التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يعتبر سليم الثالث من ألمع السلاطين العثمانيين ومن أعظمهم جرأة في الحق، ومن أكثرهم رغبة في الإصلاح على الرغم من استلامه الحكم وهو في السابعة والعشرين.
السلطان سليم الثالث (1789-1807م)
السلطان سليم الثالث هو ابن السلطان الراحل مصطفى الثالث، وابن أخي السلطان السابق مباشرة عبد الحميد الأول، وكان من حسنات عبد الحميد الأول الكبرى أنه لم يقم بحبس وليِّ عهده[1] كما كان متَّبعًا في الأعراف السلطانيَّة، وهذا أثَّر إيجابيًّا على وليِّ العهد، فجاء مثقَّفًا، ذكيًّا، نشيطًا، عالمـًا بأحوال بلاده، مطَّلعًا على أحوال الدنيا.
يُعتبر سليم الثالث من ألمع السلاطين العثمانيِّين، ومن أعظمهم جرأةً في الحق، ومن أكثرهم رغبةً في الإصلاح والتغيير. على الرغم من استلامه الحكم وهو في السابعة والعشرين من عمره[2]، فإنه كان يملك حكمةً كبيرةً تفوق بكثيرٍ سنوات عمره القليلة. كانت فترة حكمه صاخبةً للغاية. تعدَّدت الأحداث الكبرى، سواءٌ في الدولة العثمانية أم في العالم، بصورةٍ لا تتكرَّر كثيرًا في التاريخ.
لم يتلقَّ مساعدات تُذْكر من الأنظمة البالية في دولته، بل على العكس قاوموه وحاربوه في إصلاحاته، ممَّا عرقل جهوده بشكلٍ محزن. أحسب أنه لو كان في زمن الأوَّلين لكان له شأنٌ كبيرٌ في التاريخ. كانت «الدولة العميقة» شديدة الإعاقة لجهود المصلحين. تلك الدولة المتمثِّلة في قادة الإنكشارية، وحكَّام الولايات، والموظفين الكبار، والقضاة، والعلماء الشرعيِّين، بل والموظفين الصغار الذين نشئوا على النظام البالي الرتيب، والفاسد في الوقت نفسه. كان الأمر يحتاج إلى إصلاحٍ جذري، وثوراتٍ تربويَّة، وتعليميَّة، واجتماعيَّة، فضلًا عن الثورات السياسيَّة، والعسكريَّة. لا يخفى على أحدٍ صعوبة تطبيق هذه الإصلاحات، خاصَّةً مع الضغوط الخارجيَّة، التي بلغت ذروتها في الحرب الروسيَّة النمساوية التي اشتعلت في آخر سنةٍ في فترة حكم السلطان الراحل عبد الحميد الأول.
يمكن تقسيم فترة حكم السلطان سليم الثالث إلى خمس مراحل حسب ما يغلب على كلِّ مرحلةٍ من سمات؛ الأولى تمتدُّ ثلاث سنواتٍ من 1789م إلى 1792م، وفيها استأنف السلطان مضطرًّا ما بُدِئ قبل عهده من الحرب الروسيَّة النمساوية، والثانية ست سنواتٍ من 1792م إلى 1798م، وفيها اجتهد في وضع خططه الإصلاحيَّة، وسعى بقوَّةٍ في تنفيذها، وواجهته مشاكل داخليَّة اجتهد في مواجهتها، ثم المرحلة الثالثة تمتدُّ ثلاث سنواتٍ من 1798م إلى 1801م، وفيها شَغَلَت الحملة الفرنسية على مصر كلَّ اهتمام الدولة، بل والعالم، ثم تأتي المرحلة الرابعة، وتمتدُّ من 1801م إلى 1806م، وفيها واجه السلطان عدَّة مشكلاتٍ داخليَّةٍ كبرى، وكذلك خارجيَّة، ثم أخيرًا تأتي المرحلة الخامسة، وهي آخر سنتين في حكمه، 1806م، و1807م، وفيهما واجه أطماعًا دوليَّة من روسيا، وبريطانيا، ثم عُزِل في آخر هذه المرحلة. وفي هذا المقال سنتناول الحديث عن المرحلة الخامسة:
المرحلة الخامسة: الحرب مع روسيا وبريطانيا، وعزل السلطان (1806-1807م)
في أثناء الحملة الفرنسية عرضت روسيا وبريطانيا التحالفَ عسكريًّا مع الدولة العثمانية لقتال فرنسا. لم يكن هذا يعني رغبة الدولتين في نجدة العثمانيين أو البحث عن سلامٍ طويلٍ معهم؛ إنما كان قرارهم مؤقَّتًا جدًّا بتحقيق المصلحة الآنيَّة، وهي وقف النموِّ الفرنسي في الشرق. بعد الاطلاع عن قرب على الشئون الداخليَّة والعسكريَّة للدولة العثمانية، وإدراك الضعف الشديد الذي آلت إليه الدولة، ومتابعة الجهود الكبيرة التي يبذلها السلطان سليم الثالث في سبيل تطوير جيشه، وعودة العلاقات العثمانيَّة الفرنسيَّة، واحتمال تطوُّرها، قرَّرت روسيا وبريطانيا عدم الانتظار أكثر من ذلك، واستغلال أيِّ فرصةٍ لغزو الدولة العثمانية قبل أن تقف على أقدامها! كانت المشكلة الأكبر التي تواجه السلطان سليم الثالث هو أن هذا العزم الروسي البريطاني أتى في وقتٍ تعيش فيه البلاد اضطرابات داخليَّة بسبب الإصلاحات التي يرفضها كثيرٌ من أعداء السلطان!
كان السلطان يمضي قُدُمًا في بناء جيشه الجديد، ولكن هذا لم يكن على هوى كثيرٍ من مراكز القوى في الدولة، وأهمهم رجال الإنكشارية الذين شعروا بقرب نهايتهم إذا ظهرت جودة هذا النظام الجديد. حدثت عدَّة ثوراتٍ واعتراضاتٍ في البلقان في أوائل عام 1806م[3]، ممَّا دفع السلطان إلى استقدام فرقةٍ من الجيش الجديد من الأناضول لقمع هذه الاضطرابات. جاءت هذه الفرقة إلى إسطنبول في 2 يونيو 1806م، ومنها انطلقت إلى إدرنة لتجد أبوابها مؤصدة، وقد اشتدَّ فيها تمرُّد الإنكشارية. حدثت صداماتٌ بين النظام الجديد والقديم وكاد الأمر يتحوَّل إلى حربٍ أهليَّة. في منتصف يوليو قرَّر السلطان أن يوقف عمليَّات النظام الجديد في البلقان[4]، ويبدو أنه كان يظنُّ أن هذا الإيقاف سيُتَقَبَّل منه على أنه تنازلٌ يهدف إلى حفظ الدماء، ولكنَّ الرافضين للنظام الجديد تلقَّوا هذا القرار من السلطان على أنه ضعفٌ منه، أو قناعةٌ منه بعدم جدوى النظام الجديد، فكان الأثر في كلِّ الأحوال سلبيًّا على الحكومة.
تزامن مع هذه الأحداث تيقُّن السلطان سليم الثالث من وجود علاقات تعاونٍ بين روسيا وأمير الإفلاق كونستانتين إبسيلانتي Constantine Ypsilanti، وكذلك بين روسيا وأمير البغدان ألكسندر موروزيس Alexander Mourousis. عزل السلطان -وبتأييدٍ من السفارة الفرنسيَّة- الأميرين في 20 أغسطس 1806م[5]. مع أن الأمر يُعتبر شأنًا داخليًّا إلا أن روسيا اعتبرت هذا عملًا عدائيًّا، وأعلنت الحرب على الدولة العثمانية[6]!
لم يشأ السلطان أن يدخل الحرب مع الروس في هذه الأجواء المضطربة نتيجة تمرُّدات الإنكشارية فأراد تهدئة الأوضاع، فعزل في 14 نوفمبر 1806م الصدرَ الأعظم والمفتي، وكانا من أنصار النظام الجديد، وولَّى أغا الإنكشاريَّة إبراهيم حلمي الصدارة، وكان بطبيعة الحال من أعداء النظام الجديد، كما ولَّى محمد عبد الله أفندي الإفتاء، وكان كذلك من المعارضين بقوَّة للنظام الجديد[7]. أحسب أن هذه خطوةٌ غير حكيمةٍ من السلطان؛ فقد اعتبر هؤلاء أن السلطان صار متَّبِعًا لهم لا العكس.
في 8 ديسمبر 1806 بدأت روسيا الحرب ضدَّ الدولة العثمانية باحتلالها لقلعة بندر، ومِنْ ثَمَّ انساحت في إقليمي البغدان والإفلاق، فاحتُلَّا في غضون أسابيع، وسقطت العاصمتان ياسي وبوخارست، ووصلت القوَّات الروسيَّة إلى نهر الدانوب[8]! تزامن مع الهجوم الروسي هجومٌ آخر في صربيا؛ حيث احتلَّ الثائرون بلجراد في 13 ديسمبر، وقاموا بذبح عددٍ كبيرٍ من المسلمين هناك، وأعلن الصربيون ولاءهم للروس بشكلٍ صريح[9].
لم يقف الأمر عند حدِّ روسيا والصرب، ولكن أعلنت بريطانيا فورًا مساندتها للروس في حربهم ضدَّ العثمانيين[10]؛ لأن هذا يصبُّ في إضعاف فرنسا المتحالفة مع الدولة العثمانية. كان الروس والإنجليز يعانون من هزائم فادحة في ذلك الوقت على يد نابليون ممَّا دفعهم إلى هذا التصعيد. أمام هذه التطوُّرات أغلق السلطان في ديسمبر 1806م مضيق الدردنيل أمام السفن الروسيَّة والإنجليزيَّة، وأعلن الحرب عليهما[11].
في فبراير 1807م أرسل الإنجليز جزءًا صغيرًا من أسطولهم بقيادة الأميرال دوكوورث Duckworth إلى الدردنيل، فالتقى هناك والأسطول الروسي. بعث الأميرال الإنجليزي مجموعةً من الطلبات المتعجرفة إلى السلطان، وهدَّد بقصف إسطنبول إن رُفِضَت. كان من بين هذه الطلبات تحالف الدولة العثمانية رسميًّا مع بريطانيا ضدَّ فرنسا، وتسليم الأسطول العثماني، وتنازل الدولة عن الإفلاق والبغدان للروس، وطرد السفير الفرنسي سيباستياني Sebastiani[12]! كان الردُّ بالرفض صريحًا وواضحًا، وبدأت الدولة في زيادة التحصينات على المضايق وفي إسطنبول، ومع ذلك استطاع الأسطول الإنجليزي -دون الروسي- اجتياز الدردنيل في 20 فبراير ليصل إلى بحر مرمرة[13]. طمأن السفير الفرنسي السلطانَ بأن نابليون سيُرسل تعزيزاتٍ عسكريَّةً سريعًا، فتشجَّع السلطان لزيادة التحصينات. كانت القوَّة الإنجليزيَّة صغيرة، وخشي دوكوورث أن يُحْصَر في المضايق إذا أغلق عليه الدردنيل، فانسحب بسرعةٍ في أول مارس. أُطلقت مدافع الدردنيل على الأسطول الإنجليزي أثناء انسحابه، ومع أن المدافع قديمة (من أيام محمد الفاتح!) إلا أنها قتلت مائةً وثمانيةً وثلاثين جنديًّا إنجليزيًّا، وجرحت مائتين وخمسةً وثلاثين[14]!
كان انسحاب الأسطول الإنجليزي مهينًا له، فأراد أن يُحقِّق نصرًا مضمونًا فيما يظن، وذلك للحفاظ على الهيبة الإنجليزيَّة. ترك الأسطول الإنجليزي الأسطولَ الروسي عند الدردنيل، وتوجَّه بسرعةٍ جنوبًا إلى الإسكندرية لاحتلال مصر! أحسب أن هذا تهوُّرٌ إنجليزيٌّ غير محسوب! كانت القوَّة الإنجليزيَّة لا تزيد عن خمسة آلاف جندي[15]، والحملة لم يُعَدُّ لها بشكلٍ جيِّد، ولكن جرح الكبرياء هو الذي عجَّل بهذه الخطوات. كانت الحملة تحت قيادة الجنرال ألكسندر ماكينزي فريزر Alexander Mackenzie-Fraser[16]، ولذلك اشتُهرت هذه الحملة بحملة فريزر Fraser expedition. كان ظهور الأسطول الإنجليزي مفاجئًا -كالعادة- لحامية الإسكندرية، وكان محمد علي باشا في أسيوط يقاتل بعض المماليك[17]، ولذا احتُلَّت الإسكندرية بسهولة في 20 مارس 1807م[18]. ظنَّ فريزر أن الأمر سيسير على هذا المنوال فقدَّم فرقةً من جيشه قوامها ألف وخمسمائة جندي تحت قيادة الجنرالين ووكوب Wauchope، وميد Meade، إلى ميناء رشيد القريب[19].
وصل الخبر إلى محمد علي باشا في الصعيد فأقبل بسرعةٍ في اتجاه رشيد، لكن الجيش الإنجليزي دخل المدينة قبل وصوله، ومع ذلك وجد الإنجليز مفاجأةً كبيرة؛ حيث استعدَّ سكان المدينة للقيام بمقاومةٍ شعبيَّةٍ عظيمةٍ لجيش بريطانيا. دارت حربٌ كبيرةٌ بين أهل رشيد وبين الإنجليز في 21 مارس، حقَّق فيها المصريون نصرًا مجيدًا على الإنجليز[20]، الذين اضطروا إلى الانسحاب بعد مَقْتل مائةٍ وخمسةٍ وثمانين جنديًّا منهم القائد ووكوب، وجَرْح مائتين وواحدٍ وثمانين جنديًّا منهم القائد ميد[21]! لم يقف الأمر عند ذلك؛ ولكن تعرَّض الإنجليز لهزيمةٍ أخرى كبرى عند قرية الحماد في محافظة البحيرة في 21 أبريل 1807م[22]، وفيها قُتِل من الإنجليز مائتان واثنين وتسعين جنديًّا غير الذين ذُبِحُوا أثناء الفرار[23]، فاضطروا إلى الانسحاب مسرعين إلى الإسكندرية، وسينتهي الأمر لاحقًا بخروج الإنجليز نهائيًّا من مصر في 25 سبتمبر دون تحقيق أيِّ نتيجة[24]!
كان نصرًا مجيدًا للمصريين، وطارت أخبار محمد علي باشا إلى إسطنبول وأوروبا كلِّها!
الوضع في إسطنبول لم يكن على هذه الصورة التي رأيناها في مصر!
كان الأسطول الروسي يحاصر الدردنيل منذ أكثر من شهرين بدايةً من مارس 1807م. أدَّى هذا إلى حالةٍ شديدةٍ من الاحتقان في إسطنبول نتيجة نقص الغذاء الذي يرد عن طريق البحر[25]. استغلَّ أعداء النظام الجديد الذين يخشون على مصالحهم هذه الظروف وقاموا بانقلابٍ في العاصمة في يوم 25 مايو[26] يُشْبِه إلى حدٍّ كبير انقلاب باترونا الذي حدث منذ سبعةٍ وسبعين عامًا (1730م). قامت في هذا الانقلاب مجموعاتٌ -هم في رأيي دعاةٌ للرجعيَّة، وأعلامٌ للتخلُّف- تُنادي بقتل أولئك الذين يدعون إلى النظام الجديد! على قمَّة هؤلاء الرجعيِّين قادة الإنكشارية المضرورون من تحديث الجيش، وقوى الأعيان المضرورة بالإنفاق الغزير الذي يُوجِّهه السلطان لتنمية هذا الجيش الجديد، وقد جعلوا على قيادتهم رجلًا عسكريًّا اسمه قباقچي مصطفى Kabakqi Mustafa، ولذلك يُعْرَف هذا التمرُّد التعيس بثورة قباقچي Kabakqi Revolt، مع العلم أن هذا الرجل لم يكن من الإنكشارية؛ إنما كان من قوَّات حراسة البوسفور[27].
لكن الأسوأ من أولئك وهؤلاء كان المفتي الجديد، ومعه مجموعةٌ من منغلقي الذهن الذين يعتبرون أنفسهم علماء وهم أبعد ما يكون عن ذلك؛ حيث أفتوا بفساد النظام العسكري الجديد لأنه تقليدٌ للغرب الكافر، وتَشَبُّهٌ بغير المسلمين، بل وأمعنوا في تسطيح الأمر حيث ذكروا أن السلطان يريد أن يُلْبِس الجيش -لسهولة الحركة- ملابس أوروبية مثل البنطلون، وهذا حرام[28]! لم ينظر هؤلاء الجهلاء إلى التسليح الحديث الذي يريده السلطان، ولا إلى طرق التدريب، ولا إلى الخطط الاستراتيجيَّة، ولا إلى مناهج التجنيد، ولا إلى طرق التعامل المالي التي ستُتَّبع في التعامل مع هؤلاء الجنود، ولم ينظروا إلى الجوانب التطبيقيَّة في حقِّ هذا النظام، ومدى تحقيقه للنجاح أكثر من الجيوش التقليديَّة القديمة على أرض الواقع. لم ينظر المـُفتون إلى هذا كلِّه، واكتفوا بالنظر إلى ملابس الجيش ليحكموا بفشل التجربة، بل بحرمتها!
اقتحم المتمرِّدون البغاة عددًا من بيوت الوزراء الداعمين للنظام الجديد وقتلوهم، وأتوا برءوسهم في يوم 27 مايو ليعرضوها في أحد ميادين إسطنبول[29]! إزاء هذا التدهور في الأمور رضخ السلطان المصلح سليم الثالث، وأعلن في 28 مايو إلغاء النظام الجديد[30]، والاكتفاء بنظام القرون الوسطى! هل كان هذا كافيًا؟! لم يقبل المتمرِّدون بذلك فقط؛ إنما أعلن المفتي أن قيادة السلطان سليم الثالث للدولة غير جائزةٍ لأنه يتشبَّه بالكفار في نظامه الجديد[31][32]!
في يوم 29 مايو 1807م[33] انتصرت الرجعيَّة على العِلْم، وتغلَّب الإفساد على الإصلاح، وعُزِل السلطان القدير سليم الثالث، وصعد إلى العرش رجلٌ لا وزن له هو وليُّ العهد الأمير مصطفى ابن السلطان عبد الحميد الأول (ابن عم السلطان سليم الثالث)، والذي سيتسمَّى بمصطفى الرابع! جديرٌ بالذكر أن ولي العهد مصطفى كان من المحرِّضين على هذه الفتنة[34]!
كلمتان أخيرتان كخاتمةٍ لهذه القصَّة الحزينة..
الأولى أنه لا ينبغي تقييم الشخص من منطلق النتائج التي وصل إليها؛ بل يكون التقييم الأدقُّ بالنظر إلى الجهد الذي بذله، والعمل الذي قام به، فإن كان جهده وافيًا، وعمله مصلحًا، كان الشخص عظيمًا ولو لم يصل إلى شيء، وإن كان جهده قليلًا، وعمله متواضعًا، كان الشخص مَهينًا، ولو تحقَّقت في عهده أعظم النتائج. قال تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، ولم يقل: «إلا ما حقَّق»، ومن هذا المنطلق نرى سليم الثالث من عظماء المسلمين حقًّا، «فسعيه» للإصلاح لا يُنكره إلا جاحد، ويكفيه شرفًا أنه حاول، ويكفيه فخرًا أنه كرَّر محاولاته إلى لحظة خلعه، ويكفيه عظمةً أنه كان السابق في الإصلاح، وكان كلّ من جاء من بعده مقلِّدين له. لقد كان سليم الثالث من ألمع وأفضل سلاطين بني عثمان، وهو واحدٌ من أجرأ حكَّام الأمَّة الإسلاميَّة، وبفضل جهوده، ثم جهود محمود الثاني من بعده، كتب اللهُ البقاء للدولة العثمانية أكثر من قرنٍ من الزمان؛ فلولا إصلاحاته وبُعد نظره وقدرته على قراءة الأحداث، لانهارت الدولة في خلال عقدٍ أو عقدين من السنوات، وقد ظلمه معاصروه بمقاومة إصلاحاته، ثم ظلموه بخلعه، ثم سيُتابعون ظلمه بقتله، فيكون بذلك الشهيد الذي دفع حياته من أجل إصلاح أمَّته، فنسأل الله أن يرحمه رحمةً واسعة.
أمَّا الكلمة الثانية فهي أنه إن كان هذا هو حال علماء الأمَّة، ورجالها الأكابر، فلا يُسْتَغرب أن يحتلَّ الروس إقليمي البغدان والإفلاق في أسابيع، ولا أن يثور الصرب، واليونانيون، والألبان، وغيرهم، ولا أن تنفصل البلاد العربيَّة كلُّها تقريبًا عن الدولة العثمانيَّة، ولا أن يتلاعب أعداء الدولة بها بهذه الطريقة، فيُصادقونها اليوم، ويُعادونها غدًا، ويتحالفون معها في لحظة، ويضربونها في ظهرها في اللحظة الثانية. ليست هذه المشاهدات ناتجةً عن قوَّة الأعداء فقط؛ إنما هي في الواقع ناتجةٌ عن هذه الحالة المتخلِّفة التي وصل إليها محرِّكو الأمَّة، وأعيانها، وعلماؤها، ومفكِّروها، وقادة جيوشها، وصدق العليم الحكيم: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16]. هؤلاء المترفون؛ ماليًّا، وفكريًّا، كانوا أصل الفساد، وليت المسلمين يعتبرون[35].
[1] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، ، 1988 صفحة 1/643.
[2]إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م.صفحة 234.
[3] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م.صفحة 365.
[4] أوزتونا، 1988 صفحة 1/655.
[5] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 387.
[6] كولن، صالح: سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م.صفحة 263.
[7] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/656، 657.
[8] Hötte, Hans H.A.: Atlas of Southeast Europe: Geopolitics and History, Brill, Leiden, Netherlands, 1699-1815, Edited by: Béla Vilmos Mihalik, vol. 2, p. 10.
[9] أوزتونا، 1988 صفحة 1/655.
[10] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م.صفحة 1/653.
[11] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. lvii.
[12] فريد، 1981 صفحة 388.
[13] لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م.صفحة 63.
[14] Clodfelter, Micheal: Warfare and Armed Conflicts: A Statistical Encyclopedia of Casualty and Other Figures, 1492-2015, McFarland & Company, Inc., Publishers, Jefferson, North Carolina, USA, Fourth Edition, 2017., p. 147.
[15] لوتسكي، 1985 صفحة 63.
[16] Harrison, Robert T.: Alexandria, British Occupation of (1807), In: Olson, James Stuart & Shadle, Robert: Historical Dictionary of the British Empire, Greenwood Publishing Group, Westport, CT, USA, 1996., p. 25.
[17] الرافعي، عبد الرحمن: عصر محمد علي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، 2001م.صفحة 51.
[18] أوزتونا، 1988 صفحة 1/656.
[19] Stewart, David: Sketches of the Character, Manners, and Present State of the Highlanders of Scotland: With Details of the Military Service of the Highland Regiments, Constable, London, UK, 1825., vol. 1, p. 345.
[20] لوتسكي، 1985 الصفحات 63، 64.
[21] Russell, William & Jones, William: The History of Modern Europe: With a View of the Progress of Society from the Rise of the Modern Kingdoms to the Peace of Paris, in 1763, Harper & brothers, New York, USA, 1836., vol. 3, p. 520.
[22] الرافعي، 2001 الصفحات 68-75.
[23] Clodfelter, 2017, p. 145.
[24] Russell & Jones, 1836, vol. 3, p. 520.
[25] Hötte, 2017, vol. 2, p. 10.
[26] Somel, 2010, p. lviii.
[27] Shaw, Stanford Jay: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis: The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Volume I, Cambridge University Press, New York, USA, 1976., vol. 1, p. 273.
[28] أوزتونا، 1988 صفحة 1/658.
[29] فريد، 1981 صفحة 393.
[30] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 366.
[31] Shaw, 1976, vol. 1, p. 273.
[32] فريد، 1981 صفحة 393.
[33] مانتران، روبير: بدايات المسألة الشرقية (1839-1774)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (د).صفحة 2/22.
[34] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 377.
[35] كتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 970- 977.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك