغاثت في الوقت نفسه بالدولة العثمانية. أدرك سليمان القانوني خطورة الأمر، فقرَّر الخروج بنفسه للمجر، فكانت الحملة التاسعة من حملاته الهمايونيَّة.
توجَّه السلطان سليمان إلى بلجراد فجعلها قاعدةً له، وأرسل مقدِّمةً لجيشه بقيادة الوزير محمد صوقللي إلى بودا للإسراع بفكِّ حصار النمساويِّين لها. التقى الجيش العثماني والجيش النمساوي في موقعةٍ خارج أسوار بودا في 21 أغسطس 1541م، وكان النصر حليف المسلمين بشكلٍ بارز[7][8]. كان قتلى الجيش النمساوي يتجاوزون الستة عشر ألفًا[9]، وهربت بقيَّة الجيش، وفتحت المدينة أبوابها للعثمانيِّين؛ ليُحقِّق الجيش العثماني واحدًا من أعظم انتصاراته نظرًا إلى النتائج المتحقَّقة منه.
أدرك السلطان سليمان القانوني أن فرديناند سيعود مرارًا إلى المجر، خاصَّةً في ظلِّ ولاية طفل بلغ بمشقَّة عامًا واحدًا من العمر، وبوصاية ملكة بولندية شابَّة (23 عامًا) لا تعرف شيئًا عن المجر! هنا قرَّر القانوني أن يجعل نصف المجر الجنوبي ولايةً عثمانية؛ أي تُحْكَم بشكلٍ مباشرٍ من العثمانيِّين، وجعل على قيادتها سليمان باشا والي بغداد السابق (غير سليمان باشا والي مصر)، وترك في بودا حاميةً عسكريَّةً ثابتةً تُقدَّر بستَّة آلاف جندي عثماني، وفي الوقت نفسه جعل القسم الشرقي من البلاد، والمعروف بترانسلڤانيا، تابعًا له تحت حكم الملكة إيزابيلا وابنها الرضيع چون الثاني[10].
يُعتبر هذا التاريخ إذن (1541م) هو تاريخ فتح المجر، وتحويل مدينة بودا العاصمة المجرية إلى مدينة عثمانية، وهو الوضع الذي سيستمر مائةً وخمسين عامًا كاملة، وهو منعطفٌ تاريخيٌّ مهم؛ لذا يُعَدُّ من أعظم انتصارات العثمانيين على إمبراطورية النمسا وإسبانيا.
معركة الجزائر: (1541م)
لم يقبل شارل الخامس إمبراطور النمسا وإسبانيا بهذه الهزيمة المرَّة التي تعرَّض لها أخوه فرديناند في المجر، ولم تكن لديه القدرة الكافية على إعادة الكَرَّة على الجيش العثماني هناك، فقرَّر الانتقام في مكانٍ آخر أضعف، ووقع اختياره على الجزائر. خرج الإمبراطور شارل الخامس بنفسه في 28 سبتمبر 1541م، بعد شهرٍ من هزيمة بودا، على رأس أسطولٍ كبيرٍ من أكثر من خمسمائة سفينة، وأكثر من أربعةٍ وعشرين ألف مقاتل، وبمعونةٍ بابوية، وچنوية، ومن فرسان القديس يوحنا من مالطة[11].
وصل الأسطول النصراني إلى مدينة الجزائر في 19 أكتوبر 1541م، وقام الإمبراطور بعمل إنزالٍ بريٍّ في يوم 23 أكتوبر[12]. كان مصير المدينة محتومًا في ظلِّ هذا التفوُّق العسكري الملموس لصالح الإسبان؛ ولكن الله يفعل ما يشاء! لقد هاجت الريح فجأة، وماج البحر، ولعبت الأمواج العاتية بسفن الأسطول النصراني.
قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31]. في غضون أيامٍ قليلةٍ غرقت 48 سفينة للعدو[13]، وتسارع البحَّارة والجنود إلى الشاطئ بشكلٍ عشوائي. كان هذا الدخول المتدرِّج وغير المنظَّم للجنود النصارى إلى الشاطئ سببًا في سهولة سيطرة الحامية العسكرية العثمانية، مع أفراد من الشعب الجزائري، على الموقف؛ حيث كانوا يقتلون أو يأسرون الجنود القادمين أوَّلًا بأول! هرب الإمبراطور شارل الخامس إلى نقطةٍ تبعد خمس كيلومترات عن موطن إنزاله، وحاول تجميع القوَّات لكن الكارثة كانت أكبر من تصوُّره.
قُتِل في هذه العملية عشرون ألف جندي صليبي[14]، وأُسر عددٌ كبيرٌ بِيع في أسواق الجزائر بأثمانٍ بخسة نظرًا إلى كثرتهم[15]! وصل مجموع السفن المحطَّمة والغارقة إلى مائةٍ وخمسين سفينة[16]! أخيرًا تمكَّن الإمبراطور بصعوبة من الإبحار في يوم 23 نوفمبر[17] عائدًا إلى إسبانيا مثقلًا بواحدةٍ من أكبر الهزائم في تاريخه!
كان لهذا الانتصار، بالإضافة إلى فتح المجر، آثارٌ كبرى على الصراع العثماني النمساوي؛ إذ ستشهد السنوات الست القادمة تفوُّقًا عثمانيًّا ملحوظًا (1541-1547)، وتراجعًا نمساويًّا إسبانيًّا على الساحتين البرية والبحرية، كما ستشهد هذه السنوات إقدامًا من الفرنسيِّين على التعاون العسكري مع العثمانيِّين ضدَّ الإمبراطور النمساوي، وكان فرانسوا الأول ملك فرنسا متردِّدًا في هذا التعاون لكيلا يُتَّهم في كاثوليكيَّته؛ لكنَّه أقدم عليه بعد انكسار الإمبراطور في الأحداث السابقة.
التحالف العسكري بين الدولة العثمانية وفرنسا: (1542-1544م)
في أوائل فبراير 1542م، بعد انتصار الجزائر بأقل من ثلاثة شهور، وصلت سفارة جادَّة من فرنسا برئاسة الكابتن بولان Captain Polin للترتيب لهجوم عسكري حقيقي على إمبراطورية النمسا وإسبانيا[18].
هذه هي المرَّة الأولى في تاريخ الدولة العثمانية، وكذلك في تاريخ فرنسا، التي يجري فيها تعاون واقعي بين جيش مسلم وآخر نصراني في حربٍ ما، وكان من الواضح أن فتح المجر وانتصار الجزائر قد غيَّرا من الفكر الأوروبي بدرجةٍ كبيرة. قضى الاتفاق بين كابتن بولان والسلطان سليمان القانوني أن يُنظِّم الفريقان حربًا مشتركةً ضدَّ إمبراطورية النمسا وإسبانيا في صيف 1543م؛ فيكون على الدولة العثمانية أن تُرسل ستِّين ألف مقاتل لحرب النمسا في وسط أوروبا، ومائة وخمسين سفينةً لقتال الإمبراطور في سواحل إسبانيا؛ بينما ستقوم فرنسا في هذه الأثناء بحرب الإمبراطورية في هولندا وبلچيكا، وستقصف كذلك سواحل إسبانيا، بالإضافة إلى إرسال أربعين سفينةً لدعم الأسطول العثماني[19]، و-أيضًا- ستُقدِّم فرنسا للعثمانيِّين ميناءً على ساحل إيطاليا الشرقي شمال الأدرياتيكي عند مصبِّ نهر مارانو Marano؛ لاستخدامه كقاعدةٍ متقدِّمةٍ في حربهم مع الأسطول الإسباني، وكانت فرنسا قد سيطرت عليه من شهرٍ واحدٍ فقط[20]. كانت الخطَّة طموحة؛ ولكن من المؤكَّد أن تنفيذها على أرض الواقع يحمل الكثير من المعوِّقات.
ويبدو أن أخبار التحالف الفرنسي العثماني وصلت إلى الإمبراطورية النمساوية فأرادت استباق التحالف عن طريق إرسال جيشٍ لاسترداد مدينة بودا، وبالتالي حرمان الجيش العثماني من قاعدته المتقدِّمة في وسط أوروبا؛ وعليه فقد أرسل الأمير فرديناند جيشًا كبيرًا في عام 1542م، فحاصر أولًا مدينة بست Pest المواجهة للعاصمة بودا على الدانوب؛ لكنه هُزِمَ هزيمةً منكرةً من الجيش العثماني[21]. ذكر أوزتونا أن جيش النمسا كان مائة ألف مقاتل، وأنه قد قُتِلَ وأُسِرَ أكثر من نصف الجيش[22]! وهكذا جاءت الخطوة في صالح الخطة العثمانية الفرنسية[23].
[1] Keul, István: Early modern religious communities in East-Central Europe: Ethnic Diversity, Denominational Plurality, and Corporative Politics in the principality of Transylvania (1526-1691), Brill, Leiden, Netherlands, 2009., p. 40.
[2] Duczmal, Małgorzata: Jogailaičiai (in Lithuanian), Translated: Vyturys Jarutis, Birutė Mikalonienė, Mokslo ir enciklopedijų leidybos centras, Vilnius, Lithuania, 2012., p. 209.
[3] Oborni, Teréz: Encyclopedia of the Kings of Hungary: An Illustrated History of the Life and Deeds of Our Monarchs, Regents and the Princes of Transylvania, Reader's Digest, New York, USA, 2012., pp. 171–173.
[4] Kontler, László: Millennium in Central Europe: A History of Hungary, Atlantisz Publishing House, Budapest, Hungary, 1999., p. 140.
[5] Barta, Gábor & Granasztói, György: A három részre szakadt ország és a török kiűzése (1526–1605), In: Katalin, Péter & Kálmán, Benda: Magyarország Történeti Kronológiája, II: 1526–1848 [Historical Chronology of Hungary, 1526–1848] (in Hungarian), Akadémiai Kiadó, Budapest, Hungary, 1981., pp. 252–253.
[6] Barta & Granasztói, 1981, vol. 1, pp. 372–373.
[7] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول ، 1988 صفحة 1/280.
[8] بچوي، إبراهيم أفندي: تاريخ بجوي إبراهيم أفندي: التاريخ السياسي والعسكري للدولة العثمانية، ترجمة وتقديم: ناصر عبد الرحيم حسين، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015م. الصفحات 1/269-272.
[9] Brugh, Patrick: Gunpowder, Masculinity, and Warfare in German Texts, 1400-1700, Boydell & Brewer, Suffolk, UK, 2019., p. 55.
[10] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/280، 281.
[11] Lane, Kris; Lane, Kris E & Levine, Robert M.: Pillaging the Empire: Global Piracy on the High Seas, 1500-1750, Routledge, New York, USA, 2015., p. 114.
[12] Garnier, Édith: L'alliance impie: François Ier et Soliman le Magnifique contre Charles Quint (1529-1547), Editions du Félin, Paris, 2008., pp. 202-203.
[13] Garnier, 2008, p. 204.
[14] أوزتونا، 1988 صفحة 1/299.
[15] Crowley, Roger: Empires of the Sea: The Final Battle for the Mediterranean, 1521-1580, Faber & Faber, London, UK, 2008., p. 73.
[16] Lane-Poole, 2015, p. 119.
[17] Garnier, 2008, p. 207.
[18] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م، 1895 صفحة 1/544.
[19] Setton, Kenneth Meyer: The Papacy and the Levant (1204–1571), The Sixteenth Century to the Reign of Julius III, 1984),, vol. 3, p. 461.
[20] Garnier, 2008, p. 210.
[21] Puskár, Anett: Noble Strategies for Maintaining Power: Reflections on the Life of a Hungarian Aristocrat, In: Osmond, Jonathan & Cimdiņa, Ausma: Power and Culture: Identity, Ideology, Representation, Edizioni Plus–Pisa University Press, Pisa, Italy, 2007. p. 20.
[22] أوزتونا، 1988 صفحة 1/281.
[23] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 468- 472.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك