د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
من تميم الداري وماذا تعرف عنه؟
روى مسلم عن فاطمة بنت قيس ل[1] قالت: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ صَلَاتَهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: «لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ»[2] ثُمَّ قَالَ: «أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "إِنِّي وَاللهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ، لِأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا[3]، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ، حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ[4] فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ[5]، مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ[6]، فَلَعِبَ بِهِمِ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ[7]، ثُمَّ أَرْفَئُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ[8]السَّفِينَةِ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ[9] كَثِيرُ الشَّعَرِ، لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ[10]، قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ[11]، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ، قَالَ: لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا، حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ[12]رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا[13]، وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ[14]بِالْحَدِيدِ[15]، قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ[16]؟ قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي، فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ[17]؟ قَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ، فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ[18]، فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا، ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ، فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا، فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ، لَا يُدْرَى مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقُلْنَا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قُلْنَا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: اعْمِدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالْأَشْوَاقِ، فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا، وَفَزِعْنَا مِنْهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ[19]، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا، هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ[20]، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ[21]، قَالُوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا[22]، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الْأُمِّيِّينَ مَا فَعَلَ[23]؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ[24]، قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ[25]، قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ[26]، وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي، إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ، فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الْأَرْضِ، فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ، فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً -أَوْ وَاحِدًا- مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا، يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ[27] مِنْهَا مَلَائِكَةً يَحْرُسُونَهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ[28] فِي الْمِنْبَرِ: «هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ» -يَعْنِي الْمَدِينَةَ- «أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟» فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، «فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ، أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ، وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّأْمِ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ[29] مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ» وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ[30]، قَالَتْ فاطمة بنت قيس: فَحَفِظْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ[31][32].
[1] مهاجرة قديمة، وهي أخت الضحَّاك بن قيس
[2] وفي سنن أبي داود أن هذه الصلاة كانت العشاء: "أَخَّرَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ: "إِنَّهُ حَبَسَنِي حَدِيثٌ كَانَ يُحَدِّثُنِيهِ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ.." ، أبو داود: كتاب الملاحم، باب في خبر الجساسة: (4325).
[3] تميم بن أوس الداري من قبيلة الدار فرع من لَخْم القحطانية، وهو راهب نصراني من أهل فلسطين أسلم في العام التاسع من الهجرة في وفد من عشرة، وهو من الصالحين، وكان يختم القرآن في سبع، وأحيانًا في ركعة، وعاش بالمدينة إلى مقتل عثمان رضي الله عنه، ثم تحوَّل بعدها إلى فلسطين إلى أن مات عام 40 هجرية.
[4] هذا معدود في مناقب تميم وخصائصه العجيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه هذه القصة: وفيه رواية الفاضل عن المفضول، ورواية المتبوع عن تابعه وفيه قبول خبر الواحد.
[5] وقال "بحريَّة" لينفي عن الذهن الإبل فإنها سفينة البرِّ، وينفي السفن الصغيرة التي تسير في الأنهار.
[6] وفي رواية نَاسًا مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ.
[7] غالبًا البحر الأحمر.
[8] جمع قارب، وهي سفن صغيرة تكون مُرْفَقة بالسفينة الكبيرة.
[9] أَهْلَبُ: غليظ.
[10] قيل سُمِّيت ذلك لأنها تجسَّس الأخبار للدجال، وقيل إنها الدابة المذكورة في القرآن: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82].
[11] القصر في رواية.
[12] وفي رواية شيخ.
[13] جسمًا، أو هيبة، والصواب كلاهما.
[14] أيضًا إلى عنقه.
[15] وفي رواية: ضرير، وفي رواية: أعور، وكلاهما صحيح لأن عينيه الاثنين بهما عور، وقد يظنُّ الذي يراه أنه ضرير.
[16] قال: ما لغير العاقل، وليس مَنْ للعاقل؛ لاستغراب هيئته.
[17] أي ما حالكم؟ أو قالها لمحاكاة ما قالوه.
[18] اغْتَلَمَ: هاج
[19] شمال شرق فلسطين.
[20] 40 كم شمال بيسان.
[21] بلدة في فلسطين عند البحر الميت.
[22] لم يُجِب هنا عن هذا الأمر، ويبدو أنه كسابقه، وتعجَّل الدجال للسؤال عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولاحظ أن كل الأحداث التي يسأل عنها في الشام، وراجعوا على القناة حلقة لماذا أضاءت الشام عند ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
[23] الأميون: العرب؛ لأنهم لا يكتبون، وهي تسمية يهودية (قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75])، وهذا يبيِّن ارتباط الدجال باليهود، وهو يطعن في المسلمين إذ يقول إنهم من غير المتعلمين، والتسمية موجودة في القرآن أيضًا: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، وهي هنا مدح؛ إذ جعل الله للأميين شأنًا بعد الإسلام.
[24] وفي رواية الترمذي: فَنَزَّى نَزْوَةً حَتَّى كَادَ، أي وثب وثبة حتى كاد يفلت من وثاقه.
[25] معنى هذا أن اللقاء مع الدجال تمَّ بعد فتح مكة، وهذا يعني قصور في علم الدجال، وتهوين من شأنه، فإنه معزول عن الحياة، وشياطينه لا تقوى على مساعدته إلا بما أراد الله تعالى.
[26] قالها حسدًا والله أعلم، أو غَلَبَه اللهُ على قول ذلك تأليفًا لقلوب تميم وأصحابه، والحقُّ ما شهدت به الأعداء! وفي رواية صحيحة عند أحمد: "قَالَ: مَا فَعَلَتْ فَارِسُ؟ هَلْ ظَهَرَ عَلَيْهَا؟ قَالُوا: لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا بَعْدُ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْهَا".
[27] نَقْبٍ: باب.
[28] بِمِخْصَرَتِهِ: بعصاه.
[29] ما زائدة أو موصولة بمعنى الذي، وليست نافية.
[30] قال الرسول صلى الله عليه وسلم بالظنِّ إنه بحر الشام أي البحر الأحمر من جهة الشمال، أو بحر اليمن أي البحر الأحمر من جهة الجنوب، ثم أتاه الوحي فاستدرك وقال: لا بل من قبل المشرق، وأكَّد ثلاثًا لينفي ما قاله بخصوص بحر الشام واليمن.
ويغلب على ظني أن المقصود هو الخليج العربي، أو بحر العرب الذي تطل عليه سواحل باكستان وإيران الجنوبية، وهو أقرب، فهو جهة المشرق، ومن الشرق تخرج الفتن، ففي البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ: «أَلاَ إِنَّ الفِتْنَةَ هَا هُنَا، يُشِيرُ إِلَى المَشْرِقِ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ»، وفتن المشرق كثيرة جدًّا، كما أن الدجال يخرج أول ما يخرج من خراسان، والطريق من هذا الساحل الباكستاني مباشر إلى خراسان، فلعله خرج من البحر من هذه النواحي، وذهب إلى خراسان (غرب أفغانستان، وشرق إيران)، ومنها إلى أصبهان وسط إيران ليلاقي أتباعه من اليهود.
[31] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قصة الجساسة (2942).
[32] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك