د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
ما الموقف الوحيد الذي يخاف فيه أهل الجنة؟
من المعروف أن الخوف والحزن غير موجودَين بالجنة: قال تعالى{أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49]، وقال تعالى{يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68].
أما الموقف الوحيد الذي يخاف فيه أهل الجنة، والموقف الوحيد الذي يستبشر فيه أهل النار فهو كما جاء روى الترمذي عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ".. فَإِذَا أَدْخَلَ اللَّهُ أَهْلَ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ، قَالَ: أُتِيَ بِالمَوْتِ مُلَبَّبًا، فَيُوقَفُ عَلَى السُّورِ الَّذِي بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَطَّلِعُونَ خَائِفِينَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَطَّلِعُونَ مُسْتَبْشِرِينَ يَرْجُونَ الشَّفَاعَةَ، فَيُقَالُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ: قَدْ عَرَفْنَاهُ، هُوَ المَوْتُ الَّذِي وُكِّلَ بِنَا، فَيُضْجَعُ فَيُذْبَحُ ذَبْحًا عَلَى السُّورِ الَّذِي بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ"[1].
وفي رواية البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ[2]، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39]، وَهَؤُلاَءِ فِي غَفْلَةٍ أَهْلُ الدُّنْيَا {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39]"[3].
أولًا: شكل الموت: كثيرًا ما يُجَسِّم الله الأمور المعنوية؛ كالرحم، والأمانة، والسكينة، والحكمة، وليس هذا بعجيب، فهو القادر على كل شيء، وكان من الممكن أن يعدم الله تعالى الموت بغير أن تذبح صورته، ولكن الحكمة في ذبحها أن يشاهد النَّاس ذلك فيزدادوا بذلك وثوقًا بأن الموت لا يأتيهم بعد ذلك، وقال القرطبي: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا الإشارة إلى أنَّه حصل لهم الفداء به كما فُدِيَ ولدُ إبراهيم بالكبش، وفي الأملح إشارة إلى صفتي أهل الجنَّة وأهل النَّار لأنَّ الأملح ما فيه بياض وسواد،والبشر؛ مؤمنهم وكافرهم، يعرفونه لعله بعلامة يجعلها الله تعالى في الكبش تدل على أنَّه صورة للموت، وعرفوا ذلك بإلهام من الله.
ثانيًا: هذه من أمتع لحظات الجنة، ومن أقسى لحظات النار:
1- الموت مصيبة: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106].
2- وكل الناس يهرب منه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8].
3- ولما جاء ملك الموت لموسى عليه السلام فقأ عينه
4- وهذا يظلُّ معلَّقًا في قلب الإنسان مهما طال عمره؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ عَلَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الْحَيَاةِ، وَحُبُّ الْمَالِ"[4].
5- لكن لابد من الموت: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] تحيد: تهرب.
ثالثًا: أهم ما في المسألة هو الاستفادة في الدنيا من هذه العقيدة:
وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الموقف؛ إذ قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39].
وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا!
الناس في غفلة:
1- يزهدون في الأعمال الصالحة.
2- ينهمكون في المعاصي.
3- يتقاتلون على الدنيا.
4- ينسون الآخرة.
وفجأة يأتي الموت، ولا رادَّ له: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 61، 62].
أيها المسلمون: اقرءوا كثيرًا عن الدار الآخرة: ما نعيشه في الدنيا هو لهو ولعب، والحياة الحقيقية المستدامة بلا موت ولا انقطاع هي حياة الآخرة. قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ[5] لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64][6].
[1] الترمذي: كتاب صفة الجنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في خلود أهل الجنة وأهل النار (2557)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألباني: صحيح، انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته، 2/ 1330.
[2] (فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ)
[3] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة مريم (4453).
[4] مسلم: كتاب الزكاة، باب كراهة الحرص على الدنيا (1046).
[5] الحيوان: الحياة الدائمة بلا انقطاع.
[6] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك