التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كان محمد الفاتح يُدرك أنَّ البنادقة لن يقبلوا بسهولة التسليم له بعد حرب دامت أربعة عشر عامًا؛ ولكن القنوات الدبلوماسيَّة ستكون مهمَّة للفاتح...
الآن مواجهة أهم الأعداء: البندقية!
كانت الخطوة الأولى للفاتح هي المحاولة الدبلوماسيَّة كمقدِّمة لِمَا بعدها؛ أي أنَّ الفاتح يُدرك أنَّ البنادقة لن يقبلوا بسهولةٍ التسليمَ له بعد حربٍ دامت حتى الآن (1477م) أربعة عشر عامًا؛ ولكن القنوات الدبلوماسيَّة ستكون مهمَّة للفاتح من ناحيتين: فهي أوَّلًا تُعطيه المسوِّغ القانوني والشرعي للحرب؛ وذلك أمام البندقية وحلفائها وأقطار أوروبا في حال رفض البندقية هذه الحلول السلميَّة، وهي من ناحيةٍ أخرى تفتح البابا للبندقيَّة في حال انهزامها أن تطلب تجديد العرض الدبلوماسي؛ ومِنْ ثَمَّ يُمكن للفاتح أن يُوقِف الحرب بناءً على طلب البندقية، وهذا قد تحتاجه الدولة العثمانيَّة في حال ما إذا كانت الحرب تُمثِّل عليها عبئًا كبيرًا..
هكذا بدأ الفاتح..
أرسل إلى مجلس الشيوخ البندقي يعرض عليه وقف الحرب بين البلدين في مقابل تسليم مدينتي كرويه وشقودرة، وكذلك بعض المدن الألبانيَّة الأخرى[1]، وكان من الطبيعي أن ترفض البندقية هذا العرض، خاصَّةً أنَّ العرض يشمل تسليم شقودرة، التي لم تخضع قبل ذلك للعثمانيين إلَّا عامين فقط (من 1393م إلى 1395م)[2]، فإذا كان تسليم مدينة كرويه والمدن الألبانيَّة الأخرى أمرًا مقبولًا لكونها كانت خاضعة للدولة العثمانيَّة قبل تمرد إسكندر بك، فإنَّ شقودرة مملوكة للبنادقة منذ عام 1396م[3]، كما أنَّ البنادقة كانوا يَعُدُّونها «المعقل الأخير للنصرانية Last bastion of Christianity»[4]، ولقد كانت هذه الرؤية من البنادقة صائبةً إلى حدٍّ كبير؛ حيث إنَّ السيطرة على هذا المعقل الحصين على البحر الأدرياتيكي، تُعطي الفرصة لعبور الأدرياتيكي إلى الناحية الغربيَّة منه حيث إيطاليا معقل النصرانية الكاثوليكيَّة، وكان العثمانيُّون يُدركون ذلك، ولقد قال مؤرِّخهم عاشق زاده: «هي الأمل في العبور إلى أرض إيطاليا»[5].
هذا كلُّه يُعطي الانطباع أنَّ الفاتح كان يُدرك أنَّ البندقية سترفض العرض قطعًا، خاصَّةً أنَّه ما زالت خسائرها لم تصل إلى الحدِّ الذي يدفعها إلى مثل هذه التضحيَّات.. نعم خسارتها لجزيرة نيجروبونتي عام 1470م كانت من أكبر خسائرها التاريخيَّة؛ لكن ما زالت لها أملاكٌ عديدة كما فصَّلنا، وما زالت لها علاقاتٌ تجاريَّةٌ وعسكريَّةٌ واسعةٌ مع دول العالم، بالإضافة إلى الكبرياء البندقي الذي يرفض التسليم بهذه السهولة..
وإذا كان الفاتح رحمه الله يتوقَّع ردَّ فعل البندقية فلا بُدَّ أنَّ خطته البديلة كانت على مستوى الطلب الكبير نفسه الذي طلبه من الجمهوريَّة؛ لأنَّه ليس من المقبول أن يطلب منهم التسليم وهو لا يملك القدرة على إرغامهم على قبول ما يُريد؛ ومِنْ ثَمَّ اتَّجه الفاتح مباشرةً إلى الخطَّة البديلة، التي تحمل عنوانًا واحدًا هو «كسر الكبرياء البندقي»! وكان الوصول إلى هذا الهدف يتطلَّب ضرب أهمِّ مصلحتين لجمهوريَّة البندقية، بل لعامَّة الدول والمجتمعات، وهما مصلحة «الأمن»، ومصلحة «الاقتصاد»!
لا شَكَّ أنَّ حسابات البندقية ستتغيَّر إذا ما شعرت أنَّ هناك تهديدًا حقيقيًّا لأرواحهم ولأموالهم، وهذا هو عماد الخطَّة القادمة التي سيضعها الفاتح رحمه الله؛ حيث سيسعى إلى ضرب أمن واقتصاد البندقية في أكثر من موضعٍ في آنٍ واحد، وهكذا كان هذا هو الهدف الأوحد للفاتح في النصف الثاني من عام 1477م، ثم في عام 1478م كله.
ما عناصر خطَّة الفاتح رحمه الله؟!
لقد رأينا تفكيرًا إبداعيًّا عظيمًا من الفاتح في هذه المسألة، وهو التفكير الذي يُطلِق عليه علماءُ الإدارة في زماننا «تفكير خارج الصندوق Thinking Outside the Box»، أو التفكير الجانبي «Lateral Thinking»؛ حيث قرَّر أن يقوم بخطوةٍ جبَّارةٍ لا تخطر على ذهن جمهوريَّة البندقية، ولا المعاصرين في زمانه!
لقد قرَّر الفاتح أن يُهدِّد مدينة البندقية ذاتها! أي الوصول بجيشه إلى عقر دار الجمهوريَّة في شمال إيطاليا مخالفًا بذلك أيَّ توقُّعاتٍ أو تنبُّؤاتٍ يُمكن أن يقوم بها العسكريُّون في زمانه؛ فالوصول إلى ڤينيسيا -من الناحية العسكريَّة- أمرٌ في عرف المستحيل؛ لأنَّه يتطلَّب اختراقًا عظيمًا لمساحاتٍ كبيرةٍ من الأرض، وهذه المساحات تشمل مناطق مملوكة للمجر، وكذلك لجمهوريَّة البندقية، وهي مساحاتٌ صعبةٌ من الناحية الجغرافيَّة؛ حيث تخترقها الجبال العالية، والأنهار العريضة، مع الأخذ في الاعتبار أنَّه لا توجد قواعد عثمانيَّة قريبة يُمكن للجيوش المخترِقة أن ترجع إليها في حال هزيمتها..
إنَّها مهمَّةٌ انتحاريَّةٌ بأعراف العسكريِّين!
لكن كيف ستكون الآثار إذا ما نجح هذا التفكير الإبداعي الذي لا يخطر على ذهن المفكِّرين؟!
لا شَكَّ أنَّ نتيجته ستكون حاسمة؛ لأنَّه سيُؤدِّي غالبًا إلى شللٍ فكريٍّ عند الطرف الآخر؛ أعني عند البنادقة، وعامَّة الأوروبيِّين..
كان الفاتح يعلم أنَّ مثل هذا القرار يحتاج إلى إعدادٍ خاصٍّ جدًّا، وقد قرَّر الفاتح أن يقوم بهذه العمليَّة الجريئة في خريف 1477م[6] أي في أواخر سبتمبر، وهذا هو موسم الحصاد في شمال إيطاليا، والهدف من اختيار التوقيت هو ضرب الاقتصاد البندقي في مقتل؛ حيث إنَّ إحداث أضرار جسيمة في المزروعات في هذا التوقيت سيكون له أثرٌ كبيرٌ في البنادقة، خاصَّةً إذا ما كانت الحملة العثمانيَّة على منطقة اشتهرت بالإنتاج الزراعي الكبير، فهنا سيتحقَّق في الحملة هدفان: ستُضرب المصالح الاقتصاديَّة والماليَّة، وسيتهدَّد أمن الشعب البندقي في مدينته الأم: ڤينيسيا..
ووقع اختيار الفاتح على إقليم الفريولي Friuli شمال شرق إيطاليا ليكون مسرحًا للعمليَّات، وهو اختيارٌ دقيقٌ ومؤثِّر؛ فالإقليم أوَّلًا قريبٌ جدًّا من مدينة ڤينيسيا، إلى الشمال منها، والعمليَّات العسكريَّة به ستكون مرعبةً لأهل المدينة، ممَّا سيُحدث اضطرابًا أمنيًّا قد يدفعهم إلى الضغط على الحكومة لتحقيق مطالب السلطان الفاتح، وثانيًا يُمثل الإقليم مصدرًا مهمًّا جدًّا لاقتصاد البنادقة؛ فهو سهولٌ زراعيَّةٌ في غاية الجودة، ولهذا كان كثيرٌ من أثرياء البندقية يستثمرون فيه قدرًا كبيرًا من ثرواتهم[7]، وتهديد مصالح هؤلاء الأثرياء سيُمثِّل ضغطًا كبيرًا على حكومة البندقية، ثالثًا -وهي نقطةٌ مهمَّةٌ للغاية- كان إقليم الفريولي يُدار بحكومةٍ ذاتيَّةٍ مؤلَّفةٍ من نبلاء هذا الإقليم، وهي تابعةٌ للبندقيَّة، وهذا يعني أنَّ القوَّة العسكريَّة للبندقيَّة غير موجودة بهذا الإقليم؛ إنَّما يُدافع عنه نبلاؤه فقط، ولا تتدخل البندقية إلَّا في الضرورة القصوى[8]، ومن هنا فإمكانيَّة إحداث حملةٍ ناجحةٍ عليه ستكون أكبر من المناطق التي توجد فيها جيوشٌ بندقيَّةٌ أساسيَّة.
هذا هو المكان المقصود: إقليم الفريولي، وهذا هو الوقت المحدد: خريف 1477م.. فكيف يُمكن تحقيق هذه الحملة العجيبة بنجاح؟!
بدأ الفاتح رحمه الله إعداده لهذه الحملة قبل موعدها بستَّة أشهر، أي في ربيع 1477م، وكانت عناصر خطَّته تشمل المحاور الآتية:
المحور الأوَّل: صرف ذهن البندقية عن احتمال غزو الفريولي.
المحور الثاني: سحب قوَّات البندقية إلى أماكن بعيدة عن الفريولي لضمان نجاح العمليَّة الخاطفة.
المحور الثالث: جمع المعلومات الكافية عن جغرافية الفريولي، بل جغرافية المناطق الشاسعة التي ستقطعها الجيوش العثمانيَّة في طريقها إليه، مع معرفة النقاط العسكريَّة والتحصينات التي من الممكن أن تواجه العثمانيِّين.
المحور الرابع: قمع الحلفاء المؤكَّدين، الذين سيتحرَّكون حتمًا مع البنادقة.
المحور الخامس: تحييد الحلفاء المحتملين، الذين قد يتردَّدون في الوقوف مع البندقية.
المحور السادس: تمهيد الحدود الغربيَّة للعمليَّات النهائيَّة في آخر المطاف؛ بمعنى أنَّ المطلب الحقيقي من اجتياح الفريولي ليس احتلاله؛ فالإمكانات العسكريَّة لا تسمح بهذا الأمر، كما أنَّ هناك فاصلًا كبيرًا من الأراضي المملوكة للمجر تقع بين حدود الدولة العثمانيَّة والفريولي؛ ولذلك ليس من المطلوب أن تبقى القوات العثمانيَّة في الفريولي وقتًا طويلًا؛ إنَّما الغرض هو الضغط على البندقية لتحقيق الأغراض النهائيَّة للسلطان الفاتح، التي تكمن عنده في هذه المرحلة في نقاطٍ ثلاث؛ الأولى: تأمين الحدود الغربيَّة من أيِّ عدوانٍ بندقيٍّ أو غيره، والثانية: قمع تمرد ألبانيا واسترداد البلاد إلى حوزة العثمانيِّين، وخاصَّةً كرويه مركز التمرُّد، والثالثة: امتلاك عدَّة نقاط استراتيجيَّة على الأدرياتيكي، وأهمها شقودرة وليزهي.
لتحقيق هذه المحاور الستَّة قرَّر الفاتح إخراج أربعة جيوشٍ عثمانيَّةٍ إلى أربعة اتِّجاهاتٍ مختلفة، مع إعداد جيشٍ خامسٍ كامن لا يتحرَّك الآن؛ إنَّما تكون مهمَّته اجتياح الفريولي في الوقت المناسب، وهذه الجيوش ستقوم بالمهمَّات الآتية:
الجيش الأوَّل: سيتَّجه إلى مدينة من المدن التابعة للبندقيَّة في شبه جزيرة المورة اليونانيَّة، وهذا سيضمن سحب قوَّاتٍ كبيرةٍ للبندقيَّة إلى هذا المكان؛ حيث توجد أكثر من مدينة بندقيَّة تحتاج إلى حماية، كما أنَّ خسارة البندقية السابقة في نيجروبونتي ستجعلها حريصةً تمامًا على الحفاظ على قلاعها الباقية في المنطقة، وقد وقع اختيار الفاتح على مدينة ليبانتو Lepanto شمال خليج باتراس Patras[9]، وسبب اختيارها فيما أعتقد أنَّها في أقصى شمال المورة، ممَّا يجعلها قريبةً من المراكز الرئيسة للجيوش العثمانيَّة في الروملي، ولذا فستكون حركة الجيش إليها أسرع وأسهل، بالإضافة إلى أنَّها آخر قلاع البنادقة في شمال اليونان، وبالتالي إذا تمت السيطرة عليها فستكون هذه المنطقة كلُّها خالصةً للدولة العثمانيَّة، وفوق ذلك فإنَّ جدران القلعة متهالكة إلى حدٍّ ما، وعدد سكَّانها قليلٌ نسبيًّا[10]، وهذا بسبب هجماتٍ عثمانيَّةٍ سابقةٍ عليها، وقد وضع الفاتح على رأس هذا الجيش والي الروملي سليمان باشا[11].
الجيش الثاني: سيتَّجه إلى مدينة كرويه Kruje الألبانيَّة الشهيرة[12]، وهي المدينة التي لم ينجح العثمانيُّون في فتحها في ثلاثة حصاراتٍ سابقة، في أعوام: 1450م، 1466م، 1467م. وكانت المعقل الرئيس للمقاومة الألبانيَّة، وهي مركز إسكندر بك السابق، وحصانتها معروفة، وعليها يرتكز نبلاء ألبانيا، وكان الفاتح يعلم أنَّ جيشًا عاديًّا لن يستطيع فتحها، ولهذا لم يكن الهدف النهائي من إرسال جيشٍ إلى هناك هو إسقاط المدينة؛ إنَّما كان يهدف أوَّلًا إلى إلهاء نبلاء ألبانيا في هذه المعركة حتى لا يتمكَّنوا من مساندة البندقية في معركتها القادمة مع العثمانيِّين؛ لأنَّ نبلاء ألبانيا حلفاء مؤكدون للبنادقة، وسيتحرَّكون حتمًا إذا طلب منهم البنادقة ذلك، كما أنَّ إرسال جيشٍ لحصار كرويه سيجذب لا شَكَّ جيشًا بندقيًّا للمساعدة، ممَّا يُعطي الفرصة للجيش الغازي للفريولي أن يُحقِّق النجاح، بالإضافة إلى ذلك فإنَّ هذا الجيش سيُحاصر المدينة فترةً طويلةً من الزمن، ممَّا يجعل فرصة فتحها في المرحلة القادمة ولعلَّه في العام المقبل -أي عام 1478م- فرصةً أكبر.
الجيش الثالث: هو أسطولٌ بحريٌّ سيتَّجه شمال بحر إيجة، للقيام بعدة عمليات عسكرية ضد البنادقة في أكثر من جزيرة من الجزر التي يسيطرون عليها، وإن كانت مهمته الرئيسة هي مهاجمة دوقية ناكسوس[13]، وهي دوقيَّةٌ مواليةُ للبنادقة، بل هم من أصولٍ بندقيَّةٍ معروفة، وغرض الحرب معهم مزدوج؛ هو من ناحيةٍ سحبٌ لقوَّات البنادقة إلى بحر إيجة بعيدًا عن مدينة البندقية التي ستتعرَّض للهجوم لاحقًا، وهو من ناحيةٍ أخرى قمعٌ للأسطول الخاصِّ بالدوقيَّة من مهاجمة الشواطئ التركيَّة في حال انشغال العثمانيِّين بالحرب في الغرب.
الجيش الرابع: سيتَّجه هذا الجيش إلى إمارة زيتا الواقعة شمال أَلبانيا البُندقية (في جمهوريَّة الجبل الأسود الآن)، وستكون وجهته الأولى في هذه الإمارة هي العاصمة ذاتها؛ أي مدينة زابلياك Žabljak[14]، والغرض هو قمع هذا الحليف المؤكَّد للبنادقة، وسحب قوَّات البنادقة إلى هذا المكان، بالإضافة إلى تمهيد المنطقة لسيطرةٍ عثمانيَّةٍ مقبلة؛ حيث إنَّ إمارة زيتا تُشكِّل الحدود الشماليَّة لألبانيا، وسيكون ضمُّها للدولة العثمانيَّة أحدَ أهداف المرحلة القادمة.
الجيش الخامس: وهو الجيش المرتقب الذي سيقوم بعمليَّة اجتياح الفريولي، وقد اختار الفاتح أن يكون هذا الجيش هو الجيش العثماني المرابط في البوسنة، وسيكون تحت قيادة واليها إِسكندر بك İskender Bey[15]، ويرجع اختيار هذا الجيش للقيام بالمهمَّة الصعبة إلى قربه النسبي من الحدود المجريَّة وإقليم الفريولي، وسوف تكون حركته مباغتةً للبندقيَّة، بعكس الجيوش القادمة من إسطنبول أو أدرنة في عمق الأراضي العثمانيَّة؛ حيث يُمكن لجواسيس البندقية إعلام حكومتهم بحركة هذه الجيوش الكبيرة، وغالبًا ستكون مهمَّة والي البوسنة في المرحلة القادمة هي جمع المعلومات الكافية حول المناطق التي سيخترقها، كما ستكون مهمَّته تجهيز جيشه بدنيًّا ونفسيًّا للمهمَّة الكبرى، التي سيتوقَّف عليها نجاح عمليَّة الضغط على البندقية.
هذه هي محاور خطَّة الفاتح رحمه الله للمرحلة القادمة، وهي محاور عظيمة وكبيرة، ولا تتأتَّى إلَّا من قائدٍ طموح، ودولةٍ قويَّةٍ قادرة، وجيوشٍ على أعلى مستويات الإعداد والطاقة.
تحرَّكت هذه الجيوش مجتمعة -باستثناء الجيش الخامس- في ربيع 1477م، لتبدأ عمليَّاتها في أوائل الصيف (حوالي شهر مايو)، وكانت نسبة النجاح متفاوتة، وإن كانت في العموم قد حقَّقت نجاحات كبيرة، بل وصلت في بعض الأماكن إلى أكثر ممَّا هو مطلوب..
كان الجيش الأوَّل هو أقلُّ الجيوش نجاحًا، على الأقل بالنسبة إلى التحليل العابر غير المتعمِّق، وسبب ذلك أنَّ الجيش حاصر مدينة ليبانتو وقلعتها ثلاثة أشهر كاملة دون أن تسقط، مع أنَّ الظروف تبدو مواتية؛ لأنَّ القلعة متهالكة، والسكَّان قليلون، والمدينة قريبة من الإمدادات العثمانيَّة؛ ولكن هذا التعثُّر في الفتح صاحَبَه نجاحٌ جانبيٌّ كبيرٌ له أثره؛ إذ إنَّ هذا الحصار الطويل اضطرَّ البنادقة إلى إرسال أسطولٍ كبيرٍ لنجدة المدينة؛ وذلك تحت قيادة أنطونيو لوريدان Antonio Loredan[16]، وهذا القائد البندقي هو من أعظم قادتهم مطلقًا، وهو أحد المشاركين في الدفاع سابقًا عن شقودرة في حصارها الذي كان في عام 1474م، ويُعَدُّ من أبطال الحرب البنادقة، ومن القلائل الذين حازوا لقب «فارس سان ماركو» «Knight of San Marco»[17]، وهذا يُوضِّح مدى اهتمام البندقية بالأمر. كلُّ هذا يعني أنَّ قوَّةً بندقيَّةً كبرى توجَّهت إلى ليبانتو، ممَّا يعني بالتبعيَّة نجاح سحب قوَّات البندقية بعيدًا عن المدينة الأم ڤينيسيا، وهذا كلُّه يصبُّ في نجاح مهمَّة اجتياح الفريولي لاحقًا، ومع ذلك فإنَّ الفاتح لم يكن راضيًا عن أداء سليمان باشا والي الروملي، خاصَّةً أنَّه فشل قبل ذلك بثلاثة أعوامٍ في فتح شقودرة عام 1474م، ولذا عزله، وولَّى مكانه مصطفى باشا[18].
بالنسبة إلى الجيش الثاني فقد كان المطلوب منه هو حصار كرويه فقط، ولم يكن الهدف هو إسقاط المدينة بهذا الجيش الصغير نسبيًّا؛ ولكن كان الهدف هو جمع قوَّات ألبانيا ونبلائها، وكذلك قوَّات البندقية الموجودة في شمال ألبانيا، حول المدينة المحاصَرة أو بداخلها، وهو ما تحقَّق بنجاح، والأكثر من ذلك أنَّ الفاتح كان قد طلب من هذا الجيش البقاء حول المدينة مهما طال الحصار، حتى بعد انتهاء مهمة الفريولي؛ وذلك لأنَّ إسقاط كرويه هو إحدى المهامِّ الرئيسة التي ترمي الخطَّة إلى تحقيقها في النهاية؛ ومِنْ ثَمَّ فإطالة الحصار ستؤدِّي حتمًا إلى سقوط المدينة ولو بعد حين، ولم يكن هذا أمرًا سهلًا؛ إذ إنَّ هذا كان يعني بقاء الجيش طول الشتاء بعد انتهاء حملة الفريولي، ثم الانتظار إلى صيف العام القادم حتى تُتاح فرصة للجيوش العثمانيَّة أن تتحرَّك بمدافعها من أدرنة وإسطنبول إلى ألبانيا؛ أي أنَّ الحصار سوف يستمرُّ أكثر من عامٍ كامل! وهذا كان السبيل الوحيد للفاتح لإسقاط المدينة التي فشلوا في فتحها ثلاث مرَّاتٍ متتالية، وكانت أُولَاها منذ سبع وعشرين سنةً كاملة، أي منذ عام 1450م، والحقُّ أنَّه من الصعب أن نتخيَّل الحالة البدنيَّة والنفسيَّة لجيشٍ يخرج من إسطنبول، وهو يعلم أنَّه لن يعود إلى الديار إلَّا بعد أكثر من عامٍ كامل، هذا إنْ كُتِب له النصر، وتحقَّقت لجنوده النجاة، فما أصعبها من مهمَّة، وما أطوله من جهاد!
رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِي رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوِ الغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا»[19].
أمَّا الجيش الثالث المتَّجه إلى بحر إيجة فقد حقَّق نجاحًا كبيرًا فوق ما هو مطلوب! إذ إنَّ مهمَّته كانت عرقلة أيِّ محاولةٍ من دوقيَّة ناكسوس لمساعدة البندقية، أو لضرب شواطئ الأناضول أو إسطنبول، وكذلك شغل الأسطول البندقي في أكثر من موضع، ولكن الأسطول العثماني لم يكتفِ بهذه المهمَّة؛ إنَّما حقَّق نجاحًا بالسيطرة على معظم جزر الدوقيَّة، حتى كادت تسقط بالكامل، ولم يتبقَّ لها إلَّا بضعة معاقل[20]، بالإضافة إلى ذلك فقد حقق الأسطول نصرًا على البنادقة في جزيرة ليمنوس، وإن كان لم يتمكن من استردادها، ومع ذلك فقد تعَّرض الأسطول العثماني لخسارة في جزيرة بسارا[21]، ولكن في العموم كانت مهمة هذا الجيش ناجحة إلى حدٍّ كبير، حيث إن هذه العمليَّات العسكريَّة المخيفة أبقت على سفن البندقية في المنطقة، أو على الأقل بالقرب منها في البحر الأبيض المتوسط؛ وذلك لحماية الجزر المملوكة للبندقيَّة، وأهمها جزيرة كريت.
كانت مهمَّة الجيش الرابع مهمَّةً صعبة؛ إذ كان مطلوبًا منه أن يُهاجم عاصمة إمارة زيتا زابلياك، التي تتميَّز بالحصانة الشديدة، بالإضافة إلى وجود قوَّة الإمارة الرئيسة بها، ومع ذلك فقد تحقَّق النجاح الكامل للجيش في أداء هذه المهمَّة، وقد اجتيحت معظم الإمارة في وقتٍ محدَّد، بل انسحب أمير زيتا إيڤان كرنويڤيتش من عاصمته إلى مدينة سيتنيي Cetinje في أقصى غرب الإمارة، وسيطر العثمانيُّون على مدينة زابلياك[22].
هكذا شهد صيف 1477م عدَّة نجاحات متتالية للجيوش العثمانيَّة ضدَّ البندقية وحلفائها، والأهمُّ من ذلك أنَّ جيوش البندقية صارت مبعثرة بين عدَّة مناطق متباعدة؛ فبعضها في شبه جزيرة المورة اليونانيَّة، وبعضها في بحر إيجة بالقرب من ناكسوس، وقسمٌ ثالثٌ في زيتا لمساعدة إيڤان كرنويڤيتش، وقسمٌ رابعٌ في ألبانيا لنجدة كرويه، فضلًا عن حالة الاستنفار القصوى التي كانت عليها أساطيل البندقية بشكلٍ عامٍّ لعدم معرفتهم بالموضع الجديد الذي ستختاره الدولة العثمانيَّة للصدام معها..
لقد كانت حالة عدم توازنٍ حقيقيَّةٍ تمرُّ بها الجمهوريَّة نتيجة هذه الضربات المتتالية، ومع ذلك فكلُّ ما سبق كان في كِفَّة، وما خبَّأه الفاتح للبندقيَّة في خريف 1477م كان في كِفَّةٍ أخرى، لعلَّها أثقلُ بكثيرٍ من الكِفَّة الأولى!
لقد توقَّعت البندقية أن تكون المحطَّة القادمة للعثمانيِّين هي مدينة شقودرة المهمَّة، التي فشلت الدولة العثمانيَّة في فتحها عام 1474م، وهي تُمثِّل قاعدة البنادقة في «أَلبانيا البُندقية»، وهي أهمُّ معاقل الأدرياتيكي بشكلٍ عامٍّ، كما أنَّ الفاتح طلب في مباحثاته الدبلوماسيَّة قبل الحرب تسليم هذه المدينة بالإضافة إلى كرويه في مقابل السلام، فإذا كان الفاتح يُحاصر كرويه الآن فلا شَكَّ أنَّه سيتَّجه إلى حصار شقودرة كذلك، ولهذا أرسلت الجمهوريَّة فرقة مهندسين كبيرة لتقوية تحصينات المدينة[23]، وقامت باختيار حاميةٍ قويَّةٍ من المرتزقة قوامها ثمانمائة مقاتل لتضعها بشكلٍ دائمٍ في المدينة[24]، وبالإضافة إلى ذلك فإنَّها قامت بإجراءٍ استثنائيٍّ لم تكن تسمح به من قبل، وهو الموافقة على تسليح المواطنين الألبان في المنطقة، واستخدامهم في الدفاع عن المدينة في الهجوم المرتقب[25]. كلُّ هذا يُؤكِّد أنَّ ذهن البندقية انصرف بالكلِّيَّة إلى شقودرة..
هذا ما كانت تُفكِّر فيه البندقية؛ لكن كان للفاتح رأيٌ آخر!
لقد بدأت حملة الفريولي المفاجئة!
لم تكن المفاجَأة للبندقيَّة وحدها؛ إنَّما كانت كذلك للدول المجاورة، وأهمها مملكة المجر، وإمبراطوريَّة النمسا، بل كانت مفاجِئة للمؤرِّخين والمحلِّلين بعد ذلك بقرون!
اختار إِسكندر بك والي البوسنة أحدَ أمهر القادة العسكريِّين في جيشه، ومن أكثرهم خبرة، لقيادة هذه الحملة العسكريَّة الاستثنائيَّة، وهو عمر توراهان أوغلو بك Turahanoğlu Ömer Bey [26]، وله فتوحاتٌ عسكريَّةٌ كبيرة ومتعدِّدة، وقد شارك قبل ذلك مع الفاتح في فتح شبه جزيرة المورة، وخاصَّةً مدينة أثينا، بل عيَّنه الفاتح حاكمًا على المورة بعد فتحها، وكان ذلك في عام 1458م[27]؛ أي منذ تسع سنوات كاملة، بل قاتل قبلها في عهد مراد الثاني، وقاتل بعدها كثيرًا في الإفلاق، والأناضول، وألبانيا، وغيرها، ولا يتَّسع المجال لشرح إنجازاته العسكريَّة المتفوِّقة. تولَّى عمر توراهان أوغلو بك قيادة ألف فارس[28]، وانطلق متوجِّهًا إلى إقليم الفريولي (خريطة رقم 13).
تحرَّك عمر بك من إقليم البوسنة شمالًا مخترقًا كرواتيا بكاملها من الجنوب إلى الشمال، وليس معلومًا على وجه الدقَّة إنْ كانت مغادرة عمر بك للبوسنة كانت من الناحية الشماليَّة الشرقيَّة أو من الناحية الشماليَّة الغربيَّة، ومع ذلك فالمتوقَّع أنَّه غادر من ناحية الغرب؛ لأنَّ الطريق منه أقصر كثيرًا من الآخر، وإن كان في كلِّ الأحوال سيخترق أراضٍ كثيرةً تابعةً لمملكة المجر؛ حيث إنَّ كرواتيا كلَّها كانت تتبع هذه المملكة آنذاك، ومع ذلك فهذا الاختراق لم يُحْدِث مشاكل تُذْكَر؛ لأنَّ الجيش العثماني لم يرتكب أيَّ محاولات تعدٍّ على الممتلكات الكرواتيَّة في طريقه، وبالتالي لم يتعرَّض لأيِّ محاولة مقاومةٍ من الجيوش المجريَّة الموجودة في كرواتيا، وهذا قد يعكس رهبةً عند المجريِّين من العثمانيِّين خاصَّةً بعد حملة الجيش العثماني الناجحة في كرواتيا عام 1476م؛ كردِّ فعلٍ لحصار ملك المجر لسمندرية كما أسلفنا.
لم يكتفِ الجيش العثماني باختراق كرواتيا المجريَّة؛ إنَّما أتبع ذلك باختراق سلوڤينيا أيضًا! وكانت سلوڤينيا تابعةً في هذا الوقت لإمبراطوريَّة النمسا[29]، التي كانت تُعرف في ذلك الوقت بالإمبراطوريَّة الرومانيَّة المقدَّسة، وكانت إمبراطوريَّةً عملاقة، وتُمثِّل إحدى أهمِّ القوى في أوروبا كلِّها، وكانت معاديةً بطبيعة الحال للدولة العثمانيَّة، وقد شاركت قبل ذلك في حرب الدولة العثمانيَّة عام (798هـ= 1396م) في معركة نيكوبوليس[30]، وهي الذِّراع الكبرى للبابا، والحرب المستقبليَّة مع الدولة العثمانيَّة حتميَّة، خاصَّةً إذا ما سقطت المجر في حوزة العثمانيِّين أو في حوزة إمبراطوريَّة النمسا؛ لأنَّ حدود العثمانيِّين ستُصبح حينئذٍ ملاصقةً للنمسا، وهذا سيقود إلى الحرب لا محالة.. هذا كلُّه يعني أنَّ عبور العثمانيِّين للأراضي السلوڤينيَّة التابعة للنمسا أمرٌ خطر؛ ولكنَّه كان لا بُدَّ منه للوصول إلى إقليم الفريولي شمال شرق إيطاليا، وقد حرصت الفرقة العثمانيَّة على عدم إحداث أيِّ صداماتٍ أو تعدِّيَّاتٍ في سلوڤينيا لعدم إثارة النمسا في هذا التوقيت.
هكذا اخترق العثمانيُّون سلوڤينيا بكاملها من الشرق إلى الغرب دون مقاومة، ووصلوا أخيرًا إلى مدينة جوريزيا Gorizia (الآن في إيطاليا)[31]، وكانت تُمثِّل الحدود بين سلوڤينيا وإيطاليا، أو بين إمبراطوريَّة النمسا وجمهوريَّة البندقية آنذاك.
عند مدينة جوريزيا عبرت الفرقة العثمانيَّة نهر إيسونزو Isonzo (وهو يعرف أيضًا بنهر سوكا Soča)[32]، ودخلت بذلك إقليم الفريولي التابع للبندقيَّة، وكما هو متوقَّعٌ فقد وجدت الفرقة العثمانيَّة في طريقها معسكرًا كبيرًا للبنادقة عند مدينة جراديسكا Gradisca، وكان من الواضح أنَّ عيون البندقية قد علمت بحركة الجيش العثماني من ساعة خروجه من البوسنة؛ لأنَّ استعدادها العسكري عند جراديسكا لم يكن استعدادًا عاديًّا على نقطةٍ حدوديَّةٍ بلا مشاكل؛ فقد كان جيش البندقية في هذا المعسكر كبيرًا، بالإضافة إلى وجود عددٍ من الشخصيَّات العسكريَّة المهمَّة، وهي ليست في المعتاد في هذه النقطة الحدوديَّة الشرقيَّة، بل تقع أماكن خدمتها في غرب جمهوريَّة البندقية؛ وذلك مثل قائد الجيش البندقي چيرولامو نوڤيلا Girolamo Novella، وهو كونت مدينة ڤيرونا Verona غرب البندقية (أكثر من مائتي كيلو متر من جراديسكا)، وكذلك كونت مدينة مانتوا ((Mantua، فليبو نوڤولون Filippo Nuvolone of Mantua، (أكثر من مائتين وعشرين كيلو مترًا من جراديسكا)[33].
عند هذه المدينة -جراديسكا- دارت معركةٌ سريعةٌ بين الفرقة العثمانيَّة والجيش البندقي، وعلى الرغم من المسافة الطويلة للغاية التي قطعها العثمانيُّون، وعلى الرغم من أنَّهم يدخلون هذا المكان لأوَّل مرَّة في تاريخهم، وعلى الرغم من أنَّهم يُقاتلون قومًا في أرضهم التي خبروها وعروفوا كلَّ خباياها، على الرغم من كلِّ ذلك فقد كتب الله نصرًا كاسحًا للعثمانيِّين على البنادقة، وقُتِل في هذه المعركة قائد البنادقة چيرولامو نوڤيلا. نحن لا نعرف على وجه التحديد عدد أفراد الجيش البندقي؛ ولكن يكفي أن نعرف عدد الأسرى الذين أمسك بهم العثمانيُّون لنعلم مدى الهزيمة التي لَحِقَت بالبنادقة، فقد ذكر المؤرِّخ البيزنطي -الذي كان يعيش في البندقية في ذلك الوقت- ثيودور سباندونيس Theodore Spandounes أنَّ عدد الأسرى البنادقة كان عشرين ألفًا[34]! ومع علمنا أنَّه كان من المعتاد في هذه الفترة التاريخيَّة أن يُبالِغ المؤرِّخون في الأعداد، فإنَّنا نعتقد بصحَّة هذا الرقم لأنَّ المؤرِّخين عادةً ما يُبالغون لصالح دولتهم، وحيث إنَّ الرقم يُعبِّر عن فضيحة البندقية فليس من المتوقَّع أن تكون المبالغة في اتِّجاه الزيادة، كما أنَّ هناك رواياتٍ كثيرةً تذكر أهميَّة هذا العدد الكبير من الأسرى، وكيفيَّة تعامل الدولة العثمانيَّة مع الحدث[35].
إنَّه حدثٌ كبيرٌ حقًّا!
كيف لهذه الفرقة العثمانيَّة الصغيرة أن تُحقِّق هذا النصر الكبير؟ وكيف لها أن تُسيطر على عشرين ألف أسير؟ وكيف تتحرَّك بهم هذه المسافات الطويلة دون اضطراب؟ ثم الأهم من كلِّ ذلك هو كيف لم يكتفِ العثمانيُّون بهذا النصر الساحق ويعودون أدراجهم بعد أن أحدثوا دويًّا صاخبًا في شرق إيطاليا؟ نقول هذا الكلام لأنَّه بعد هذا الانتصار المجيد أكمل العثمانيُّون غزوهم لإيطاليا غربًا متوغِّلين في إقليم الفريولي ليُحْدِثوا رعبًا لم يعرفه الإيطاليون منذ عقودٍ كثيرة؛ لقد أحدث العثمانيُّون عدَّة حرائق كبيرة في المزارع الضخمة التي تنتشر بين نهري إيسونزو Isonzo وتاجليامنتو Tagliamento، بعرض أكثر من أربعين كيلو مترًا، حتى صارت الحرائق تُرى من مدينة أوديني Udine في شمال الوادي الواقع بين النهرين، بل عبرت الفرقة العثمانيَّة نهر تاجليامنتو، وأكملت طريقها غربًا، لتحدث الحرائق نفسها مرَّةً أخرى في الوادي الواقع بين نهر تاجليامنتو شرقًا، ونهر بياڤي Piave غربًا، بعرض أكثر من أربعين كيلو مترًا كذلك[36]، وهذه الحرائق الأخيرة كانت من الشدَّة بحيث يراها أهل مدينة البندقية ذاتها من برج كنيسة سان ماركو Basilica di San Marco الشهيرة وسط المدينة[37]!
وينبغي لنا ونحن نقرأ عن هذه الحرائق أن نتذكر أنَّنا في حالة حربٍ حقيقيَّةٍ كبيرة مع جمهوريَّة البندقية منذ عام (867هـ= 1463م)؛ أي أربعة عشر عامًا، وأنَّ البنادقة حرقوا مدينة إزمير عام 1472م أثناء حرب السلطان الفاتح مع السلطان أوزون حسن[38]، وأنهم يحتلُّون عدَّة مواقع حيويَّة داخل الدولة العثمانيَّة في اليونان وبحر إيجة، وأنهم يحتلون بالفعل عدة جزر عثمانية مثل ليمنوس، وساموتراس، وثاسوس، وغيرها، وأنهم يدعمون التمرد الألباني، ويدعمون كذلك تمرد البغدان، وأنَّ إقليم الفريولي يُمثِّل قوَّةً اقتصاديَّةً كبيرةً لجمهوريَّة البندقية متمثِّلة في الاستثمارات الزراعيَّة الكبيرة التي يقوم بها أثرياء البندقية في هذا الإقليم؛ ومِنْ ثَمَّ فهذه العمليَّات هي التي يُمكن أن تُمثِّل ضغطًا على إمبراطوريَّةٍ قويَّةٍ كبيرة مثل إمبراطوريَّة البندقية.
نقول هذا الكلام مع علمنا أنَّه من الأفضل إنسانيًّا ألَّا يُحْدِث المسلمون الفساد في الأرض؛ ولكن قوانين الحرب تختلف عن قوانين السلام، وقد دُفِع العثمانيُّون إلى هذا السلوك دفعًا بعد نزالاتٍ كثيرة، ومحاولاتٍ متعدِّدةٍ لإنهاء الصراع مع البنادقة بشكلٍ سلمي؛ ولكن هذه القوى العظمى لا تفهم سوى لغة القوة، ولا تتحرك بجدِّيَّة في اتِّجاه السلام إلَّا عند رؤية خسائر المال والروح، وقد قال ابن عمر ب: «حَرَّقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ نَخْلَ بني النضير وَقَطَعَ، وَهِيَ البُوَيْرَةُ[39]». فَنَزَلَتْ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ﴾ [الحشر: 5][40]. وقد أورد الإمام مسلم الحديث نفسه في باب أسماه: باب جواز قطع أشجار الكفَّار وتحريقها[41]، فهذه العمليَّات هي عمليَّاتٌ استثنائيَّة لا تلجأ إليها الدول إلَّا في مثل هذه الظروف، وهي موازيةٌ في زماننا للعمليَّات العسكريَّة التي تُمارسها الدول الكبيرة ضدَّ المصالح الاقتصاديَّة للدول المحاربة لها لإرغامها على قبول شروطها، أو إعلان الاستسلام في الحرب.
لم تكن خسارة البندقية خسارةً اقتصاديَّة فقط، ولا عسكريَّة فحسب، بل كانت الخسارة المعنويَّة أكبر من ذلك بكثير! إذ حدثت هزيمةٌ نفسيَّةٌ قاسيةٌ للبنادقة جعلتهم يقفون ساكنين لعدَّة أسابيع دون محاولةٍ لمواجهة الفرقة العثمانيَّة المحدودة؛ فإنَّ ما فعله العثمانيُّون في هذه الحملة بألف رجلٍ فقط يُقاتلون في بلادٍ غريبةٍ عليهم، وهم يبعدون عن قواعدهم في البوسنة أكثر من خمسمائة كيلو متر، ويفصل بينهم وهذه القواعد جبالٌ شاهقة، وأنهارٌ عريضة، وأعداءٌ في ثلاث ممالك ضخمة: المجر، والنمسا، والبندقية. إنَّ ما حدث هذا هو في عُرْف العمليَّات العسكريَّة نوعٌ من المعجزة، أو يُمكن القول: إنَّه مهمَّةٌ استشهاديَّة، أو انتحاريَّة بتعريف المحلِّلين العسكريِّين، ومع ذلك لم تقوَ البندقية على التحرُّك إلَّا بعد مرور أسابيع من الحدث.
خرج الجيش البندقي من مدينته الأم في 2 نوفمبر 1477م لمواجهة العثمانيِّين[42]، ولكن بمجرَّد خروجه اختفت الفرقة العثمانيَّة تمامًا؛ حيث عادت أدراجها بمنتهى السرعة مرورًا بالأقطار الواسعة التي قطعتها، وهذا بالطبع ذكاءٌ وحنكة؛ حيث لا يُمكنهم بحالٍ مواجهة الجيش البندقي الأساسي، كما لا يستطيعون اقتحام المدينة، ولا حتى البقاء في المنطقة مدَّةً طويلة، خاصَّةً أنَّ الشتاء على الأبواب.
حقَّقت الحملة نجاحًا كبيرًا عبَّر عنه المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون Kenneth Setton بقوله: «كانت حملة الأتراك فوق العادة» (extra ordinary)[43]. وكانت للحملة من الآثار ما تعدَّى الزمان والمكان، ويُمكن أن نذكر طرفًا من هذه الآثار على النحو التالي:
أوَّلًا: أحدثت الحملةُ أزمةً كبيرةً داخل البندقية، وقد نقل المؤرِّخ الألماني بابينجر Babinger حوارًا صادمًا دار بين أحد كبار القساوسة وهو سيلسو مافي Celso Maffei، ورئيس الجمهوريَّة أندريا ڤيندرامين، وقد صرخ سيلسو في وجه رئيس الجمهوريَّة قائلًا: «العدوُّ على أبوابنا، والفأس على جذر الشجرة» (يقصد أنَّ فأس العثمانيِّين على أصل شجرة النصرانية، بمعنى أنَّه سيقطعها نهائيًّا)، ثم أكمل: «ما لم تكن هناك عنايةٌ ربانيَّةٌ فإنَّ موت النصرانية أمرٌ محتَّم». وقد علَّق بابينجر على هذا الحوار بأنَّه يعكس عاطفة شعب البندقية وشعورهم آنذاك[44]، ولا شَكَّ أنَّ مثل هذه اللهجة الشديدة في مخاطبة رئيس الجمهوريَّة تُعبِّر عن مدى الاضطراب الذي وصلت إليه البندقية بعد هذه الحملة الجريئة.
ثانيًا: قامت هذه الحملة بردع البندقية تمامًا، فلم تفكر قط في ضرب سواحل الأناضول منعًا لإثارة الدولة العثمانيَّة، وقد ربط المؤرِّخ الأميركي ستانفورد شو Stanford Shaw بين توقُّف غارات البندقية على الأناضول التركي وبين هذه الحملة الناجحة[45].
ثالثًا: لم تكن أزمة البندقية محدودة بالمدينة الأم ڤينيسيا، أو بإقليم الفريولي الذي تعرَّض للضرر أثناء الحملة؛ بل امتدَّت الأزمة حتى شملت أَلبانيا البُندقية كذلك، فقد رحَّل حاكم شقودرة في ذلك الوقت -وهو نيكولاس مونيتا Nicholas Moneta[46]- زوجته وأولاده الخمسة إلى ڤينيسيا، توقُّعًا منه أنْ تكون الخطوة القادمة بعد حملة الفريولي هي إسقاط شقودرة[47]، وهذا يعكس بوضوح حالة القلق التي وصلت إليها المدينة، وفَقْدِ الثِّقة في إمكانيَّة الحفاظ على أمنها، وهذه الحالة لم تكن موجودة في حصار شقودرة عام 1474م، ممَّا يُؤكِّد الأثر الفعال لحملة الفريولي في نفسيَّات قادة البنادقة.
رابعًا: كانت آثار الحملة العثمانيَّة أوسع من حدود جمهوريَّة البندقية؛ فقد شمل القلق مملكة المجر، وكذلك إمبراطوريَّة النمسا، وكانت الدولتان مشغولتين بحرب بعضهما البعض، وخاصَّةً ماتياس ملك المجر الذي غزا شرق إمبراطوريَّة النمسا ليُجبر الإمبراطور فريدريك الثالث على تعيينه ملكًا على بوهيميا[48]، ومع ذلك، ونتيجة الحملة العثمانيَّة، هدَّد البابا سيكستوس الرابع بحرمان المجر من الدعم المالي إنْ لم تعقد سلامًا مع النمسا، وذلك من أجل الاتحاد لحرب الدولة العثمانيَّة، وقد رضخ ملك المجر لذلك، وكذلك وافق إمبراطور النمسا، وكانت معاهدة السلام بين الطرفين في أوَّل ديسمبر 1477م[49]، وهكذا أرعبت الحملة الدولتين، وظهر للدولة العثمانيَّة عدوٌّ جديد، هو الإمبراطوريَّة النمساويَّة (الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المقدَّسة)، التي سيكون لها شأنٌ كبيرٌ مع العثمانيِّين في القرون القادمة.
خامسًا: دفعت الحملةُ العثمانيَّةُ المجلسَ التشريعيَّ للمجر (الدايت) إلى أخذ قراراتٍ غير مسبوقة في تاريخه، وذلك في فبراير 1478م، وأهمها إعطاء الملك ماتياس صلاحيَّات كاملة لفرض الضرائب التي يُريد على الشعب من أجل التجهيز لأيِّ معركةٍ قادمة، كذلك أعطى المجلسُ التشريعيُّ الملكَ صلاحيَّة تحريك الجيش المجري لحرب أيِّ عدوٍّ يُمكن تصوُّره[50]، وكانت الدولة العثمانيَّة هي أولى القوى المرشَّحة لهذه الحرب بطبيعة الحال، ومع ذلك فيبدو أنَّ الرهبة الكبيرة من الدولة العثمانيَّة بعد إقدامها على هذه الخطوة الجريئة للغاية منعت ملك المجر من أخذ أيِّ قرارٍ متهوِّر، ولذلك لم نرَ أيَّ تعدِّيَّاتٍ منها على الدولة العثمانيَّة في عام 1478م كلِّه، على الرغم من أنَّ العمليَّات العسكريَّة العثمانيَّة كانت على أشدِّها تجاه البندقية كما سيتبيَّن، وهذا دفع بعض المؤرِّخين إلى اعتقاد أنَّ هناك معاهدة سلام سرِّيَّة كانت بين المجر والدولة العثمانيَّة[51]، وإنْ لم يكن هناك أيُّ دليلٍ على مثل هذه المعاهدة.
سادسًا: كان أثر الحملة في مملكة نابولي كبيرًا؛ فعلى الرغم من أنَّ المملكة تُعادي الدولة العثمانيَّة منذ أيَّام إسكندر بك والي ألبانيا الراحل، حيث كانت تدعمه في زمانه، ثم صارت تدعم التمرد الألباني بوضوح بعد موته عام 1468م؛ فإنَّ فرديناند الأول ملك نابولي -على عكس كلِّ التوقُّعات- تقدَّم بطلب معاهدة سلامٍ مع الدولة العثمانيَّة، وقد قَبِل السلطان الفاتح هذا العرض، وأرسل سفيرًا عثمانيًّا لإتمام المعاهدة، التي ردَّت بدورها بإرسال بعثةٍ دبلوماسيَّةٍ محمَّلة بالهدايا الثمينة إلى إسطنبول[52]، وكان أثر هذه العلاقة الودِّيَّة المفاجئة سيِّئًا للغاية في البندقية، عدوَّة نابولي والدولة العثمانيَّة، خاصَّةً أنَّ مخاوف البندقية كانت كبيرةً جدًّا من أن يحذو ملك المجر ماتياس حذو ملك نابولي في علاقته السلميَّة مع السلطان الفاتح؛ وذلك للعلاقة الأسريَّة التي تربط بين الملكين، حيث تزوَّج ماتياسُ ابنة ملك نابولي فرديناند الأول، واسمها بياتريس Beatrice، عام 1476م[53]؛ أي قبل هذه الأحداث بعامٍ واحد.
سابعًا: إذا كان هناك أثرٌ سلبيٌّ كبيرٌ -كما شرحنا- في البندقية، والمجر، والنمسا، وكذلك في نابولي، فإنَّ الأثر لا شَكَّ كان إيجابيًّا جدًّا في الدولة العثمانيَّة؛ لقد رفعت هذه الحملة معنويَّات العثمانيِّين إلى السماء، ومِنْ ثَمَّ رأينا نشاطًا عسكريًّا كبيرًا في غرب البلقان: في ألبانيا، وأَلبانيا البُندقية، وإمارة زيتا، وكل ذلك في شتاء (1477- 1478م)، وهذا غير معتاد؛ لتوقُّف العمليَّات العسكريَّة في الشتاء نتيجة الثلوج والأمطار، ولكن يبدو أنَّ السلطان الفاتح أراد أنْ يستغلَّ ارتفاع أسهم الدولة العثمانيَّة في هذه الحملة الاستثنائيَّة لتحقيق نجاحاتٍ قد لا تحدث في الظروف الطبيعيَّة، وهذا ما دفعه إلى بعض الإجراءات المهمَّة، التي كان منها ما يلي:
1. الاصطدام العسكري مع قوَّات إمارة زيتا، والانتصار على الجيش الرئيس للإمارة بقيادة أميرهم إيڤان كرنويڤيتش، وهذا حقَّق السيطرة للعثمانيِّين على معظم إمارة زيتا، وكان هذا في آخر 1477م، أو أوَّل 1478م[54].
2. استمرار حصار مدينة كرويه Kruje المهمَّة في ألبانيا، وكان الحصار قد بدأ في شهر مايو 1477م، وبذلك أخذ العثمانيُّون دفعةً معنويَّةً قويَّةً لإكمال الحصار الصعب، والبقاء هذه الشهور أمام أسوار المدينة الحصينة.
3. الانتشار العسكري الشامل في ألبانيا، والسيطرة عل المراكز الحيويَّة فيها، وهكذا صار العثمانيُّون يحكمون معظم ألبانيا، وذلك باستثناء المدن الساحليَّة على الأدرياتيكي، والمدن الواقعة في أقصى غرب البلاد، مثل: شقودرة، وكرويه، وليزهي[55].
4. أرسل السلطان الفاتح فرقةً هندسيَّةً لبناء عدَّة جسورٍ وتحصيناتٍ على نهر بويانا Bojana، وتحديدًا في قرية شيرچي Shirgj؛ حيث إنَّ هذا النهر يصل مدينة شقودرة بالبحر الأدرياتيكي، وكان الهدف من هذه التحصينات منع سفن البندقية من سلوك هذا النهر لإنقاذ مدينة شقودرة عندما تُحاصَر[56]، وبذلك وضح أنَّ الخطوة القادمة للفاتح ستكون حِصار مدينة شقودرة، ولعلَّ هذا يكون في الصيف المقبل؛ أي صيف 1478م.
5. أرسل الفاتح فرقةً أخرى لإصلاح الطرق في ألبانيا[57]؛ بحيث يُمكن أن تستوعب المدافع الضخمة التي قد يحملها الجيش معه في الحصار المقبل، والحقُّ أنَّ هذه المعلومة تُفيد أنَّ السيطرة العثمانيَّة على ألبانيا صارت محكمة؛ حيث إنَّه لن يتمكَّن المهندسون من العمل في بناء الجسور وتوسعة الطرق دون حمايةٍ عسكريَّةٍ قويَّة، وتأمينٍ كاملٍ لفرق العمل، ممَّا يُؤكِّد تمكُّن العثمانيِّين من البلد في هذه الفترة.
ثامنًا: استقرَّت الأوضاع في إسطنبول، وكانت معنويَّات السلطان مرتفعة، وقد وجدنا في المصادر بعض الأحداث التي توضِّح أنَّه كان يتعامل بهدوء مع قضايا الدولة المختلفة، وهذا هو المتوقَّع عندما تأتي الأخبار السعيدة التي تحمل الانتصار والمجد، فعلى سبيل المثال وجدنا أنَّه في هذه الفترة كان يدرس الوضع في خانية القرم، ووجد أنَّه من الأفضل أن يُعيد «منكلي كراي» خان القرم الأوَّل الذي سُجِن في عام (880هـ= 1475م) عند ضمِّ القرم؛ وذلك بعد أن ضَمِنَ ولاءه[58]، وذلك لكونه أفضل في إدارة البلد، وله قاعدةٌ شعبيَّةٌ طيِّبة، خاصَّةً أنَّ خطر چنوة التي كان يُواليها منكلي كراي قبل ذلك قد انتهى من البحر الأسود، ووجدنا أيضًا في أحداث هذه الفترة أنَّ الفاتح يصُكُّ أوَّل عملةٍ ذهبيَّةٍ في تاريخ الدولة العثمانيَّة، وكانت العملات الذهبيَّة مهمَّةً جدًّا في التعامل في التجارة الخارجيَّة، وكانت الدولة تعتمد قبل ذلك على العملات الأوروبِّيَّة سواءٌ من البندقية أم نابولي[59][60]، ولكنَّها صارت الآن معتمدةً على عملاتها الخاصَّة، كما وجدنا في أحداث هذه الفترة وضع القانون الأساسي للدولة.
هذه الأخبار وأمثالها تُوَضِّح الحالة النفسيَّة المتفائلة التي كانت عليها الدولة في هذه المرحلة، وهذا يرجع إلى حدٍّ كبيرٍ للنجاح العظيم الذي حقَّقته الجيوش العثمانيَّة في الشهور الأخيرة، خاصَّةً ما كان منه في شمال شرق إيطاليا، في عمق أراضي العدو!
بعد رؤية هذه الآثار الكبيرة وتحليلها نُدرك أنَّ البندقية كانت تمرُّ بأزمةٍ حقيقيَّةٍ لم تعهدها من قبل؛ فالدولة العثمانيَّة تُحقِّق يومًا بعد يوم نجاحًا وانتصارًا، وما فعلته في سهول الفريولي أمرٌ مرعبٌ حقًّا، وحلفاء البندقية متكاسلون، وعلى رأسهم: المجر، ونبلاء ألبانيا، وأمير زيتا، أما أمراء ناكسوس فكلهم ضعفاء لا يقوون على مساعدة أنفسهم فضلًا عن مساعدة البندقية، ونابولي، العدوُّ اللدود للبندقيَّة، تتعاون بشكلٍ غير مفهومٍ مع الدولة العثمانيَّة، وزاد الطين بِلَّةً وفاة السلطان أوزون حسن زعيم الآق قوينلو في هذه الفترة، ومع اختلاف المصادر في تحديد وقت وفاته إلَّا أنَّنا يُمكن أن نعتمد ما ذكره المؤرِّخ العراقي عبد الله بن فتح الله البغدادي، والمعروف بالغياثي، وذلك في كتابه التاريخ الغياثي، وهو أنَّ السلطان أوزون حسن مات في (أوائل يناير 1478م الموافق 27 رمضان 882هـ)[61]، ومع أنَّ هناك مصادر ذكرت تواريخ تختلف عن هذا التاريخ، سواءٌ قبله أم بعده، فإنَّ هذا المصدر أوثق، ليس فقط لأنَّ عبد الله الغياثي معاصر للسلطان أوزون حسن؛ ولكن لأنَّه كان يعيش في بغداد[62] وهي إحدى المدن الكبيرة في مملكة الآق قوينلو، ولا شَكَّ أنَّه أدرى بوقت الوفاة؛ لهذه الصِّلة الزمانيَّة والمكانيَّة بالحدث.
هذه الظروف المعقَّدة التي تمرُّ بها البندقية جعلت المؤرِّخ الأميركي كينيث سيتون يَعُدُّ هذه الفترة أكثر فترات الجمهوريَّة ظلامًا في كلِّ تاريخها[63]، وكانت تتمنَّى إنهاء الحرب مع العثمانيِّين بأيِّ صورة، لكنَّ كبرياءها وتاريخها ومصالحها المستقبليَّة، يمنعها من التقدُّم إلى العثمانيِّين بطلب السلام؛ لأنَّها تعلم أنَّ شروط الفاتح ستكون قاسيةً في هذه الظروف، أمَّا الفاتح فكان يعلم الوضع الرائع التي وصلت إليه دولته في هذه المرحلة، ولهذا لم يفتح الباب الدبلوماسي قط مع البندقية؛ إنَّما أراد استمرار الطَّرْقِ على الحديد وهو ساخن، ليُشَكِّل الأحداث وفق إرادته هو لا إرادة البندقية، وهكذا استمرَّ سعيه الحثيث لإنهاء المسألة بالطريقة العسكريَّة.
لا بُدَّ أيضًا أن يُؤخذ في الاعتبار أنَّ الظروف بشكلٍ عامٍّ كانت مواتيةً للحلِّ العسكريِّ الصريح، وذلك لاعتباراتٍ عدَّة؛ منها هدوء الجبهة الشماليَّة تمامًا؛ فملك المجر ساكن كما ذكرنا، واستيفين الثالث هو الآخر يُراقب الأحداث في صمت، وليس من جانبه تهديدٌ يُذْكَر للدولة العثمانيَّة، والإفلاق تابعةٌ دون مشكلات. هذا من ناحية الجبهة الشماليَّة، أمَّا الجبهة الشرقيَّة فكانت أكثر هدوءًا؛ حيث إنَّ وفاة السلطان أوزون حسن أدخلت بلاده في دوَّامة الحرب الأهليَّة[64][65]، ولم يكن الروس أيضًا ملتفتين للدولة العثمانيَّة؛ حيث كان إيڤان الثالث أمير موسكو في قمَّة حروبه مع إمارة نوڤجورود، التي انتهت في 15 يناير 1478م بتوقيع اتفاقيَّةٍ بين الطرفين لصالح إيڤان، وإن كان الوضع بطبيعة الحال ليس مستقرًّا بعد حربٍ دامت قرابة ثماني سنوات (منذ 1470م)[66].
هذا الهدوء في الجبهتين الشماليَّة والشرقيَّة، مع سيطرة الأسطول العثماني على الأمور في الجبهة الجنوبيَّة -أعني في بحر إيجة- جعلت التحرُّك عسكريًّا في اتِّجاه الغرب أمرًا ميسورًا دون مخاطر، وهذا ما دفع الفاتح إلى أخذ قراراتٍ عسكريَّةٍ قويَّةٍ للغاية في هذه المرحلة، وهذا يشمل إخراج عدَّة جيوشٍ ضخمةٍ في آنٍ واحد، وكان هذا بدايةً من ربيع 1478م، أي أواخر أبريل وأوائل مايو، وهذه الجيوش كانت ثلاثة على النحو التالي:
الجيش الأوَّل: هو جيش الروملي؛ أي الجيش الأوروبي للدولة العثمانيَّة، وهو جيشٌ مقرُّه الرئيس في الجانب الأوروبي من الدولة العثمانيَّة، ويتولَّى قيادة العمليَّات العسكريَّة في البلقان، وكان تحت قيادة كوكا داود باشا Koca Davud Pasha، وهو قائدٌ عسكريٌّ قديرٌ من أصول ألبانيَّة[67]، وسيُصبح لاحقًا صدرًا أعظم للدولة، وله الكثير من الأعمال الخيريَّة والمنشآت الباقية إلى زماننا[68]، وكانت الوجهة الرئيسة لهذا الجيش هي مدينة شقودرة.
الجيش الثاني: هو جيش الأناضول؛ أي جيش آسيا الصغرى للدولة العثمانيَّة، ومقرُّ هذا الجيش في الجانب الآسيوي من الدولة العثمانيَّة، ويتولَّى قيادة العمليَّات العسكريَّة في الأناضول، ومع ذلك فقد سحبه السلطان الفاتح إلى الجهاد في أقصى غرب البلقان، وفي هذا دلالةٌ على أمرين: الأوَّل هو عِظَم حجم المهمَّة العسكريَّة القادمة التي احتاجت إلى معظم القوَّة الحربيَّة للدولة، والثاني اطمئنان السلطان الفاتح تمامًا إلى الجبهة الشرقيَّة؛ حيث لا يتوقَّع أيَّ هجومٍ على الدولة العثمانيَّة من جانب مملكة الآق قوينلو، التي تُعاني حربًا أهليَّةً بعد وفاة سلطانها أوزون حسن، وكان جيش الأناضول تحت قيادة مصطفى باشا، وكانت وجهة هذا الجيش إلى شقودرة مثل الجيش الأوَّل[69].
الجيش الثالث: كان هذا الجيش بقيادة السلطان الفاتح نفسه، وكان متوجِّهًا إلى كرويه Kruje، وهي المدينة التي حاول الفاتح أن يُسقطها قبل ذلك مرَّتين في أثناء حكمه، عامي (1466، و1467م)، ولكنَّه فَشِل في ذلك، وهو الآن يتَّجه إليها بعد أحد عشر عامًا كاملة من المحاولة الأخيرة، آملًا أن يكتب الله على يده ما عجز عنه قبل ذلك، بل ما عجز عنه أبوه مراد الثاني كذلك في حصار 1450م للمدينة نفسها، وكانت المدينة قد وقعت تحت الحصار العثماني منذ عامٍ كامل؛ حيث أحاط الجيش العثماني بالمدينة منذ مايو 1477م، حتى هذه اللحظة[70].
تحرَّكت الجيوش الثلاثة من إسطنبول والروملي والأناضول في أوقاتٍ متقاربة، حيث خرج الجيش الأوَّل ثم الثَّاني فالثَّالث، ليقطعوا مسافةً طويلةً للوصول إلى هدفهم في غرب البلقان (أكثر من ثمانمائة كيلو متر بالنسبة إلى جيوش إسطنبول، أمَّا جيوش الأناضول فقطعت مسافةً أطول من هذا بكثير)، وحتى لا يجد الفاتح مفاجآت غير محسوبة فقد أرسل إلى والي البوسنة إِسكندر بك يطلب منه تسيير بعض فرق الكوماندوز، والخيول الخفيفة؛ لحصار شقودرة حصارًا مبدئيًّا لحين وصول الجيوش الرئيسة[71].
لا شَكَّ أنَّ حركة مثل هذه الجيوش الكبيرة لا تحدث في الخفاء، ولا شَكَّ أنَّ أخبار هذه الحركة الضخمة قد وصلت إلى البندقية سريعًا، ويبدو أنَّ رئيس جمهوريَّة البندقية المسنَّ أندريا ڤيندرامين لم يتحمَّل هذه الأخبار المرعبة (عمره آنذاك خمسٌ وثمانون سنة)، فمات فور وصول خبر حركة الجيوش العثمانيَّة، وتحديدًا في 5 مايو 1478م[72]! كانت الصدمة كبيرة للبنادقة؛ حيث إنَّ الظروف الصعبة التي تمرُّ بها الجمهوريَّة لا تتحمل الدخول في معترك انتخاباتٍ جديدةٍ للرئاسة، خاصَّةً أنَّ الرئيس الجديد يأخذ وقتًا في المعتاد حتى يتأقلم مع الأحداث الجارية في بداية ولايته، وكانت هذه هديَّةً ربَّانيَّةً من الله للسلطان الفاتح والدولة العثمانيَّة؛ حيث إنَّ هذا الحدث رفع من معنويَّات العثمانيِّين وأحبط البنادقة.
هكذا انطلقت الجيوش العثمانية بمعنويات مرتفعة إلى ألبانيا، وكلها أمل في تحقيق المراد، وقمع التمرد الألباني الطويل، والبداية ستكون في شقودرة وكرويه، وهذا هو موضوع المقال القادم![73].
[1] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, pp. 360-361.
[2] Elsie Robert Historical Dictionary of Albania [Book]. - [s.l.] : The Scarecrow Press, 2010, p. xxix.
[3] Arbel, 2013, p. 133
[4] Babinger, 1978, p. 372.
[5] Pulaha Selami [Albanian-Turkish Wars in the Fifteenth Century: Ottoman Sources] Lufta shqiptaro-turke në shekullin XV. Burime Osmane [Book]. - [s.l.] : Tirana: Universiteti Shtetëror, 1968, p. 72.
[6] Babinger, 1978, p. 358.
[7] Pezzolo Luciano The Venetian Economy [Book Section] // A Companion to Venetian History, 1400-1797 / book auth. Dursteler Eric R. - Leiden, The Netherlands : Brill, 2013, p. 267.
[8] Knapton Michael The Terraferma State [Book Section] // A Companion to Venetian History, 1400-1797 / book auth. Dursteler Eric R. - Leiden, The Netherlands : Brill, 2013, pp. 95-96.
[9] أوزتونا: أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية [كتاب] / المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/168.
[10] Miller William The Latins in the Levant: A History of Frankish Greece (1204–1566) [Book]. - New Yourk : E. P. Dutton and Company, 1908, p. 480.
[11] أوزتونا، 1988م صفحة 1/168.
[12] Setton Kenneth Meyer The Papacy and the Levant, 1204-1571: The fifteenth century [Book]. - [s.l.] : American Philosophical Society, 1976, vol. 2, p. 327.
[13] Miller, 1908, p. 612.
[14] Fine John Van Antwerp The Late Medieval Balkans: A Critical Survey from the Late Twelfth Century to the Ottoman Conquest [Book]. - [s.l.] : University of Michigan Press,, 1994, p. 600.
[15] Babinger, 1978, p. 358.
[16] Mallett Michael E. [et al.] War, Culture and Society in Renaissance Venice: Essays in Honour of John Hale [Book]. - London : The Hambledon Press., 1993, p. 42.
[17] Georgetown university Italian history & culture: yearbook of Georgetown university [Book]. - [s.l.] : Georgetown university at Villa Le Balze, Fiesole: Cadmo, 1997, p. 136.
[18] أوزتونا، 1988م صفحة 1/168.
[19] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل الله، (2735)، وأحمد (22923).
[20] Miller, 1908, p. 612.
[21] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973, p. 85.
[22] Fine John Van Antwerp The Late Medieval Balkans: A Critical Survey from the Late Twelfth Century to the Ottoman Conquest [Book]. - [s.l.] : University of Michigan Press,, 1994, p. 600.
[23] Schmitt Oliver Jens Arbëria Venedike (1392-1479), [Venetian Albania (1392-1479)] [Book] / trans. Klosi Ardian. - Tirana, Albania : K&B, 2002, p. 614.
[24] Samardžić Radovan [et al.] Историја српског народа: шест књига: Доба борби за очување и обнову државе (1371-1537) [History of the Serbian People: The Age of Struggle for Preservation and Restoration of the State 1371-1537] Istorija srpskog naroda (in Serbian) [Book]. - Belgrade : Srpska književna zadruga., 1982, p. 409.
[25] Schmitt, 2002, p. 612.
[26] Babinger, 1978, p. 358.
[27] Setton, 1976, vol. 2, p. 198.
[28] Babinger, 1978, p. 358.
[29] Stewart James Slovenia [Book]. - [s.l.] : New Holland Publishers,, 2006, p. 10.
[30] Tuchman Barbara W. A Distant Mirror: the Calamitous 14th Century [Book]. - New York, USA : Alfred A. Knopf, 1978, p. 547.
[31] Babinger, 1978, p. 358.
[32] Mallett Michael E. and Hale John Rigby The Military Organisation of a Renaissance State: Venice C.1400 to 1617 [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press., 2006, p. 91.
[33] Babinger, 1978, p. 358.
[34] Spandounes Theodore On the Origins of the Ottoman Emperors [Book] / ed. Nicol Donald M. / trans. Nicol Donald M.. - [s.l.] : Cambridge University Press, 1997, p. 48.
[35] Babinger, 1978, p. 358.
[36] Stone Elizabeth Turkey Old and New: Historical, Geographical and Statistical [Book]. - London, UK : W. H. Allen & Co.,, 1882, vol. 1, p. 144.
[37] Babinger, 1978, p. 358.
[38] أوزتونا، 1988م صفحة 1/161.
[39] البويرة: موضع نخل بني النضير، الحموي، 1995م صفحة 1/512.
[40] البخاري: كتاب المغازي، باب حديث بني النضير ومخرج رسول الله r إليهم في دية الرجلين وما أرادوا من الغدر برسول الله r (3807).
[41] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب جواز قطع أشجار الكفَّار وتحريقها (1746).
[42] أوزتونا، 1988م صفحة 1/161.
[43] Setton, 1976, vol. 2, p. 327.
[44] Babinger, 1978, p. 358.
[45] Shaw Stanford Jay and Shaw Ezel Kural History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis - The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808 [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press., 1976, vol. 1, p. 69.
[46] Gesemann Wolfgang Serta Slavica in memoriam Aloisii Schmaus [Book]. - [s.l.] : Tofenik, 1971, p. 738.
[47] Bassani Lucia Nadin Migrazioni e integrazione: il caso degli Albanesi a Venezia (1479-1552) [Migration and integration: the case of the Albanians in Venice (1479-1552)] [Book]. - [s.l.] : Bulzoni,, 2008, p. 22.
[48] Engel Pál The Realm of St Stephen: A History of Medieval Hungary, 895–1526 [Book]. - London, UK : I.B. Tauris Publishers, 2001, p. 306.
[49] Dyer Thomas Henry The history of modern Europe: from the fall of Constantinople in 1453, to the war in the Crimea in 1857 [Book]. - London, UK : J. Murray, 1861,vol. 1, p. 196.
[50] Babinger, 1978, p. 359.
[51] Engel, 2001, p. 307.
[52] Babinger, 1978, p. 359.
[53] Kubinyi András Matthias Rex [Book] / trans. Gane Andrew T.. - Budapest : Balassi Kiadó, 2008, p. 136.
[54] Fine, 1994, p. 600.
[55] Babinger, 1978, p. 366.
[56] Hosaflook David Marin Barleti: The Siege of Shkodra: Albania's Courageous Stand Against Ottoman Conquest, 1478 [Book]. - Albania : Onufri Publishing House, 2012, p. 16.
[57] Babinger, 1978, p. 362.
[58] Milner Thomas The Crimea: Its Ancient and Modern History: the Khans, the Sultans, and the czars [Book]. - London : Longman, Brown, Green and Longman, 1855, p. 146.
[59] Babinger, 1978, pp. 367-368.
[60] إحسان أوغلي، وآخرون: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، المترجمون نقله إلى العربية: صالح سعداوي. - إستانبول : مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية ، 1999م صفحة 1/665.
[61] الغياثي: التاريخ الغياثى (الفصل الخامس) من سنة (656هـ -891هـ /1258-1486م)، دراسة وتحقيق: طارق نافع الحمداني [كتاب]. - بغداد - العراق : مطبعة أسعد، 1975م صفحة 391.
[62] الغياثي، 1975م الصفحات 7-9.
[63] Setton, 1976, vol. 2, p. 327.
[64] Murray Hugh Historical account of discoveries and travels in Asia [Book]. - Edinburgh : Constable and Co, 1820, p. 16.
[65] السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، بيروت، لبنان: دار الجيل، 1992م صفحة 3/113.
[66] Paul Michael C. Secular Power and the Archbishops of Novgorod up to the Muscovite Conquest [Book]. - [s.l.] : Kritika,, 2007, p. 268.
[67] Babinger, 1978, p. 362.
[68] Behar Cem A neighborhood in Ottoman Istanbul: fruit vendors and civil servants in the Kasap İlyas Mahalle [Book]. - [s.l.] : SUNY Press, 2003, p. 32.
[69] Babinger, 1978, p. 361.
[70] Setton, 1976, vol. 2, p. 327.
[71] Babinger, 1978, p. 361.
[72] Zorzi Alvise Venice, the golden age, 697-1797 [Book]. - [s.l.] : Abbeville Press, 1983, p. 259
[73] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 618- 639.
التعليقات
إرسال تعليقك