ملخص المقال
لم يكتف أحمد بن حنبل بعلم علماء العاصمة بغداد، ولا بعلم الزائرين لها؛ إنما سعى إلى جمع الحديث النبوي من العلماء في الأمصار المختلفة.
ليس من السهل أن يتكوَّن عالم بثقل أحمد بن حنبل ويعود ذلك على جانبين الرحلة في طلب العلم وجمع الحديث، والفقر الذي دفعه إلى السفر مشيًا على الأقدام لمقابلة العلماء.
أحمد بن حنبل مكة المكرمة:
حج أحمد بن حنبل خمس مرات منها 3 ماشيًا من العراق، وكانت أول مرة عام 187هـ وعمره 23 سنة، وكان الهدف مقابلة سفيان بن عيينة الذي كان عمره 80 سنة، وقد قال الشافعي في مالك وسفيان: «لَوْلَا مَالِكٌ وَسُفْيَانُ لَذَهَبَ عِلْمُ الْحِجَازِ» أيضًا انبهر أحمد بن حنبل به بالإمام الشافعي وفضل مجلسه على مجلس سفيان بن عيينة، وكان يأتي لمجلس الشافعي بأصدقائه.
أيضًا كان أحمد يعلم من الحديث أكثر من الشافعي وذلك لمقابلته البصريين والكوفيين: «قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِالْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مِنَّا، فَإِذَا كَانَ خَبَرٌ صَحِيحٌ فَأَعْلِمْنِي، حَتَّى أَذْهَبَ إِلَيْهِ كُوفِيًّا أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا».
تعلَّم أحمد بن حنبل من الشافعي أصول الفقه والاستنباط، بل يراه مجدد الأمة في القرن الثالث: قال عبد الملك الميموني: كنت عند أحمد بن حنبل رحمه الله، وجرى ذكر الشافعي، فرأيت أحمد يرفعه، وقال: يُروى عن النبي «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا». وكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُخْرَى، وقد كرر أحمد بن حنبل الزيارة لمكة في أعوام 191، 196، 197، 198هجريًا.
سرقة ثياب أحمد بن حنبل:
قال عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ بْنِ بَدْرٍ: «كَانَ لَنَا جَارٌ فَأَخْرَجَ إِلَيْنَا كِتَابًا» فَقَالَ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا الْخَطَّ قُلْنَا: «نَعَمْ هَذَا خَطُّ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ». فَقُلْنَا لَهُ: «كَيْفَ كَتَبَ ذَلِكَ؟» قَالَ: كُنَّا بِمَكَّةَ مُقِيمِينَ عِنْدَ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ فَقَصَدْنَا أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَيَّامًا، فَلَمْ نَرَهُ، ثُمَّ جِئْنَا إِلَيْهِ لِنَسْأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ لَنَا أَهْلُ الدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا: هُوَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَجِئْنَا إِلَيْهِ، وَالْبَابُ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَإِذَا عَلَيْهِ خِلْقَانٌ. فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا خَبَرُكَ؟ لَمْ نَرَكَ مُنْذُ أَيَّامٍ؟ فَقَالَ: سُرِقَتْ ثِيَابِي. فَقُلْتُ: لَهُ مَعِي دَنَانِيرُ فَإِنْ شِئْتَ خُذْ قَرْضًا وَإِنَّ شِئْتَ صِلَةً. فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ فَقُلْتُ: تَكْتُبُ لِي بِأَخْذِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخْرَجَتُ دِينَارًا، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، وَقَالَ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا، وَاقْطَعْهُ بِنِصْفَيْنِ. فَأَوْمَى أَنَّهُ يَأْتَزِرُ بِنِصْفٍ وَيَرْتَدِي بِالنِّصْفِ الْآخَرِ. وَقَالَ: جِئْنِي بِبَقِيَّتِهِ. فَفَعَلْتُ وَجِئْتُ بِوَرِقٍ وَكَاغَدٍ، فَكَتَبَ لِي، فَهَذَا خَطَّهُ.
قرار أحمد بن حنبل للذهاب إلى صنعاء لطلب العلم على يد عبد الرزاق:
قال معمر بن راشد في حقِّه: إن عاش فخليق أن تُضرَب إليه أكباد الإبل»، وقال صالح بن أحمد بن حنبل: عزم أبي علي الخروج إلى مكة يقضي حجة الإِسلام، ورافق يحيى بن معين (صديقه 50 سنة، وهو أسنُّ من أحمد بست سنوات)، وقال له: نمضي إن شاء اللَّه فنقضي حجنا، ثم نمضي إلى عبد الرزاق إلى صنعاء نسمع منه. قال أبي: فدخلنا مكة وقمنا نطوف طواف الورود، فإذا عبد الرزاق في الطواف يطوف، وكان يحيى بن معين قد رآه وعرفه، فخرج عبد الرزاق لما قضى طوافه فصلى خلف المقام ركعتين ثم جلس، فقضينا طوافنا وجئنا فصلينا خلف المقام ركعتين، فقام يحيى بن معين فجاء إلى عبد الرزاق فسلم عليه. وقال له: هذا أحمد بن حنبل أخوك. فقال: حياه اللَّه وثبته، فإنه يبلغني عنه كل جميل. قال: نجيء إليك غدًا إن شاء اللَّه حتى نسمع ونكتب. قال: وقام عبد الرزاق فانصرف. فقال أبي ليحيى بن معين: لِمَ أخذتَ على الشيخ موعدًا؟ قال: لنسمع منه، قد أربحك اللَّه مسيرة شهر ورجوع شهر والنفقة. فقال أبي: ما كان اللَّه يراني وقد نويت نية لي أفسدها بما تقول، نمضي فنسمع منه. فمضى حتى سمع منه بصنعاء.
قال عبد الله بن أَحمد: خرج أَبي إلى طَرَسُوس ماشيًا، وخرج إلى اليمن ماشيًا، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: لما قدمت صنعاء اليمن أنا ويحيى بن معين في وقت صلاة العصر، فسألنا عن منزل عبد الرازق، فقيل: إنه بقرية يقال لها: الرمادة، فمضيت لشهوتي للقائه، وتخلف يحيى بن معين؛ وبينها وبين صنعاء قريبٌ، حتى إذا سألت عن منزله قيل: هذا منزله، فلما ذهبت أدُق الباب، قال لي بقّال تجاه داره: لا تدق فإن الشيخ مهوب (وفي رواية مهيب). فجلست حتى إذا كان قبل صلاة المغرب خرج لصلاة المغرب؛ فوثبت إليه وفي يدي أحاديث قد انتقيتها، فقلت له: سلام عليكم، تُحدثني بهذه رحمك الله؟ فإني رجل غريب. فقال لي: من أنت؟ فقلت: أنا أحمد بن حنبل. قال: فتقاصر ورجع وضمني إليه، وقال: يالله أنت أبو عبد الله؟ ثم أخذ الأحاديث، فلم يزل يقرؤها حتى أشكل عليه الظلام؛ فقال للبقال: هلم المصباح، حتى خرج وقت المغرب -وكان يؤخرها- قال عبد الله: فكان أبي إذا ذكر أنه نوه باسمه عند عبد الرزّاق بكى.
معاناة أحمد بن حنبل في اليمن:
قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: مَا كَانَ فِي قَرْيَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِئْرٌ، فَكُنَّا نَذهَبُ نُبَكِّرُ عَلَى مِيْلَيْنِ نَتَوَضَّأُ، وَنَحمِلُ مَعَنَا المَاءَ، وقال عَبْدُ الرَّزَّاقِ: "قَدِمَ عَلَيْنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هَاهُنَا فَقَامَ سَنَتَيْنِ إِلَّا شَيْئًا (وفي رواية 10 أشهر)، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ خُذْ هَذَا الشَّيْءَ فَانْتَفِعْ بِهِ، فَإِنَّ أَرْضَنَا لَيْسَتْ بِأَرْضِ مَتْجَرٍ وَلَا مَكْسَبٍ". وَأَرَانَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ كَفَّهُ، وَمَدَّهَا فِيهَا دَنَانِيرُ. قَالَ أَحْمَدُ: أَنَا بِخَيْرُ، «وَلَمْ يَقْبَلْ مِنِّي»، وقَالَ أَحْمَدُ الدَّوْرَقِيُّ: لَمَّا قَدِمَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ مِنْ عِنْدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، رَأَيْتُ بِهِ شُحُوبًا بِمَكَّةَ، وَقَدْ تَبَيَّنَ عَلَيْهِ النَّصَبُ وَالتَّعَبُ، فَكَلَّمْتُه، فَقَالَ: هَيِّنٌ فِيْمَا اسْتَفَدنَا مِنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
أحمد بن حنبل يتعلَّم التحديث من الكتاب وليس من الحفظ:
كان عبد الرزاق يحدِّث من صحيفة، قَالَ عَبْدُ اللهِ بن أحمد بن حنبل: قَالَ أَبِي: مَا كَتَبنَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ حِفْظِهِ إِلاَّ المَجْلِسَ الأَوّلَ، وَذَلِكَ أَنَّا دَخَلنَا بِاللَّيْلِ، فَأَملَى عَلَيْنَا سَبْعِيْنَ حَدِيْثًا، وقال عبد الله بن أحمد: "سمعت يحيى يقول: ما كتبتُ عن عبد الرزاق حديثًا قط إلا من كتابه، لا والله ما كتبت عنه حديثًا قط إلا من كتابه".
منهج أحمد بن حنبل:
قَالَ صَالِح بن أحمد بن حنبل: رَأَى رَجُلٌ مَعَ أَبِي مِحْبَرَةً فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ هَذَا الْمَبْلَغَ وَأَنْتَ إمَامُ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ: مَع الْمِحْبَرَة إلَى الْمَقْبَرَةِ، وقال إبراهيم بن إسماعيل: قدم علينا علي بن المدِيني، فاجتمعنا عنده فسألناه الحديث. فقال: إن سيدي أَحمد بن حنبل أَمرني أَن لا أُحدِّث إِلا من كتاب[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك