التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يُعَدُّ السلطان محمد الفاتح رحمه الله هو المحوِّل الحقيقي للدولة العثمانية من دولة أو مملكةٍ إلى إمبراطوريَّة.
يُعَدُّ محمد الفاتح رحمه الله هو المحوِّل الحقيقي للكيان العثماني الكبير من دولةٍ أو مملكةٍ إلى إمبراطوريَّة؛ فالإمبراطوريَّة في التعريفات السياسيَّة هي كيانٌ كبيرٌ يضمُّ عدَّة أمم، وهذه الأمم تختلف عن بعضها البعض في اللغة، والعرق، والثقافة، والدين[1]، ومع أنَّ الدولة العثمانيَّة كانت تضمُّ أممًا مختلفةً قبل محمد الفاتح فإنَّ كثيرًا من هذه الأمم كانت مجرَّد تابع للدولة العثمانية دون سيطرةٍ حقيقيَّةٍ قويَّة من السلطة المركزيَّة المتمثِّلة في قيادة الدولة، أمَّا الفاتح رحمه الله فهو الذي حوَّل الدولة إلى إمبراطوريَّة بإحكام السيطرة على هذه الأمم، وذلك بتحويل عددٍ كبيرٍ منها إلى الحكم المباشر بدلًا من مجرَّد التبعيَّة، كما أنَّه أدخل الحكم العثماني إلى مناطق أخرى كثيرة لم يدخلها العثمانيُّون قبل ذلك، وبحساب المساحات التي تَسَلَّمها الفاتح من أبيه نجد أنَّها حوالي ستمائة وخمسين ونصف ألف كم2، بينما وصلت مساحة الإمبراطوريَّة بعد وفاة الفاتح، وبعد ثلاثين سنةً من الجهاد والفتوح، إلى حوالي مليون وسبعمائة وسبعة وثمانين ألف كم2؛ أي أنَّه زاد المساحة إلى ما يقترب من ثلاثة أضعاف مساحتها الأولى، ولكن ليس هذا هو المهمُّ فقط، بل الأهم -كما ذكرنا- هو قوَّة إحكام السيطرة على الكيان كلِّه، ممَّا يُعطيه وصف «الإمبراطوريَّة» بحق. لقد صارت الإمبراطوريَّة العثمانيَّة في عهد الفاتح هي أكبر كيانٍ سياسي في أوروبا من ناحية المساحة وعدد السكان[2]، متجاوزة في ذلك الإمبراطوريَّة الرومانيَّة المقدَّسة (النمسا- ألمانيا)، ومملكة فرنسا، ومملكة المجر، ومملكة بولندا، ومملكة إسبانيا، ومملكة إنجلترا، وغيرها من الكيانات الأخرى.
والواقع أنَّ مزيدًا من التفصيل في هذه الجزئيَّة سيُعطينا صورةً أفضل عن الإنجاز الذي حقَّقه الفاتح رحمه الله.
كيف كانت الدولة العثمانيَّة قبل الفاتح، وكيف صارت بعده؟!
تَسَلَّم الفاتح من أبيه السلطان مراد الثاني دولةً واسعةً تشمل قسمًا كبيرًا يُدار بشكلٍ مباشرٍ من الإدارة المركزيَّة في أدرنة، وقسمًا آخر يُمثِّل تبعيَّةً للدولة العثمانيَّة؛ بمعنى أنَّه يُدار بأمير البلد الأساسي في مقابل دفع جزيةٍ أو ضريبةٍ إلى الدولة العثمانيَّة، وواضحٌ من هذا التقسيم أنَّ القسم الذي يُدار بالطريقة المباشرة هو قسمٌ قويٌّ يُعَدُّ الأساس في تكوين الدولة العثمانيَّة، أمَّا القسم التابع فهو قسمٌ ضعيفٌ نسبيًّا؛ بمعنى أنَّ تغيير ولاءه إلى قوَّةٍ عالميَّةٍ أخرى أمرٌ واردٌ جدًّا.
كان القسم الذي يُدار بشكلٍ مباشرٍ في أوَّل عهد محمد الفاتح يشمل الآتي:
1. الثلث الغربي من الأناضول، وقد قمتُ بحساب المساحات التقريبيَّة لكلِّ ولايةٍ من ولايات هذا الجزء، فكان إجمالي مساحته مائتين وتسعة وثلاثين ألف كم2.
2. الجزء الأوروبي من تركيا الحديثة باستثناء إسطنبول، التي لم تكن قد فُتِحت بعد، وتبلغ مساحته تسعة عشر ألف كم2.
3. شمال شرق اليونان، وهو ما يُعرف بإقليم تراقيا Thrace بمساحة أربعة عشر ألف كم2.
4. دولة بلغاريا بكاملها بمساحة مائة وأحد عشر ألف كم2.
5. دولة مقدونيا بكاملها بمساحة خمسة وعشرين ألف كم2.
6. دولة كوسوڤو بكاملها بمساحة أحد عشر ألف كم2.
بحساب هذه المساحات مجتمعة نجد أن القسم القوي من الدولة العثمانية كان يضم في أول عهد الفاتح ما يبلغ مساحته أربعمائة وتسعة عشر ألف كم2.
أمَّا القسم التابع الذي كان يُعطي ولاءه للدولة العثمانيَّة لكنَّه مستقلٌّ ذاتيًّا فكان يشمل سبعة كيانات سياسيَّة، وهي على النحو التالي:
1. إمارة قرمان التركيَّة في جنوب وسط الأناضول، وهي إمارةٌ مهمَّةٌ وكبيرة، ولها تاريخٌ منافسٌ للدولة العثمانيَّة، وتبلغ مساحتها حوالي اثنين وستين ألف كم2.
2. إمارة إسفنديار التركيَّة في شمال الأناضول على ساحل البحر الأسود، ويبلغ إجمالي مساحتها حوالي تسعة عشر ألف كم2.
3. مملكة البوسنة، بمساحة حوالي أربعين ألف كم2.
4. دوقية الهرسك، بمساحة أحد عشر ألف كم2.
5. جمهورية راجوزا (دوبروڤنيك) بمساحة ألف وخمسمائة كم2.
6. إمارة المورة اليونانية البيزنطية، بمساحة أربعة وتسعين ألف كم2.
7. إمارة أتيكا، وهي تشمل مدينة أثينا اليونانية، بمساحة أربعة آلاف كم2.
وبحساب مجموع مساحات هذه الكيانات السبعة نجد أنَّها مائتان وواحد وثلاثون ونصف ألف كم2.
هذا يعني أنَّ مساحة الدولة العثمانيَّة ككل يوم حكمها محمد الفاتح كانت ستمائة وخمسين ونصف ألف كيلو متر مربع بشقَّيها المباشر والتابع، وهذه القياسات تتفاوت من مؤرِّخٍ إلى آخر، لكون مساحات الدول آنذاك مختلفة بشكلٍ يكون كبيرًا أحيانًا عن مساحاتها في زماننا الآن، ممَّا يُحْدِث هذا التفاوت.
ماذا فعل الفاتح في فترة حكم دامت ثلاثين سنة؟!
يُمكن تقسيم ما فعله الفاتح رحمه الله إلى سبعة أقسامٍ رئيسة توضِّح لنا شكل الدولة في آخر عهده، وهذا التقسيم معتمدٌ على طبيعة الإجراء الذي فعله الفاتح، وليس معتمدًا على توقيت الفعل تاريخيًّا (خريطة رقم 20):
أولًا: أماكن حافظ الفاتح على حكمها المباشر:
حافظ الفاتح على كلِّ المناطق التي كانت تُحكم بشكلٍ مباشرٍ أيَّام والده السلطان مراد الثاني، يعني الأماكن التي ذكرناها قبل ذلك بمساحة أربعمائة وتسعة عشر ألف كم2.
ثانيًا: ضمُّ إمارات وممالك جديدة لم يدخلها العثمانيُّون قبل ذلك:
وهذا يشمل عدَّة أماكن في الأناضول وأوروبا على النحو التالي:
1. مقاطعات أناضوليَّة في الوسط، والشمال، والشمال الشرقي، وذلك بعد فتح مملكة طرابزون البيزنطيَّة، وبعد انتصاراته الكبرى على أوزون حسن زعيم دولة الآق قوينلو، وقد وصل في مقاطعات الأناضول إلى أرتڤين Artvin شرق طرابزون، وكذلك إلى مقاطعة كوموش خانه Gümüşhane، في الوسط، وقد قمتُ بحساب مجموع هذه المقاطعات الأناضوليَّة، فوجدتها حوالي مائتين وستة آلاف كم2.
2. إسطنبول (القسطنطينية) وما حولها من بقاع، وهذه تبلغ مساحتها حوالي خمسة آلاف كم2.
3. شرق ووسط جمهوريَّة الجبل الأسود، وهو ما كان معروفًا آنذاك بإمارة زيتا، وتبلغ مساحات الأراضي التي ضمَّها الفاتح في هذه المناطق حوالي ثمانية آلاف كم2.
4. الجزر الموجودة في شمال بحر إيجة، وأهمُّها قاطبةً جزيرة نيجروبونتي، كما ضمَّ جزر ثاسوس Thasos، وليمنوس Lemnos، وليسبوس Lesbos، وتينيدوس Tenedos، وغيرها من الجزر العديدة في هذه المنطقة، وهذه تزيد مساحتها عن ثلاثة آلاف كم2 بقليل.
5. أربعة جزر من جزر البحر الأيوني، هي كيفالونيا، وليفكاس، وإيثاكا، وزانتي، وهذه تبلغ مساحتها ما يقرب من ألفي كم2.
6. بعض المقاطعات والمدن في شرق البحر الأسود، فيما يعرف بقفقاسيا الشمالية (The North Caucasus)، وتحديدًا الأجزاء الغربية منها، بالإضافة إلى بعض الأجزاء الغربيَّة من مملكة چورچيا، وهذا في مجموعه يُعطي مساحة عشرة آلاف كم2 تقريبًا.
7. الأجزاء الجنوبية من شبه جزيرة القرم، والتي كانت تابعة لجمهورية چنوة، مثل مستعمرة كفَّة، وموانئ بحر أزوڤ، وشبه جزيرة تامان، وغيرها، بالإضافة إلى إمارة تيودورو البيزنطية، وهذا كله يعطي مساحة حوالي ألفي كيلو متر مربع.
8. مقاطعة أبوليا في جنوب شرق إيطاليا، وقاعدتها مدينة أوترانتو، وتبلغ مساحتها حوالي تسعة عشر ألف كم2.
وبحساب مجموع هذه المناطق يتبيَّن أنَّ الفاتح ضمَّ حوالي مائتين وخمسة وخمسين ألف كم2 من المساحات الجديدة إلى الأرض العثمانيَّة.
ثالثًا: إعادة السيطرة على أماكن كانت تتبع الدولة العثمانيَّة ثم فُقِدت قبل تَسَلُّم الفاتح، وصارت تدار بشكل مباشر:
وهذه تشمل كيانين كبيرين: الأول هو دولة ألبانيا، التي كانت قد انشقَّت تحت زعامة إسكندر بك، فأعادها الفاتح كلَّها تقريبًا، ولم يبقَ فيها إلَّا بعض الأجزاء الغربيَّة فقط تحت سيطرة البندقية، وتبلغ المساحة التي ضمَّها الفاتح حوالي خمسة وعشرين ألف كم2، والثاني هو جنوب صربيا ووسطها، حتى مدينة بلجراد، أما بلجراد وما كان في شمالها فكان تابعًا للمجر، وكانت المساحات التي ضمها الفاتح من صربيا تبلغ ثلاثة وستين ألف كم2.
هذا يعني أن المساحات التي أعاد الفاتح السيطرة عليها، وصارت تدار بشكل مباشر من الدولة العثمانية تبلغ في المجمل ثمانية وثمانين ألف كيلو متر مربع.
رابعًا: تحويل بعض الكيانات السياسيَّة التابعة للدولة العثمانيَّة إلى أماكن أساسيَّة تُحْكم بشكلٍ مباشرٍ من الدولة:
وذلك بمعنى أنَّ واليها صار عثمانيًّا، وكذلك جيشها، وصارت بذلك جزءًا أساسيًّا من تكوين الدولة، وهذا يعني إحكام سيطرة بشكل أكبر كثيرًا، كما يعني تغيير الهويَّة من بلدٍ أجنبيٍّ تابعٍ إلى عثماني، وهذه الكيانات تشمل الآتي:
1. إمارة قرمان الأناضوليَّة التركيَّة، بمساحة اثنين وستين ألف كم2.
2. إمارة إسفنديار الأناضوليَّة التركيَّة بمساحة تسعة عشر ألف كم2.
3. شرق ووسط وجنوب البوسنة، أمَّا شمالها الغربي فكان في حوزة مملكة المجر، والمساحات العثمانيَّة تبلغ حوالي ثمانية وعشرين ألف كم2.
4. إمارة المورة اليونانيَّة البيزنطيَّة بكاملها وذلك بمساحة أربعة وتسعين ألف كم2.
5. إمارة أتيكا اليونانيَّة البيزنطيَّة بكاملها، وذلك بمساحة أربعة آلاف كم2.
6. دوقية الهرسك بكاملها، وتبلغ حوالي مساحة أحد عشر ألف كم2.
أي أنَّ الفاتح حوَّل ستة من الكيانات السبعة التابعة للدولة العثمانيَّة إلى ولايات أساسية تُحْكَم بشكلٍ مباشر من الدولة، وهذا يُعطي ما مجموعه مائتان وثمانية عشر ألف كم2.
وبجمع المساحات الموجودة في هذه الأقسام الأربعة السابقة يتَّضح أنَّ الجزء المحكوم بشكلٍ مباشرٍ من الدولة العثمانيَّة صار في آخر عهد الفاتح يبلغ تسعمائة وثمانين ألف كم2.
خامسًا: مناطق كانت تتبع الدولة العثمانيَّة، وحافظ الفاتح على تبعيَّتها للدولة:
وهذه تشمل كيانًا واحدًا فقط هو جمهورية راجوزا (دوبروڤنيك) بمساحة ألف ونصف كم2.
سادسًا: إعادة تبعية إمارات كانت قد انشقَّت عن الدولة العثمانية قبل تسلم الفاتح:
وهذه تشمل كيانًا واحدًا فقط هو إمارة الإفلاق، والتي كانت قد انقطعت عن دفع الجزية قبل ولاية محمد الفاتح، فأعادها الفاتح إلى تبعية الدولة، وهذه الإمارة مساحتها أربعة وثمانين ونصف ألف كيلو متر مربع.
سابعًا: إضافة دول تابعة للدولة العثمانيَّة تدفع الجزية أو الضريبة وتحتفظ باستقلالها الذاتي:
وهذه تشمل كيانات خمسة على النحو التالي:.
1. خانيَّة القرم، وهي تشمل أراضيَ واسعةً في روسيا وأوكرانيا، وتبلغ مساحتها في حساباتي ستمائة ألف كم2، بينما يُقدِّرها بعضهم بتسعمائة واثنين وثمانين ألف كم2[3]، وهذا هو الفارق الرئيس الذي يُعطي اختلافات في قياس حجم دولة الفاتح بين المؤرِّخين المختلفين.
2. إمارة البغدان، وهي وإن كانت مضطربة إلَّا أنَّ أميرها وعد في آخر عهد الفاتح باستمراره في دفع الجزية، كما أنَّ الفاتح اجتاحها بجيشٍ قبل وفاته بشهر، وسنرى أنَّها في عهد ابن الفاتح بايزيد الثاني ستستمرُّ في دفع الجزية، وهذه الإمارة في ذلك الوقت تبلغ مساحتها التقديريَّة في حساباتي حوالي مائة وألفين كم2 (جمهوريَّة مولدوڤا الآن + مقاطعات في شرق رومانيا + مقاطعات في جنوب غرب أوكرانيا).
3. مجموعة جزر في وسط بحر إيجة وجنوبه تابعة لمملكة ناكسوس البندقية، وهذه تبلغ في مجموعها حوالي ثلاثة آلاف كم2.
4. جزيرة خيوس Chios التابعة لجمهورية چنوة، وتقترب مساحتها من ألف كم2.
5. إمارة ذي القادر التركيَّة في الجنوب الشرقي للأناضول، وكانت تتذبذب في الولاء بين الدولة العثمانيَّة ودولة المماليك، ولكنَّها كانت في آخر أيَّام الفاتح تابعةً للدولة العثمانيَّة بعد دعم الفاتح لزعيمها علاء الدولة، وكانت مساحتها حوالي خمسة عشر ألف كم2.
وهكذا نجد أنَّ الدول والممالك الجديدة التي صارت تابعةً للدولة العثمانيَّة في زمن الفاتح تبلغ مساحتها مجتمعة سبعمائة وواحد وعشرين ألف كم2.
وبجمع المساحات الموجودة في الأقسام الثلاثة الأخيرة (الخامس والسادس والسابع) نتعرَّف على مساحة الأجزاء التابعة للدولة العثمانيَّة في آخر عهد الفاتح، وهي حوالي ثمانمائة وسبعة آلاف كم2.
وكملخص لِمَا سبق يتَّضح أنَّ المساحات المحكومة بشكلٍ مباشرٍ من الدولة العثمانيَّة في زمن الفاتح زادت من أربعمائة وتسعة عشر ألف كم2 إلى تسعمائة وثمانين ألف كم2، بينما زادت البلاد التابعة للدولة العثمانيَّة من مائتين وواحد وثلاثين ألف كم2 إلى ثمانمائة وسبعة آلاف كم2، وبهذا صارت المساحة الإجماليَّة لدولة الفاتح في آخر عهده هي مليون وسبعمائة وسبعة وثمانين ألف كم2؛ أي زادها بما يقرب من ثلاثة أضعاف حجمها حين تسلَّمها!
هذه هي إمبراطوريَّة الفاتح!
والواقع أنَّها لم تختلف عن وضعها في زمن والده السلطان مراد الثاني من ناحية المساحة فقط؛ إنَّما من ناحية قوَّة السيطرة أيضًا؛ لأنَّ البلاد التابعة في زمن مراد الثاني كانت علاقاتها ضعيفة للغاية بالدولة العثمانيَّة، وهذا اتَّضح في محاولة معظمها للخروج من التبعيَّة بمجرَّد ولاية الشاب الصغير محمد الفاتح، وذلك كما حدث مع قرمان، والبوسنة، واليونان، وغيرها، بينما لم نرَ هذا الانفلات بعد وفاة الفاتح، وظلَّت البلاد إلى حدٍّ كبيرٍ في عهد بايزيد الثاني تابعةً للدولة العثمانيَّة كما كانت في عهد الفاتح، وما قلناه عن البلاد التابعة ينطبق بشكلٍ أكبر على البلاد المدارة بشكلٍ مباشر؛ فإنَّها دخلت في عهد الفاتح في صُلب الدولة بشكلٍ كبير، حتى أصبح أفرادها -سواءٌ من عامَّة الشعب أم من الزعماء- جزءًا لا يتجزَّأ من الكيان العثماني، ورأيناهم بشكلٍ طبيعيٍّ يُمثِّلون دعامات رئيسة للوزارة والجيش وعامَّة وظائف الدولة، كما لم نرَ قلاقل أو اضطرابات ذات قيمةٍ يُمكن أن توحي بضعف السيطرة، ولم يكن هذا الإحكام إلَّا بجهدٍ كبيرٍ بُذِل على مدار السنوات الثلاثين التي حكمها الفاتح رحمه الله.
إنَّ هذا الاستقرار الذي نتحدَّث عنه في داخل إمبراطوريَّة الفاتح لافتٌ للنظر حقًّا، خاصَّةً إذا ما نظرنا إلى التركيبة السكانيَّة العجيبة التي تضمُّها هذه الإمبراطوريَّة الكبيرة؛ ففيها الأتراك المسلمون بشتَّى قبائلهم، وفيها المغول المسلمون ذوو الطباع الآسيويَّة الروسيَّة المختلفة بشكلٍ كبيرٍ عن حياة أتراك آسيا الصغرى، وفيها اليونانيُّون الأرثوذكس، وهم عرقٌ خاصٌّ له جذورٌ تاريخيَّةٌ متميِّزة ومختلفة عن جيرانهم، وفيها البلغار السلاڤ، وهم أرثوذكس كذلك، ولكن يتبعون كنائس أخرى مختلفة عن اليونانيِّين، وبينهم واليونانيُّون عداوات تاريخيَّة عميقة، وفيها البوسنيُّون أصحاب الديانات المتعدِّدة، من فرنسيسكانية وكاثوليكيَّة وبوجوميليَّة، ثم الإسلام بعد الفتح، وفيها الألبان مع كلِّ التاريخ العدائي مع الدولة العثمانيَّة، وهم أرثوذكس وكاثوليك، وفيها الصربيُّون الذين كانوا على مقربةٍ من إنشاء إمبراطوريَّةٍ خاصَّةٍ بهم في البلقان لولا ظهور الدولة العثمانيَّة، وفيها كذلك الكاثوليك الغربيُّون متمثِّلون في أهل مقاطعة أبوليا الإيطاليَّة، وفي إمارة ناكسوس في بحر إيجة، وبالإضافة إلى كلِّ ذلك فهناك الرومانيُّون وهم عرقيَّة منفصلة لها طبائع خاصَّة بها، وتاريخ مستقل، وهم وإن كانوا أرثوذكس، إلَّا أنَّ ولاءهم كان كثيرًا ما يكون للمجر الكاثوليكيَّة، ممَّا جعل لهم طابعًا مختلفًا عن بقيَّة شعوب المنطقة.
إنَّ النظر لهذا التنوُّع الفريد في تركيبة السكان لَيُعطي فكرةً عن صعوبة تكوين مثل هذه الإمبراطوريَّة الكبيرة.
ولم يكن التمدُّد العثماني في هذه «الأمم» التي تُحيط بالدولة العثمانيَّة ناشئًا من فراغ؛ بل كان الجيش العثماني في حالةٍ قويَّةٍ للغاية، بل من أقوى الجيوش العالميَّة في الحقبة التي عاشها الفاتح رحمه الله، وهذا ما مكَّنه من تحقيق الطموحات الكبرى، ومن السيطرة على هذه البقاع المترامية. يقول المؤرِّخ الأميركي العسكري، والمتخصِّص في التاريخ العسكري للدولة العثمانيَّة، إدوارد إريكسون Edward Erickson: «إنَّ وصول محمد الثاني (الفاتح) للعرش كان حجر الزاوية في تاريخ العسكريَّة العثمانيَّة، فإنَّ محمَّدًا لم يُحوِّل فقط الدولة العثمانيَّة إلى إمبراطوريَّة، ولكنَّه حوَّل الجيش بشكلٍ حاسمٍ إلى قوَّةٍ مركزيَّةٍ فاعلة، مع التخلُّص من الوحدات التقليديَّة العشوائيَّة»[4]. ويقول في موضعٍ آخر: «على الرغم من المشكلات الكثيرة التي واجهها جيش محمد الثاني فإنَّه كان يُحارب بكفاءةٍ أعلى من أيِّ جيشٍ مُعادٍ له»[5]. ويُمكن في الواقع مراجعة الدراسة القيِّمة التي أجراها هذا المتخصِّص العسكري؛ ففيها تفصيلاتٌ في غاية الروعة والدِّقَّة عن جيش السلطان محمَّد الفاتح[6].
لقد كان هذا الجيش القوي نتاج عملٍ حثيثٍ من السلطان الفاتح ورجال العسكريَّة العثمانيَّة بل يمكن القول: إنَّه كان نتاج عمل العسكريِّين المتميِّزين في أوروبا كلِّها! ومرجع هذا الكلام أنَّ السلطان الفاتح رحمه الله كان حريصًا على الاستفادة من كلِّ بحثٍ علميٍّ عسكريٍّ في أيٍّ قطرٍ من أقطار أوروبا، وما أجمل ما وصف به المؤرِّخ المجري جابور أجوستون Gábor Ágoston محمدًا الفاتح وتعامله مع الأبحاث العسكريَّة عندما قال: «لقد اشتُهر السلاطين العثمانيُّون بتقدير المهارات والمعرفة، خاصَّةً لو كانت هذه المهارات ذات علاقةٍ بالأمور العسكريَّة، ولقد بوركت الدولة العثمانيَّة بحُكَّامٍ أصحاب مواهب فوق العادة، ولقد كان الاهتمام الشخصي للسلطان محمد الثاني بالأمور العسكريَّة معروفًا في أوروبا كلِّها، إلى درجة أنَّ الباحثين العسكريِّين الأوروبيِّين كرَّسوا أبحاثهم له، بل كان الحكَّام الأوروبيُّون الذين يُريدون دعمًا منه، أو مجرَّد تكوين علاقة جيِّدة معه، يبعثون له خبراءهم العسكريِّين ليطَّلع على أبحاثهم»[7].
نعم.. كان السلطان الفاتح موهوبًا فوق العادة!
وما قلناه عن الجيش العثماني نقوله كذلك على البحريَّة العثمانيَّة؛ فلقد كان الأسطول العثماني عند اعتلاء محمد الفاتح للعرش لا يمتلك إلَّا ثلاثين سفينة عسكريَّة بالإضافة إلى بعض القطع الصغيرة المساعدة، ولكن بعد ثلاثين سنة صار هذا الأسطول مكوَّنًا من مائتين وخمسين سفينة حربيَّة كبيرة بالإضافة إلى خمسمائة سفينة نقل[8]!
لقد كانت إمبراطوريَّةً بمعنى الكلمة!
والذي يرأس الإمبراطوريَّة هو الإمبراطور، وهو في اللغة الإنجليزيَّة: Emperor، وفي اللغة اللاتينيَّة Imperator، وهو أعلى من الملك، وينبغي ألَّا يكون الإمبراطور تابعًا لأحدٍ أبدًا، بينما يحدث أن يكون الملك تابعًا لغيره، ولذلك كان الأوروبيُّون يقصرون لقب الإمبراطور على إمبراطور الدولة الرومانيَّة المقدَّسة، وهي وريثة الإمبراطوريَّة الرومانيَّة الغربيَّة، وكان هذا اللقب عندهم موازٍ في الأهميَّة للقب البابا، ويحمل شيئًا من القداسة والتوقير[9]، ولهذا لم يكن من السهل على أيِّ ملكٍ أن يدَّعي لقب الإمبراطور مهما اتَّسع ملكه، ومع ذلك كان الأوروبيُّون يُطلقون على الدولة العثمانيَّة في زمن الفاتح لقب «الإمبراطوريَّة العثمانيَّة»، اعترافًا منهم أنَّه حاكمٌ لا يتبع أحدًا من الحكام، وغير مجبرٍ بأيِّ صورةٍ من الصور على دفع جزيةٍ أو ضريبةٍ إلى غيره، ولا قيود تحكم قراراته، وكل هذه صفات تعارف الأوروبيُّون عليها بخصوص الإمبراطور.
واللقب الموازي للإمبراطور عند المسلمين في التاريخ هو «السلطان»، وهو لفظٌ لا يُستخدم عند غير المسلمين، وتعارف الحكَّام في تاريخ المسلمين على أنَّ هذا اللقب لا يمنحه إلَّا الخليفة، وهو يُمنح لحاكمٍ يملك قوَّةً كبيرةً في العالم الإسلامي[10]، وهي قوَّةٌ قد تفوق من الناحية العمليَّة قوَّة الخليفة نفسه، ولكن يظلُّ الخليفة أعلى من الناحية النظريَّة لكون مركزه يحمل الصبغة الدينيَّة، وجديرٌ بالذكر هنا أنَّ أوَّل من لُقِّب بالسلطان من بني عثمان هو بايزيد الأول المعروف بالصاعقة، وكان هذا عندما «منحه» الخليفة العبَّاسي «المتوكِّل على الله» في القاهرة لقب السلطان؛ تكريمًا له لانتصاره على الصليبيين في معركة نيكوبوليس عام 1396م[11]، وجديرٌ بالذكر كذلك أنَّ سلاطين المماليك كانوا يكرهون أن يستمرَّ حكَّام الدولة العثمانيَّة بالتلقُّب بلقب السلطان[12]؛ لأنَّ هذا يعني أنَّهم لا يتبعون أحدًا، وكان هذا يُغضب المماليك لأنَّهم يرون أنفسهم أعلى سلطة حاكمة في العالم الإسلامي، خاصَّةً أنَّهم يستضيفون في القاهرة خليفة المسلمين، حتى لو كانت خلافته صوريَّة.
ومن المهمِّ أن نذكر هنا كذلك أنَّ لقب الإمبراطور يُوازي في تاريخ الأوروبيِّين لقب «القيصر»، بل إنَّ لقب القيصر عند الأوروبيِّين يحمل معنًى تاريخيًّا محدَّدًا، وهو إمبراطور الدولة الرومانيَّة الشرقيَّة وعاصمتها القسطنطينية، أو إمبراطور الدولة الرومانيَّة الغربيَّة وعاصمتها روما، ولهذا فإنَّ محمدًا الفاتح رحمه الله تسمَّى بعد فتح القسطنطينية بقيصر الروم؛ ليُعلن لأوروبَّا أنَّه يستحقُّ -كما شرحنا قبل ذلك- أن يمتلك كلَّ ما كان يمتلكه قيصر الدولة الرومانيَّة الشرقيَّة[13].
خلاصة القول في هذه النقطة أنَّ السلطان الفاتح هو الذي حوَّل الدولة العثمانيَّة من دولةٍ محدودةٍ إلى إمبراطوريَّةٍ كبيرة، وأنَّ هذا التحويل كان مستقرًّا وقويًّا، وأنَّ هذا التحوُّل السياسي الكبير كان واقعيًّا، ومعترفًا به من القوى العالميَّة المعاصرة للإمبراطوريَّة، وأنَّ هذا لم يكن من فراغ؛ ولكن كان بجهدٍ جهيد، سواءٌ في مجال السياسة والدبلوماسيَّة، أم في مجال الجيوش والحروب.
ثم إن هناك نقطة مهمة ينبغي أن نبحثها ونحن نتحدث عن تحويل الفاتح لدولته من مملكة إلى إمبراطورية، وهي أنه يُمكن لبعض الزعماء الأقوياء في التاريخ أن يُحوِّلوا دولتهم من إمارةٍ أو مملكةٍ إلى إمبراطوريَّةٍ حقيقيَّةٍ تضمُّ عددًا من الأمم، ولكن هذا التحويل قد لا يدوم طويلًا، بل ينهار بعد عدَّة سنوات، أو عدَّة عقود، لكن أن يبقى هذا التحويل عدَّة قرون فهذا أمرٌ يحتاج إلى تفسير!
والواقع أنَّ الحالة الأولى التي تبقى فيها الإمبراطوريَّة قائمة لعدَّة عقود فقط تكون معتمدة في الأغلب على قوَّة السلاح والجيش فقط، أمَّا الإمبراطوريَّات التي تستمرُّ عدَّة قرونٍ فهي تحتاج إلى فكرٍ خاصٍّ يسمح لها بالبقاء هذه الفترات الطويلة، خاصَّةً أنَّها مكوَّنة من أعراق وجنسيَّات وأديان مختلفة، ومن الطبيعي أن يحدث الشقاق الداخلي فيها، فمعنى بقائها قويَّة لمددٍ طويلةٍ أنَّ هناك طريقةً معيَّنةً فكريَّة قادت إلى هذه النتيجة، ولقد أدرك الفاتح هذه الطريقة، ومارسها في حكمه، ورسَّخها في فكر الدولة، فاستمرَّت بها الإمبراطوريَّة لأكثر من أربعة قرونٍ بعد وفاته! ويُمكن الإشارة هنا إلى ثلاثة أمورٍ أضافها الفاتح لفكر الدولة العثمانيَّة في هذه المرحلة..
الأمر الأوَّل: الانفتاح على الثقافات الأخرى:
يجد كثيرٌ من الزعماء، وأحيانًا المفكِّرين، صعوبةً كبيرةً في الانفتاح على حضارات الآخرين وثقافتهم، ويرون أنَّ الاستفادة منها تعني نقصًا في ثقافتهم، أو تغييرًا في هويَّتهم، وهذا الفكر يحرم الأمة من الاستفادة من الأفكار الجيِّدة في العالم، التي هي ميراث الإنسانيَّة بشكلٍ عامٍّ. إنَّ بداية نجاة العالم وصلاح البشريَّة تكمن في التعارف بين الشعوب، وعندها سيُدرك كلُّ إنسانٍ حاجته إلى أخيه الإنسان، ولقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]، فالأمر بالتعارف هنا ليس موجَّهًا للمسلمين أو المؤمنين، إنَّما هو موجَّهٌ «للناس».. أي لكلِّ الأعراق والأجناس والشعوب والحضارات[14].
وإذا كان الفكر المنغلق ينجح في قيادة إمارة أو مملكة، فإنَّه لا ينجح البتَّة في قيادة إمبراطوريَّة، لأنَّ الإمبراطوريَّة بطبيعتها مرَّكبة من أعراق وأديان مختلفة، فلو اقتصر حكَّامها على نوعٍ معيَّنٍ من الثقافات خسروا جانبًا كبيرًا من إمكانات إمبراطوريَّتهم، بل سيدفع «تهميش» الحضارت والثقافات الأخرى شعوبها إلى محاولة الانفلات من قبضة الإمبراطور الذي يتجاهل ثقافتهم..
ولقد كان السلطان الفاتح من أقدر السلاطين العثمانيِّين، بل من أقدر حكَّام العالم في زمانه، على الانفتاح على الثقافات الأخرى والاستفادة منها، وقد يرجع ذلك إلى تربيَّته من البداية على تعلُّم لغات الآخرين، والقراءة في كتبهم ومصادرهم، وهو ما أثَّر في تكوينه كإنسانٍ أولًا، ثم كحاكمٍ وسلطانٍ ثانيًا.
كان الفاتح رحمه الله مهتمًّا بالثقافة اللاتينيَّة، ودرس تاريخ روما والغرب، وكان يقرأ القصائد اللاتينيَّة لشعراء البندقية وچنوة[15]، وبلغ من اهتمامه بالمخطوطات اللاتينيَّة أن طلب من جمهوريَّة راجوزا (دوبروڤنيك) أن تدفع الجزية في إحدى السنوات مخطوطات بدلًا من المال[16]!
وكان الفاتح مهتمًّا كذلك بالثقافة اليونانيَّة[17]، وكان يحتفظ في مكتبته باثنين وأربعين كتابًا باللغة اليونانيَّة، كان أكثر من ثلثها في الجغرافيا، وثمانية في التاريخ، وستَّة في الفلك والرياضيَّات، والبقيَّة في علومٍ أخرى[18]، وكان الفاتح مواظبًا على قراءة مؤلَّفات المؤرِّخ اليوناني، وكاتب السِيَر المعروف، بلوتارك Plutarch، الذي كان يكتب عن كبار الفاتحين في العالم[19].
إنَّ هذا التقدير من الفاتح للثقافات الأخرى لم يكن مصطنعًا لمجرَّد الاستفادة منه في إدارة إمبراطوريَّته، ولكنَّه كان حقيقيًّا دون افتعال؛ فقد كان في «حاجة» فعليَّة لعلوم وثقافات الحضارات الأخرى، ويرى فيها جوانب من الخير والنفع ستدفعه وأمَّته خطوات واسعة للأمام، وكان الجميع -من المسلمين وغير المسلمين- يعرفون عنه ذلك، وهذا ما دفع المؤرِّخ الأميركي فرانك تاكيري Frank Thackeray إلى أن يقول: «ينبغي أن يُتَذَكَّر محمد الثاني بأنَّه راعٍ للفنون، وبفكره المنفتح وبتذوقه للآداب العالميَّة...»[20].
لقد أحاط السلطان الفاتح نفسه بالخبراء الأجانب الذين أضافوا الكثير للإمبراطوريَّة، كان المستشارون الأجانب جزءًا لا ينفصل عن الكيان العثماني، خاصَّةً في المجالات العسكريَّة والبحريَّة، ولقد عَمِل هؤلاء لصالح الدولة العثمانيَّة من خلال شبكة معقَّدة من الرعاية والحماية، وكانت هذه الرعاية تُقَدَّم من السلطان نفسه في بعض الأحيان، وكانت أحيانًا تُقَدَّم من خلال كبار رجال الدولة الآخرين، كالوزراء وقادة الجيوش، ولقد كان هؤلاء المستشارون الأجانب سببًا في وصول كلِّ التقنيَّات المبتكرة في أيِّ قُطرٍ من أقطار أوروبا إلى الإمبراطوريَّة العثمانيَّة[21]. لقد استفادت الدولة العثمانيَّة حقًّا في هذه الفترة من فِكْر قائدها المنفتح، ويوم تختلف الرؤية، ويرى بعض السلاطين أنَّ الدولة «لا تحتاج» لحضارات أخرى، ستكون بداية الانحدار للإمبراطوريَّة.
الأمر الثاني: إنشاء نظام «المِلَل» وتكوين المحاكم الخاصَّة بكلِّ دين:
كان الفاتح رحمه الله يُدرك أنَّ إمبراطوريَّته مكوَّنة من شعوبٍ مختلفةٍ تدين بأديانٍ كثيرة، ولذلك آثر أن تلجأ كلُّ طائفةٍ دينيَّةٍ إلى محاكم خاصَّة تحكم بقواعد وقوانين الدين الذي ينتمون إليه، فهذا سيدفعهم إلى الاستقرار والهدوء في الإمبراطوريَّة؛ لأنَّ كلَّ الشعوب -وخاصَّةً في هذه الحقبة التاريخيَّة- تحب الالتزام بتشريعات دينها وعقيدتها، والحقُّ أنَّ هذا الأمر كان شائعًا في الدولة العثمانيَّة قبل محمد الفاتح، ولكن السلطان الفاتح هو الذي جعله في صورةٍ رسميَّة[22]، وتبعًا لهذا النظام صار للأرثوذكس محاكم خاصَّة، وكذلك للأرمن، وأيضًا لليهود[23]، وعندما ظهرت طوائف جديدة في الدولة العثمانيَّة بعد فتح البوسنة، وهي طوائف الكاثوليك الفرنسيسكان أعطاها الفاتح الحقوق نفسها[24] ممَّا أدَّى إلى استقرارٍ كبيرٍ في الكيان الداخلي للدولة العثمانيَّة.
وتُعلِّق الدكتورة الأميركيَّة أندريا ستانتون Andrea Stanton والأستاذة بقسم الدراسات الدينيَّة بجامعة دنڤر Denver على هذا النظام فتقول: «أدَّى الاعتراف بالمِلَل ككيانات شرعيَّة إلى دمج هذه الكيانات في البنيان الرئيس للإمبراطوريَّة، وصار قادة هذه الملل حلفاء طبيعيِّين للحكومة، وصارت كنائسهم مندمجة في البناء السياسي للدولة كمؤسَّسات دينيَّة رسميَّة»[25].
وينبغي إدراك أربع حقائق خاصَّة بهذه النقطة قبل تركها ممَّا سيزيد القارئ إدراكًا لروعتها، ولعمق فهم الفاتح رحمه الله..
أمَّا الأولى فهي أنَّ هذا الإجراء الذي فعله الفاتح هو عين ما تطلبه الشريعة الإسلاميَّة من حكامها، فالإسلام يُعطي أصحاب الملل المختلفة الحقَّ في التحاكم إلى شريعتهم في أمورهم الخاصَّة التي لا علاقة لها بالمسلمين[26].
والحقيقة الثانية هي إدراك أنَّ هذا السلوك المتسامح والحكيم من الفاتح لم يكن متعارفًا عليه في ذلك الزمن، بل على العكس من ذلك تمامًا؛ فقد سعى الكاثوليك في اجتماع مجمع الأساقفة في فلورنسا في 6 يوليو عام 1439م -أي قبل ولاية الفاتح باثني عشر عامًا فقط- إلى دمج الكنيسة البيزنطيَّة تمامًا في الكنيسة الكاثوليكيَّة، متجاهلين في ذلك الاختلافات الكبيرة بين الملَّتين في العقيدة والتشريعات[27].
أمَّا الحقيقة الثالثة فهي أنَّ دول العالم المتحضِّرة في زماننا لا تقوى على السماح بمثل بهذا النظام في كياناتها، ولا تُعطي للملل الأخرى الحقَّ في التحاكم إلى شريعتها حتى في الأمور التي لا تُؤثِّر في عامَّة الشعب، فلا يستطيع المسلمون في أميركا مثلًا، أو في الدول الأوروبِّيَّة، التحاكم إلى شريعتهم في أمور الزواج، أو الميراث، أو غير ذلك؛ إنَّما يتحاكمون إلى قانون الدولة حتى لو كان مخالفًا لشريعتهم، وهذا يُعطينا فكرةً عن مدى التسامح الذي أبرزه الفاتح في إقرار مثل هذا القانون.
وأمَّا الحقيقة الرابعة والأخيرة فهي أنَّ تركيبة الإمبراطوريَّة العثمانيَّة كانت تسمح بوجودٍ كثيفٍ لكلِّ ملَّةٍ في إحدى المدن، أو قد يكون في قطرٍ بكامله، بمعنى أنَّ الأغلبيَّة العظمى للقطر تكون منتمية لملَّةٍ معيَّنة، كالأرثوذكس مثلًا في بلغاريا أو اليونان، فمعنى هذا أنَّ التحاكم العام في معظم الأمور سيكون في محاكمهم الخاصَّة بقوانينهم، ولن يحتاجوا إلى الاحتكام إلى المحاكم الإسلاميَّة إلَّا في الأمور النادرة التي يختلطون فيها مع المسلمين، لأنَّه لو كان أحد المسلمين طرفًا في النزاع فإنَّ الرجوع هنا يكون للشريعة الأم في الدولة، وهي الشريعة الإسلاميَّة، وهذا التفصيل يُوضِّح لنا الشعرة الدقيقة التي يُحافظ عليها الفاتح من كونه يُحافظ على حريَّة أصحاب الملل المختلفة في إمبراطوريَّته، وفي الوقت نفسه يُظْهِر الهيمنة والقدرة على ضبط الأمور في اتِّجاه التشريع الإسلامي دون انحراف.
وأعود وأكرِّر بأنَّ هذا النظام الذي أقرَّه الفاتح هو نظامٌ إسلاميٌّ ينبغي تطبيقه في أيِّ كيانٍ سياسي مهما صغر، كالإمارات والممالك، ومع ذلك فهو أهمُّ وأعظم في الإمبراطوريَّات؛ حيث تكون الطوائف الدينيَّة المختلفة ليست أقليَّات في الدولة، إنَّما هي شعوبٌ كبرى تحتاج إلى حنكةٍ كبيرةٍ في إدارتها.
الأمر الثالث: إعطاء المراكز القياديَّة الكبرى لكافَّة الأعراق دون التقيُّد بالعرق التركي:
وهذه إضافةٌ مهمَّة للقائد الحكيم محمد الفاتح!
لقد اعتادت الملكيَّات المختلفة في ذلك الزمن، بل لعلَّ كلَّ الملكيات بما فيها ملكيَّات زماننا المعاصر، على إعطاء المراكز القياديَّة الكبرى في الدولة إلى أبناء العائلة الحاكمة، وإذا زاد الأمر اتِّساعًا فإنَّها يُمكن أن تُعطي لأبناء العرق نفسه؛ أي في حالتنا في الدولة العثمانيَّة تكون في أبناء العائلة العثمانيَّة، وإذا زاد الأمر كان في «الأتراك» من القبائل الأخرى، بل إنَّ هذه الولايات لا تكون في عامَّة القبائل، بل في القبائل رفيعة المستوى فقط، وهذا هو النظام الذي كان ساريًا في الدولة العثمانيَّة منذ نشأتها، حتى زمن محمد الفاتح.
وما قلناه عن الدولة العثمانيَّة كان مطبَّقًا في ملكيَّات العالم المختلفة؛ فالمراكز القياديَّة في فرنسا مثلًا تكون في أبناء العائلة المـَلَكِيَّة الحاكمة، أو في طبقة النبلاء من العائلات الكبرى، بشرط أن تكون هذه العائلات فرنسيَّة، أمَّا ولاية غير الفرنسيِّين لقيادةٍ كبرى في فرنسا فهذا أمرٌ لا يُمكن حدوثه..
كان هذا هو الوضع في العالم آنذاك..
ولكن إدارة الإمبراطوريَّات أمرٌ مختلف!
إنَّ التنوع الضخم في الأعراق والجنسيَّات يُحتِّم على قائد هذا الكيان الضخم الاستعانة بكافَّة هذه الأعراق في قيادة إمبراطوريَّته، وإلَّا فالقلاقل والاضطرابات لن تنتهي أبدًا؛ لأنَّ قتل الطموح عند كلِّ هذه الشعوب في الوصول إلى مراكز مرموقة في الدولة قد يدفعهم إلى الثورة على الكيان كلِّه، ممَّا يُهدِّد الاستقرار، ويُضعف الإمبراطوريَّة.
لهذا كان الفاتح جريئًا للغاية في إعطاء المراكز الكبرى في دولته لأصحاب الكفاءة دون النظر إلى عرقيَّتهم أو أصولهم، ولهذا جاءت تركيبة القيادات في دولته عجيبة في ذلك الزمن، ولافتة للنظر لكلِّ مؤرِّخ، ولنأخذ بعض الأمثلة التي تُوضِّح هذه الرؤية الفريدة للفاتح رحمه الله.
إذا نظرنا إلى مركز الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء)، وهو أعظم مركز قيادي في الإمبراطوريَّة بعد مركز السلطان، وجدنا أنَّ الفاتح ولَّى في زمانه (خلال ثلاثين سنة) ستَّة من الصدور العظام، فإذا علمنا أصول هؤلاء الستَّة الكبار عرفنا مدى أهميَّة هذه الملاحظة! وهؤلاء الستَّة هم:
1. زاجانوس باشا Zaganos Pasha، وتولَّى من 1453م إلى 1456م، وهو من أصولٍ ألبانيَّة، أو سلاڤيَّة جنوبيَّة[28].
2. محمود باشا أنچلوڤيتش Mahmud Pasha Angelović، وتولَّى من 1456م إلى 1468م، ثم تولَّى مرَّةً ثانية من 1472م إلى 1474م، وهو من أصولٍ صربيَّة[29].
3. روم محمد باشا Rum Mehmed Pasha، وتولَّى من 1468م إلى 1469م، وهو يونانيُّ الأصل[30].
4. إسحاق باشا Ishak Pasha، وتولَّى من 1469م إلى 1472م، وهو ألبانيُّ الأصل[31].
5. كديك أحمد باشا Gedik Ahmed Pasha، وتولَّى من 1474م إلى 1477م، ويختلف المؤرِّخون في تحديد أصله على ثلاثة أقوال، فهو إمَّا ألباني، أو يوناني، أو صربي[32].
6. محمد قرامانلي باشا Mehmed Karamanli Pasha، وتولَّى من 1477م إلى 1481م، وهو تركيُّ الأصل من منطقة قرمان[33].
هؤلاء هم الستَّة الذين وضعهم الفاتح في مركز الصدارة العظمى! لقد كان منهم خمسة من غير الأتراك، بل إنَّ أصول هؤلاء الخمسة نصرانيَّة، وبلغة الأرقام فإن ثلاثة وثمانين بالمائة من الصدور العظام في زمن الفاتح كانوا غير أتراك، وسبعة عشر بالمائة فقط كانوا أتراكًا، وحتى هذا التركي لم يكن عثمانيًّا! وإذا نظرنا إلى المدد الزمنية التي تولى فيها الصدور العظام غير الأتراك مقارنة بالتي تولى فيها التركي وجدنا أن غير الأتراك تولوا الصدارة على مدار أربع وعشرين سنة، بداية من عام 1453م إلى عام 1477م، بينما تولى التركي محمد قرامانلي الصدارة بداية من عام 1477م إلى عام 1481م، وقد استثنينا أول سنتين في حكم الفاتح لأن الصدر الأعظم حينها كانت ولايته من زمن مراد الثاني، ولم يقم الفاتح بإعطائه هذا المنصب. إن هذا يعني أن غير الأتراك تولوا الصدارة العظمى في أكثر من خمسة وثمانين بالمائة من الوقت في زمن الفاتح، بينما كان نصيب الأتراك أقل من خمسة عشر بالمائة من هذا الوقت! إن هذه نقلةٌ نوعيَّةٌ في فكر الدولة العثمانيَّة، وهي نقلةٌ تُناسب -كما ذكرنا- إدارة إمبراطوريَّة ضخمة تحتاج إلى كلِّ طاقاتها، وتحتاج في الوقت نفسه إلى الاستقرار.
وما قلناه عن مركز الصدارة العظمى ينطبق على المراكز المهمَّة الأخرى في الإمبراطوريَّة، فمركز قائد الأسطول العثماني كان على الدوام من غير الأتراك، بدايةً ببلطه أوغلو سُليمان بك Baltaoğlu Süleyman Bey البلغاري[34]، ومرورًا بزاجانوس باشا Zaganos Pasha الألباني[35]، ونهايةً بمسيح باشا Mesih Pasha اليوناني[36]، وكديك أحمد باشا[37].
وإذا كنَّا نذكر هذه الحقائق عن أكبر القادة في زمن محمد الفاتح فإنَّ الأمر ينطبق بلا جدال على القادة الأقل منهم رتبة، وقد مرَّ بنا عددٌ كبيرٌ من قادة الجيوش وأمراء الولايات من أصولٍ غير تركيَّة؛ فهناك على سبيل المثال بالابان باديرا الألباني[38]، وخير الدين مصطفى بك اليوناني[39]، وغيرهما ممَّا يصعب حصره في هذا العرض.
وجديرٌ بالذكر أنَّ هذا الأمر، وهو ولاية غير الأتراك، كان مكروهًا عند الأسر التركيَّة النبيلة[40]، وكانوا ينظرون إليه بحذرٍ شديد، بل إنَّ بعض المؤرِّخين الأتراك المتأخِّرين يأخذون على السلطان الفاتح توليته المراكز الكبرى لغير العائلات التركيَّة الكبرى[41]، ولكن كل هؤلاء لم يُدركوا الفارق الكبير بين إدارة إمارة أو مملكة، وإدارة إمبراطوريَّة عظمى كالتي أسَّسها الفاتح رحمه الله. وما أقرَّه الفاتح نفع الدولة لعدَّة قرون، ولئن ظهرت آثارٌ سلبيَّةٌ في المستقبل البعيد لولاية رجال الجيش من غير الأتراك فإنَّ هذه الآثار لم تكن راجعةً إلى أصولهم، ولكن إلى ضعف السلاطين الذين لم يُحْكِموا السيطرة على الأمور، ولا يصحُّ أن نُحمِّل الفاتح أوزار هذا الاتِّجاه، خاصَّةً أنَّه اتِّجاهٌ شرعيٌّ تمامًا، ويتماشى مع السُّنَّة النبويَّة، التي تُقرُّ ولاية الأكفأ بصرف النظر عن عرقه، فعَن ابن عمر ب أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فتح مكة، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ». قَالَ اللهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13][42].
ولقد طبَّق الخلفاء الراشدون هذا المبدأ في ولايتهم، فمنحوها للأكفأ بصرف النظر عن أصله، وكان بعض الصحابة يستنكر مثل هذه الولايات، ويعتقد أنَّ الواجب أن تذهب الولايات للأشراف فقط، لكنَّ الصواب كان في غير ذلك، ولقد استنكر الصحابيُّ نافع بن عبد الحارث على عمر بن الخطاب توليته لأحد الموالي على إحدى الولايات، فصحَّح له عُمر المفاهيم، وعلَّمه الأصول التي يختار على أساسها القادة؛ فعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ، لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مكة، فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ قَدْ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»[43].
ولئن كان اختيار عُمَر لوالٍ على أهل الوادي يرجع إلى علمه بالكتاب والسنة، فإنَّ ولاية الجيوش ترجع إلى المهارة الحربيَّة، وولاية الصدارة العظمى ترجع لحسن الإدارة، وولاية القضاء ترجع إلى العلم والذكاء، وهكذا تُحدِّد الكفاءة اختيار الوالي المناسب.
كانت هذه بعض الأمور التي انتهجها الفاتح في إدارته للإمبراطوريَّة الجديدة، ويتَّضح منها أنَّ الأمر لم يكن معتمدًا فقط على عدد الجيوش، أو قوَّة السلاح؛ إنَّما كان يرجع كذلك إلى تغييراتٍ فكريَّةٍ إيجابيَّةٍ أسهمت بشكلٍ فعَّال في تثبيت دعائم هذه الإمبراطوريَّة الكبرى، بل زيادة حجمها وقوَّتها مع الوقت، وبقاءها عدَّة قرونٍ من الزمان[44].
[1] Howe Stephen Empire [Book]. - New York : Oxford University Press, 2002, p. 15.
[2] أوزتونا، 1988م صفحة 1/178.
[3] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية [كتاب] / المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م صفحة 1/178.
[4] Uyar Mesut and Erickson Edward J A Military History of the Ottomans: From Osman to Atatürk [Book]. - Santa Barbra, USA : ABC CLIO., 2009, p. 32.
[5] Uyar, et al., 2009, p. 67.
[6] Uyar, et al., 2009, pp. 32-67.
[7] Ágoston Gábor Guns for the Sultan [Book]. - New York, USA : Cambridge University Press, 2005, p. 43.
[8] أوزتونا، 1988م صفحة 1/180.
[9] Larkins Jeremy From hierarchy to anarchy [Book]. - New York, USA : Palgrave, 2010, p. 83.
[10] Montgomery James Edward Abbasid Studies: Occasional Papers of the School of ʻAbbasid Studies, [Book]. - Cambridge : Peeters Publishers, 2004, p. 83.
[11] أوزتونا، 1988م صفحة 1/111.
[12] ابن إياس بدائع الزهور في وقائع الدهور [كتاب] / المترجمون محمد مصطفى. - فيسبادن : فرانز شتاينر، 1975م صفحة 5/365.
[13] Isom-Verhaaren Christine and Schull Kent F. Living in the Ottoman Realm: Empire and Identity, 13th to 20th Centuries [Book]. - Bloomington, Indiana, USA : Indiana University Press., 2016, p. 38.
[14] راغب السرجاني المشترك الإنساني- القاهرة - مصر : مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 2011م صفحة 10.
[15] 5. أكمل الدين إحسان أوغلي [وآخرون] الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، المترجمون نقله إلى العربية: صالح سعداوي. - إستانبول : مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، 1999م صفحة 2/614.
[16] كارل بروكلمان تاريخ الشعوب الإسلامية، نقله إلى العربية: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي [كتاب]. - بيروت - لبنان : دار العلم للملايين، 1968م صفحة 442.
[17] فيليب مانسيل القسطنطينية المدينة التي اشتهاها العالم 1453-1924، المترجمون مصطفى محمد قاسم. - الكويت : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (سلسلة عالم المعرفة)،، 2015م الصفحات 1/36-37.
[18] إحسان أوغلي، وآخرون، 1999م صفحة 2/614.
[19] إسماعيل سرهنك حقائق الأخبار عن دول البحار [كتاب]. - مصر : مطابع الأميرية، بولاق، 1895م صفحة 1/519.
[20] Thackeray Frank W and Findling John E. Events That Formed the Modern World [Book]. - Santa Barbara, USA : ABC-CLIO., 2012, vol. 1, p. 215.
[21] Shefer-Mossensohn Miri Science among the Ottomans [Book]. - Austin Tx, USA : university of Texas press, 2015, p. 138.
[22] شوجر، 1998م صفحة 61.
[23] Davison Roderic H Essays in Ottoman and Turkish History [Book]. - Austin, USA : university of Texas press, 1990, p. 12.
[24] Velikonja Mitja Religious Separation and Political Intolerance in Bosnia-Herzegovina [Book]. - USA : Texas A&M University Press, 2003, p. 79.
[25] Stanton Andrea L Cultural Sociology of the Middle East, Asia, and Africa: An Encyclopedia [Book]. - Los Angeles, USA, 2012, vol. 1, p. 182.
[26] قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِي أَحْفَظُ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَقِيَاسِهِ أَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا يَكْشِفُونَهُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُلْزِمُونَ أَنْفُسَهُمْ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ إلَّا أَنْ يَتَدَارَءُوا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ فَإِنْ فَعَلُوا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ لِمُسْلِمٍ وَلَا عَلَيْهِ إلَّا مُسْلِمٌ فَهَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي يُلْزِمُونَ أَنْفُسَهُمْ النَّظَرَ بَيْنَهُمْ فِيهِ فَإِذَا نَظَرُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُسْلِمٍ حَكَمُوا بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ لَا خِلَافَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِحَالٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَارَءُوا هُمْ وَمُسْتَأْمَنٌ لَا يَرْضَى حُكْمَهُمْ، أَوْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَمِلَّةٌ أُخْرَى لَا تَرْضَى حُكْمَهُمْ وَإِنْ تَدَاعَوْا إلَى حُكَّامِنَا فَجَاءَ الْمُتَنَازِعُونَ مَعًا مُتَرَاضِينَ فَالْحَاكِمُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ حَكَمَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْكُمْ وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ لَا يَحْكُمَ فَإِنْ أَرَادَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ قَالَ لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ إنِّي إنَّمَا أَحْكُمُ بَيْنَكُمْ بِحُكْمِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا أُجِيزَ بَيْنَكُمْ إلَّا شَهَادَةَ الْعُدُولِ الْمُسْلِمِينَ وَأُحَرِّمُ بَيْنَكُمْ مَا يَحْرُمُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ الرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ. الشافعي، 1990م صفحة 7/44.
ونصٌّ لأبي بكر بن شيبة يقول فيه: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «خَلُّوا بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ أَحْكَامِهِمْ، فَإِذَا ارْتَفَعُوا إِلَيْكُمْ، فَأَقِيمُوا عَلَيْهِمْ مَا فِي كِتَابِكُمْ» أبو بكر بن أبي شيبة، 1989م صفحة 4/428.
وهذا نصٌّ أخر لأبي بكرٍ -أيضًا- يقول فيه: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ قَابُوسِ بْنِ مُخَارِقٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بُعِثَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، فَكَتَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى عَلِيٍّ يَسْأَلُهُ عَنْ مُسْلِمٍ فَجَرَ بِنَصْرَانِيَّةٍ، فَكَتَبَ عَلِيٌّ أَنْ «أَقِمِ الْحَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي فَجَرَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَارْفَعِ النَّصْرَانِيَّةَ إِلَى النَّصَارَى يَقْضُونَ فِيهَا مَا شَاءُوا» أبو بكر بن أبي شيبة، 1989م صفحة 4/428.
[27] نيقولا فاتان صعود العثمانيين 1362-1451م [مقطع من كتاب] // تاريخ الدولة العثمانية / مؤلف الكتاب مانتران، روبير. - القاهرة، مصر : دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، 1993م صفحة 1/101، 102.
[28] Nicolle David, Haldon John and Turnbull Stephen The Fall of Constantinople [Book]. - Oxford, UK : Osprey Publishing., 2007, p. 189.
[29] Stavrides Theoharis The Sultan of vezirs : the life and times of the Ottoman Grand Vezir Mahmud Pasha Angelovic (1453-1474) [Book]. - Leiden : Brill Academic Publishers, Inc, 2001, p. 311.
[30] Babinger Franz Mehmed the Conqueror and His Time [Book]. - [s.l.] : Princeton University Press, 1978, p. 254.
[31] Faveyrial Jean-Claude Histoire de l'Albanie (in French) [Book]. - Dukagjini, Peja : Dukagjini Balkan Books, 2001, p. 215.
[32] Lowry Heath W. The Nature of the Early Ottoman State [Book]. - USA : State University of New York Press, Albany, 2003, p. 116.
[33] Buz Ayhan Osmanli Sadrazamlari (in Turkish) [Book]. - Istanbul : Neden Yayınları, 2009, p. 25.
[34] Danişmend İsmail Hâmi Osmanlı Devlet Erkânı [Book]. - Istanbul : Türkiye Yayınevi, 1971, p. 172.
[35] Nicolle, et al., 2007, p. 189.
[36] Danişmend, 1971, p. 172.
[37] Lowry, 2003, p. 116.
[38] İnalcık Halil İskender beg [Book Section] // The Encyclopaedia of Islam / book auth. van Donzel E. [et al.]. - Leiden : E.J. Brill,, 1997, vol. 4, p. 140.
[39] Freely John The Grand Turk: Sultan Mehmet II, Conqueror of Constantinople and Master of an Empire An Empire And Lord Of Two Seas [Book]. - New York : The Overlook Press, 2009, p. 164.
[40] Babinger, 1978, p. 15.
[41] أوزتونا، 1988م صفحة 1/183.
[42] الترمذي: كتاب تفسير القرآن عن رسول الله r، باب ومن سورة الحجرات (3270)، ابن حبان، 1993م (3828) واللفظ له، قال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح، وصححه الألباني، 1995م (2803).
[43] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها (817)، وابن ماجه (218)، وابن حبان، 1993م (772) واللفظ له.
[44] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 2/ 801- 820.
التعليقات
إرسال تعليقك