التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت هناك محاولات لتنصير مكة من بينها محاولة عثمان بن الحويرث، فما تلك القصة، ومن هو عثمان بن الحويرث؟
على مدار التاريخ كانت هناك محاولات لتنصير مكة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من بينها محاولة تُبَّع في عهد خزاعة قبل قريش، وانتهت بكسوة الكعبة وتركها دون مساس، والعودة لليمن، وهذا على فرض أنه كان نصرانيًّا وليس يهوديًّا.
المحاولة الثانية هي محاولة أبرهة، وفشلت بالطير الأبابيل، ولا يمكن أن توصف بمحاولة تنصير، إنما كانت سعيًّا لسيطرة سياسية واقتصادية، وإلا لما فشَّلها الله بهذه الصورة، لأن النصرانية في كلِّ الأحوال، ومهما كانت التحريفات فيها، فهي أعلى وأعظم من عبادة الأوثان التي كانت عليها قريش.
أما محاولة عثمان بن الحويرث التي نتحدث عنها هي محاولة غير مشتهرة، ولكنها مهمة، فبعد لقاء عثمان بن الحويرث مع زيد بن عمرو، وورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، توجَّه عثمان بن الحويرث إلى الشام.
من هو عثمان بن الحويرث؟
هو عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي: من شعراء مكة، ومن أظرفهم، ومن عقلائهم المعروفين، كان يُعرف بالبطريق: أي رجل الدين النصراني، وهو ابن عمِّ ورقة بن نوفل، وابن عم السيدة خديجة بنت خويلد.
محاولة عثمان بن الحويرث لتنصير مكة:
قال عروة بن الزبير: خرج عثمان بن الحويرث وكان يطمع أن يملك قريشا وكان من أظرف قريش وأعقلها حتى قدم على قيصر[1] وقد رأى موضع حاجتهم ومتجرهم ببلاده فذكر له مكة ورغَّبه فيها، وقال تكون زيادة في ملكك كما ملك كسرى صنعاء، فملَّكه عليهم، وكتب له إليهم، وكان قيصر حمل عثمان على بغلة عليها سرج عليه الذهب حين ملكه.
فلما قدم عليهم قال: يا قوم إن قيصر مَنْ قد علمتم أمانَكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملَّكني عليكم، وإنما أنا ابن عمكم وأحدُكم، وإنما آخذ منكم الجراب من القَرَظ (المدبوغ)، والعُكَّة (أصغر من القربة) من السمن، والإهاب (الجلد غير المدبوغ)، فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمتنع منكم الشام فلا تتَّجروا به، ويقطع مرفقكم منه، فلما قال لهم ذلك خافوا قيصر وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم، فأجمعوا على أن يعقدوا على رأسه التاج عشية، وفارقوه على ذلك، فلما طافوا عشية بعث الله عليه ابن عمه الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وصاح على أحفل ما كانت قريش في الطواف يا لعباد الله، مَلِكٌ بتهامة؟!
وفي رواية: قال الأسود بن المطلب حين أرادت قريش أن تملك عثمان بن الحويرث عليها إن قريشًا لَقاحٌ لا تُمْلَك! فانحاشوا (نفروا) انحياش حمر الوحش، ثم قالوا صدق واللات والعزى، ما كان بتهامة ملك قط، فانتفضت قريش عما كانت قالت له، ولحق بقيصر ليعلمه.
في الشام دسَّ بعض تجار قريش على عثمان بن الحويرث عند ملك الغساسنة عمرو بن جفنة، فعمل مكيدة للإيقاع بين قيصر وعثمان بن الحويرث، فنجح في البداية، ولكن تمكَّن عثمان بن الحويرث من النجاة من المكيدة، وأقنع قيصر بولائه.
كتب قيصر لعثمان بن الحويرث إلى عمرو بن جفنة أن يحبس له من أراد حبسه من تجار قريش، فقدم على ابن جفنة، فوجد بالشام أبا أحيحة سعيد بن العاص الأموي (ذا العمامة) وابن أخته أبا ذئب (هشام بن شعبة من بني عامر بن لؤي)، فحبسهما، فمات أبو ذئب في الحبس، ونجا أبو أحيحة! ومع ذلك دبَّر عمرو بن جفنة الغسَّاني مؤامرة، ودسَّ السم لعثمان بن الحويرث، فمات بالشام[2].
مَنْ الذي حزن على عثمان بن الحويرث؟
حدثت فتنة في مكة نتيجة هذه الأحداث، وتعقَّد الموقف بين بني أمية وعامر بن لؤي قوم أبي ذئب من ناحية، وبني أسد من ناحية أخرى؛ نتيجة موت أبي ذئب في سجن غسَّان، وهيَّج أبو أحيحة القوم على أسد، وتكوَّنت الأحلاف، وكادت الحرب أن تقع بين فروع قريش لولا ظهور الإسلام، وانشغال الناس بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجديدة.
ومع ذلك الذي قام بالرثاء لعثمان بن الحويرث كان ورقة بن نوفل، ولا أعتقد أن الرثاء كان فقط لكون الاثنين من بني أسد، ولكن لأن عثمان بن الحويرث كان نصرانيًّا في الأساس والله أعلم.
قال ورقة: فلأبْكِيَنْ عثمانَ حَقَّ بُكَائِهِ ... ولأنشُدَنْ عَمْرًا وإن لم يُنْشَدِ
وعمرو المشار إليه هو عمرو بن جفنة الغسَّاني الذي قتل عثمان بن الحويرث.
تعليقان مهمان على القصة: أولًا: هل عثمان بن الحويرث خائن لقومه تابع للأغراب؟ بعض المتمسِّكين بالعروبة دون النظر إلى الخلفيات الشرعية ينظرون لعثمان بن الحويرث نظرة الخائن الذي تعامل مع الأجانب من أجل الملك على بلده، ولا ينظر إلى أن عثمان بن الحويرث تنصَّر في زمن يعبد فيه العرب الأصنام، وكان بلا شكٍّ أفضل من القرشيين الوثنيين، ولئن تُحْكَم مكة بنصراني تابع لملك غير عربي خير لها من أن تُحْكَم بعربي قرشي وثني.
هذا المسلك يؤيِّده رثاء ورقة بن نوفل العاقل لعثمان بن الحويرث، والذي كان في قلب عثمان لا يعرفه إلا الله، وهل كان يريد الملك أم يريد الدين، ولكن ما نعلمه أن ظاهر عثمان كان أفضل من ظاهر أهل مكة في هذه المرحلة التاريخية.
ثانيًا: لماذا لم يأذن الله لمكة أن تتنصر، ولماذا نرى السعادة في لفظ عروة بن الزبير عندما قال: بعث الله عليه ابن عمه الأسود بن المطلب؟ لأن الله تعالى كان يمهِّد بعناية للنبوة:
1- أراد أولًا ألا يُتَّهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالنقل عن النصارى، ولذات السبب كان لا يوجد يهود بمكة، ولو تنصَّرت مكة، وانتشر فيها التوراة والإنجيل، لكن من السهل اتِّهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالنقل عنهم، قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان: 4 - 6]. وقال تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]. واختلفوا في اسم الغلام المقصود: جبر، أو يعيش، أو بَلْغَام، وهو مولى لبني الحضرمي، وللمصلحة نفسها أراد الله تعالى أن يموت ورقة بن نوفل بعد نزول الوحي بقليل، ولو عاش طويلًا في العهد المكي لادَّعى الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينقل عنه، وكلُّ الأمور بتقدير الله تعالى.
2- أراد ثانيًا نقاء الرسالة الإسلامية عندما يُبْعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تبقى نصرانية أو يهودية في مكة؛ لأن الخلط سيكون متوقَّعًا لتشابه الأساسيات، ولذا أراد الله للشريعة أن تكون خالصة لئلا يلتبس الأمر على الناس بشكل عام، والمسلمين بشكل خاصٍّ[3].
[1] قيصر في ذلك الوقت هو إما فوقاس، وهو الأغلب في رأيي، وحكم من عام 602 إلى عام 610 ميلادية، وهذا العام الأخير هو العام الذي بُعِث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو العام الذي تولَّى فيه هرقل القيصر البيزنطي الشهير.
أو قد يكون القيصر هو موريكيوس، وقد حكم من 582 إلى 602 ميلادية، أي قبل فوقاس، ولكن حدوث صراع بين القبائل القرشية نتيجة موت أبي ذئب، ثم انتهاء هذا الصراع بظهور الدعوة الإسلامية يشير إلى أن القصة قريبة من البعثة النبوية، وكان الذي يحكم فيها هو فوقاس والله أعلم.
[2] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 38/332-334.
[3] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: عثمان بن الحويرث والسعي لتنصير مكة
التعليقات
إرسال تعليقك