التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
اجتمع كبار رجال الدولة العثمانية، وشيخ الإسلام، واتفقوا على تولية السلطان مصطفى الأول الحكم، وقد كان الحدث من الوقائع المهمة في التاريخ العثماني.
السلطان مصطفى الأول: الولاية الأولى (1617-1618م)
ترك موت السلطان أحمد الأول الدولة العثمانية في أزمة! لقد ترك خلفه تسعةً من الأولاد الذكور[1]؛ أكبرهم الأمير عثمان، في الثالثة عشرة من عمره[2]. اجتمع كبار رجال الدولة، وفي مقدِّمتهم شيخ الإسلام، ورأوا أن ولاية الطفل الصغير قد تُحْدِث بلبلةً في الشعب، وقد تُؤثِّر على مواقف الدولة مع أعدائها، خاصَّةً أن الجبهة الإيرانيَّة لم تُحسم بعد لانقطاع الشاه عباس الأول عن الضريبة التي اتُّفق عليها. اتفقوا في النهاية على تولية أخي السلطان، وهو الأمير مصطفى بن محمد الثالث الحكم[3].
كانت هناك مشكلةٌ كبرى في ولاية الأمير مصطفى؛ وهي أنه مختلٌّ عقليًّا[4]! زعم بعضهم أن هذا الاختلال هو نتيجة حبسه في القصر مع أمِّه طوال السنين السابقة، وعدم اختلاطه بالناس، وأنه من المتوقَّع أن تتحسَّن حالته عندما يعيش الحياة الاجتماعيَّة الطبيعيَّة[5]. انتهى الأمر بتولية الأمير مصطفى الحكم تحت اسم السلطان مصطفى الأول[6].
اعتلى السلطان مصطفى الأول العرش لمدَّة ثلاثة شهورٍ فقط، ثم تبيَّن للجميع عدم كفايته، ومرضه العقلي الواضح، فاجتمع المجلس من جديد، وقرَّروا عزله، وإعادته للقصر، مع تولية الأمير عثمان -الابن الأكبر للسلطان الراحل أحمد الأول- للحكم[7]. كان هذا في 26 فبراير 1618[8].
على الرغم من سرعة ولاية السلطان مصطفى الأول، وقِصَر مدَّة حكمه، فإن الحدث كان من الوقائع المهمَّة في التاريخ العثماني؛ لأن هذه هي المرَّة الأولى في تاريخ الدولة التي يتولى فيها الأخُ الحكمَ بعد موت أخيه السلطان[9]، وكان المتعارف عليه في الدولة هو ولاية الابن الأكبر. هذه الحادثة صارت أمرًا يُقَاس عليه، وسوف يتكرَّر كثيرًا بعد ذلك أن يتولى الأخُ الحكمَ في وجود أبناء السلطان الراحل.
السلطان مصطفى الأول: الولاية الثانية (1622-1623م)
بعد وفاة السلطان عثمان الثاني اجتمع كبار رجال الدولة، وحريم القصر المؤثِّرات، ورءوس الإنكشارية، وشيخ الإسلام يحيى أفندي، ليختاروا السلطان الجديد. كان الأمير مراد -أخو السلطان الشهيد- وابن قُسِم، هو وليُّ العهد الرسمي، ولم يكن لعثمان الثاني أبناءٌ أحياء (كان له ولدٌ واحدٌ اسمه عمر مات بعد ولادته بقليل)[10]؛ لذا كان المتوقَّع أن تذهب السلطنة للأمير مراد؛ ومع ذلك، وبعد نزاعاتٍ بين مراكز القوى آلت الأمور إلى عمِّ السلطان، وهو السلطان السابق المريض مصطفى الأول، على الرغم من جنونه[11]! يُحتمل أن الإنكشارية هم الذين دفعوا في هذا الاتجاه؛ لأنهم كانوا يتقاضون منذ زمن سليم الثاني إكراميَّةً ماليَّةً كبيرةً جدًّا عند جلوس السلطان على العرش، فرغبوا في ولاية مصطفى الأول ليأخذوا هذه الإكراميَّة الآن، ثم هم يُدركون جنونه، ويتوقَّعون عزله قريبًا؛ ومِنْ ثَمَّ يأخذون الإكراميَّة الأخرى نتيجة جلوس السلطان الجديد! هذا التلاعب بمصير الدولة واردٌ في الحقيقة نظرًا إلى الطبيعة المتردِّية التي وصلت إليها الإنكشارية في ذلك الوقت؛ ومع ذلك فأنا أعتقد أن الحزب الذي كانت تترأسه حليمة في ذلك الوقت كان أقوى من حزب قُسِم فدفع في اتجاه ابنها، وتولى مصطفى الأول مرَّةً أخرى.
لم يكن جلوس السلطان المريض على العرش دافعًا إلى انتهاء الفتنة؛ بل على العكس، عمَّت الثورات أرجاء الدولة، خاصَّةً في الأناضول[12]. ساد شعورٌ كبيرٌ من الكراهية الشعبيَّة للإنكشارية، وبدأت تتكرَّر حوادث اغتيالات غامضة لهم[13].
أخذت بعض الثورات شكل التمرُّد الحقيقي الذي يهدف إلى الخروج عن الدولة، وكان أخطرها ثورة أباظة باشا في إرضروم شرق الأناضول[14]. اضطرَّت الدولة إلى إعدام بعض المشاركين في قتل السلطان عثمان الثاني لتهدئة الأجواء؛ لكن هذا في الواقع لم يُحقِّق نتيجة[15]. زادت الأمور سوءًا عندما وصلت الأخبار بتواصل والي بغداد السوباشي بكر مع الشاه الصفوي عباس الأول لتسليم العراق له[16].
استمرَّت هذه الأحوال المتردِّية أكثر من عام. لم تستطع السلطانة حليمة أن تُسيطر على الوضع، خاصَّةً وأن مطالب الإنكشارية الفاسدين لا تنتهي. في النهاية اجتمع شيخ الإسلام يحيى أفندي مع العلماء، وتوجَّهوا إلى السلطانة حليمة يطلبون منها عزل السلطان المريض. كانت السلطانة قُسِم تضغط هي الأخرى من جانبها على الصدر الأعظم علي باشا للمساعدة في عزل مصطفى الأول؛ ليتولى ابنها مراد الحكم. -أيضًا- بدأ قادة الإنكشارية يشعرون بأنهم صاروا مستهدفين من عموم الشعب وحكَّام الولايات. نتيجة هذه الضغوط المشتركة وافقت السلطانة حليمة على عزل ابنها، في مقابل تأمين حياته وحياتها[17]، وقد كان، وعُزِل السلطان مصطفى الأول في 10 سبتمبر 1623م[18].[19].
[1] Görgün-Baran, Aylin: A Woman Leader in Ottoman History: Kösem Sultan (1589–1651), In: Erçetin, Şefika Şule: Women Leaders in Chaotic Environments: Examinations of Leadership Using Complexity Theory, Springer International Publishing, Cham, Switzerland, 2016, p. 77.
[2] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م. صفحة 151.
[3] بچوي، إبراهيم أفندي: تاريخ بجوي إبراهيم أفندي: التاريخ السياسي والعسكري للدولة العثمانية، ترجمة وتقديم: ناصر عبد الرحيم حسين، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2015م. صفحة 2/421.
[4] Boyar, Ebru & Fleet, Kate: A Social History of Ottoman Istanbul, Cambridge University Press, NewYork, USA, 2010., p. 42.
[5] بچوي، 2015 صفحة 2/421.
[6] إبشيرلي، محمد: نظم الدولة العثمانية، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م. صفحة 1/150.
[7] بچوي، 2015 الصفحات 2/422، 423.
[8] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 276.
[9] إبشيرلي، 1999 الصفحات 1/149، 150.
[10] Çiçek, Fikri: An examination of daily politics and factionalism at the Ottoman Imperial court in relation to the regicide of Osman II (r. 1618-22), İstanbul Şehir University, İstanbul, Turkey, 2014., pp. 58-59.
[11] Kia, Mehrdad: The Ottoman Empire: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2017., vol. 1, p. 148.
[12] Imber, Colin: The Ottoman Empire, 1300-1650: The Structure of Power, Red Globe press, London, UK, Third edition, 2019., p. 55.
[13] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. xliii.
[14] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م، صفحة 1/577.
[15] Çelebi, Evliyà Efendí: Narrative of Travels in Europe, Asia, and Africa, in the Seventeenth Century, Translated from the Turkish: De Joseph Freiherr von Hammer, London, the Oriental Translation Fund of Great Britain and Ireland, 1834., p. 115.
[16] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, UK, Basic Books, New York, 2006., pp. 203-205.
[17] Gibb, Hamilton Alexander Rosskeen; Kramers, Johannes Hendrik; Lewis, Bernard; Pellat, Charles; Schacht, Joseph & et al.: The Encyclopaedia of Islam, E. J. Brill, Leiden, Netherlands, 1993.., 1993, vol. 7, p. 707.
[18] Somel, 2010, p. xliii.
[19] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 632، 643، 644.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك