ملخص المقال
الناصر محمد بن قلاوون واحد من أبرز سلاطين المماليك وأفضلهم. خاض حروبًا ضد الصليبيين والمغول، شهدت مصر في فترة حكمه الثالثة نهضة حضارية وعمرانية
الناصر محمد بن قلاوون واحد من أبرز سلاطين المماليك وأفضلهم. خاض حروبًا ضد الصليبيين والمغول، وحروباً إصلاحية في الداخل ضد الفساد. شهدت مصر في فترة حكمه الثالثة نهضة حضارية وعمرانية لم تشهدها في عهد أي سلطانٍ آخر من سلاطين الدولة المملوكية.
حكم 3 مرات: من 693 هـ إلى 694 هـ (سنة، وكان عمره 9 سنوات فقط)، ومن 698 هـ إلى 708 هـ (10 سنوات)، ومن 709 هـ وحتى وفاته في عام 741 هـ (32 سنة) (المجموع 43 سنة).
في عهد الناصر ارتفعت مكانة مصر في العالم الخارجي وسعت البلاد الإسلامية والمسيحية على السواء لخطب ودها، وأصبحت القاهرة قبلة للمتوددين والزوار من شتى الأرجاء. وخطب باسم الناصر على منابر بغداد التي كانت في قبضة مغول فارس، ونقش اسمه على نقودها، كما خطب ملوك بني رسول في اليمن للناصر وأرسلوا له الهدايا. وخطب للناصر في دولة بني قرمان في آسيا الصغرى، وعلى منابر تونس وطرابلس الغرب وماردين، وقامت علاقات ودية بينه وبين ملوك الهند والصين وملوك غرب أفريقيا. وكان الناصر، ومن ألقابه خادم الحرمين الشريفين، يشرف على الحجاز وتهامة وينصب أمراء المدينة ومكة.
من آثاره الباقية حتى الآن مسجده البديع في القلعة (مسجد الناصر محمد)، والمدرسة الناصرية في شارع بين القصرين المعروف الآن بشارع المعز (قصران بناهما جوهر الصقلي)
يقول عنه ابن الوَرْدي (691 - 749هـ)[1]: وحج مرات، وحصل لقلوب الناس بوفاته ألم عظيم، فإنه أبطل مكوسًا، وكان يستحيي أن يخيب قاصديه، وأيامه أيام أمن وسكينة[2].
وقال الذهبي (673 - 748 هـ)[3]: أقام ملكًا مطاعًا، وأذعنت له الملوك، ودانت له الأمم وخافته الأكاسرة[4].
يقول المقريزي (766-845هـ)[5]: "ولم يعهد في أيام ملك قبله ما عهده في أيامه من مسالمة الأيام له، وعدم حركة الأعداء برًّا وبحرًا وخضوع جميع الملوك له ومهادنتهم إياه".
الموقف يذكره المقريزي (766 - 845 هـ) في السلوك لمعرفة دول الملوك:
1- وكان، رحمه الله، على غاية من الحشمة والرياسة وسياسة الأمور، فلم يضبط عليه أحد أنّه أطلق لسانه بكلام فاحش في شدّة غضبه ولا في انبساطه، مع عظيم ملكه، وطول مدّته في السلطنة، وكثرة حواشيه وخدمه.
2- وكان يدعو الأمراء والأعيان وأرباب الوظائف بأحسن أسمائهم وأجلّ ألقابهم،
3- وكان مفرط الذكاء، يعرف جميع مماليك أبيه وأولادهم بأسمائهم، وكذلك مماليكه لا يغيب عنه اسم واحد منهم ولا وظيفته عنده، هذا مع كثرتهم.
يجمع هذه الصفات حلاوة لسانه، وروعة منطقه
هذه صفة مقدَّرة في الشريعة تمام التقدير:
قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18].
العتيد هو الحاضر الذي لا يغيب
صفة حفظ اللسان صفة صعبة،
لذلك فصاحبها أفضل الناس: في البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ، وَيَدِهِ».
عندك اختياران:
في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».
هذا يعني أن المرء ينبغي أن يفكِّر طويلًا قبل الكلام، فإن كان الكلام واجبًا أو مندوبًا فعله، وإن كان مكروهًا أو حرامًا امتنع، وإن كان مباحًا قلَّل منه قدر الإمكان، فإن شكَّ توقَّف.
لذا يقول عَبْدُ اللهِ بن مسعود: «وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجُ إِلَى طُولِ سِجْنٍ مِنْ لِسَانٍ»
إن لم يكترث المسلم بهذه القواعد فالعاقبة وخيمة:
في الترمذي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ البَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ قَالَ: ثُمَّ تَلاَ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}، حَتَّى بَلَغَ {يَعْمَلُونَ}، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟"
العلاقة: الذي لا يتحكَّم في لسانه لا يستطيع القيام بكل أعمال البرِّ التي في الحديث، لأن اللسان في الواقع انعكاس لما في القلب، والقلب الذي يسمح بكوارث اللسان قلب ضعيف
ودليل ذلك
1- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، رَفَعَهُ قَالَ: "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا".
2- أحمد وهو صحيح عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».
البوائق جمع بائقة وهي الظلم والشر والشيء المهلك.
البوائق:
1- الكذب
2- الغيبة
3- النميمة
4- السخرية من الناس
5- إفشاء الأسرار
6- الفحش
7- السب واللعن
8- الكلام فيما لا يعني
9- المراء، والجدال
10- شَهادةِ الزُّور.
11- انتهارِ الفُقَراءِ والضُّعَفاءِ واليتيم والسَّائلِ ونحوهم.
12- المَنِّ بالعَطِيَّةِ ونحوِها.
13- الحديث بكل ما تسمع
14- المغالاة في المدح
15- الصوت المرتفع
16- كثرة الضحك
17- الثرثرة
ويقول أَبُو الدَّرْدَاءِ: «تَعَلَّمُوا الصَّمْتَ كَمَا تَتَعَلَّمُونَ الْكَلَامَ، فَإِنَّ الصَّمْتَ حُكْمٌ عَظِيمٌ، وَكُنْ إِلَى أَنْ تَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْكَ إِلَى أَنْ تَتَكَلَّمَ، وَلَا تَتَكَلَّمْ فِي شَيْءٍ لَا يَعْنِيكَ، وَلَا تَكُنْ مِضْحَاكًا مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ، وَلَا مَشَّاءً إِلَى غَيْرِ أَرَبٍ يَعْنِي إِلَى غَيْرِ حَاجَةٍ»
تَوَازَن:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»
وإن لم تعرف فاصمت!
عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ وَالمُتَفَيْهِقُونَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالمُتَشَدِّقُونَ فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: «المُتَكَبِّرُونَ»
الثرثارون هم الذي يُكْثِرُونَ الْكَلَامَ
وَالْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَوَسِّعُونَ فِي الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ احتياط، أو المستهزئ بِالنَّاسِ
وَالْمُتَفَيْهِقُونَ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْكَلَامِ وَيَفْتَحُونَ بِهِ أَفْوَاهَهُمْ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَهْقِ وَهُوَ الِامْتِلَاءُ وَالِاتِّسَاعُ، قِيلَ وَهَذَا مِنَ الْكِبْرِ وَالرُّعُونَةِ
وفي الترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَمَتَ نَجَا» لفظ عام يشمل النجاة في الدارين.
[1] ولد في معرة النعمان (بسورية) وولي القضاء بمنبج، وتوفي بحلب.
[2] تاريخ ابن الوردي (2/ 319).
[3] تركمانيّ الأصل، من أهل ميافارقين في شمال شرق ديار بكر، بين دجلة والفرات، مولده ووفاته في دمشق. رحل إلى القاهرة وطاف كثيرا من البلدان.
[4] العبر في خبر من غبر (4/ 124).
[5] ولد ونشأ ومات في القاهرة، وولي فيها الحسبة والخطابة والإمامة مرات، واتصل بالملك الظاهر برقوق، فدخل دمشق مع ولده الناصر سنة 810 هـ وعرض عليه قضاؤها فأبى. وعاد إلى مصر.
التعليقات
إرسال تعليقك