التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الصراع بين بني الأحمر وبني مرين، مقال د. راغب السرجاني، يتناول خيانة ابن الأحمر (الفقيه) وتحالفه مع ألفونسو ضد يعقوب المريني ومن بعده ابنه يوسف بن يعقوب
المنصور المريني يدخل مالقة
في أثناء رجوع يعقوب المريني -رحمه الله- يموت حاكم مالقة –وهو من بني أشقيلولة الذين كانوا يسيطرون عليها- فيتولى عليها ابنه من بعده، إلا أن هذا الابن شرع في النزول عن مالقة لأبي يعقوب المنصور المريني[1]؛ نكاية في خاله ابن الأحمر، بل إلى الحد الذي قال فيه للمنصور: إن لم تحزها أعطيتها للفرنج ولا يتملكها ابن الأحمر، وكان من الطبيعي –والحال هذا- أن يسارع المنصور لأخذها والاستجابة لبني أشقيلولة[2].
ولا شكَّ أن موقفه كان في غاية الصعوبة؛ إذ هو الحريص دائمًا على طمأنة محمد الفقيه واسترضائه؛ فلقد كان هذا الأخير لديه من البطانة مثل ما كان للمعتمد بن عباد من قبله، وهم ممن يرضى بالنزول للنصارى ولا يرضى أن ينزل إلى الجزيرة، أمثال يوسف بن تاشفين ويعقوب المريني!
ولا شكَّ -أيضًا- في أن المنصور المريني لم يشأ أن تضيع جهوده في الجهاد سدى، ولا بُدَّ أنه فكر في ضرورة أن يكون لبني مرين قوات في أرض الأندلس يمكنها ردع المحاولات النصرانية، كما يمكنها شلَّ الأفكار التي قد تجول في رأس ابن الأحمر حول التحالف مع النصارى، أو النزول لهم عن مزيد من الأراضي.
ولقد كان للمنصور المريني قوات في جزيرة طريف على الساحل الجنوبي لبلاد الأندلس، اشترط نزول ابن الأحمر عنها لدى استدعائه له للغوث والإنجاد؛ وذلك حتى تكون هذه القوات مددًا قريبًا لبلاد الأندلس إذا احتاجوا إليهم في حربهم ضد النصارى، وسبيلاً سهلاً للعبور المغربي إلى الأندلس.
ابن الأحمر والخيانة العظمى
وهنا كرر ابن الأحمر (محمد بن الأحمر الفقيه) سيرة المعتمد بن عباد، وخشي أن تتكرر قصة يوسف بن تاشفين حينما ساعد ملوك الطوائف ثم حاز الأندلس بعدئذٍ وأدخلها في حكم المرابطين[3]، ففكر عازمًا على أن يقف حائلاً وسدًّا منيعًا حتى لا تُضم بلاد الأندلس إلى دولة بني مرين.
ويا لهول! هذا الفكر الذي كان عليه ذلك الرجل الذي لُقب بالفقيه الذي ما هو بفقيه! فماذا يفعل إذًا لكي يمنع ما تكرر في الماضي، ويمنع ما جال بخاطره؟ بنظرة واقعية وجد أنه ليست له طاقة بيعقوب المنصور المريني، فماذا يفعل؟!
كرر سيرة الخيانة ذاتها؛ ومثلما أرسل المعتمد بن عباد من قبل إلى ألفونسو السادس، فعل محمد بن الأحمر الفقيه (!!) مع ألفونسو العاشر ملك قشتالة، واستعان به في طرد يعقوب المريني من جزيرة طريف[4].
ولم يكتفِ بهذا، بل سارع ابن الأحمر «الفقيه» (!!) في مراسلة الأمير المغربي يغمراسن بن زيان -ملك المغرب الأوسط، والعدو اللدود للسلطان يعقوب المريني[5]- للمحالفة على المنصور المريني.
ابن الأحمر يدخل مالقة على حراب الصليبيين
وعلى موعد مع الزمن يأتي ملك قشتالة بجيشه وأساطيله ويحاصر جزيرة طريف، وما أن يسمع بذلك يعقوب المنصور المريني -رحمه الله- حتى يُريد أن يعبر من توه إلى الأندلس، إلا أن حوادث المغرب ومضايقات يغمراسن تمنعه وتعوقه، حتى لقد بلغ الحال بالمسلمين المحاصرين في الأندلس أنهم «قتلوا الأصاغر من أولادهم خشية عليهم من معرة الكفر»[6]، فأغمه هذا، فأرسل ابنه الأمير أبا يعقوب على رأس أسطول ضخم في أوائل سنة (678هـ=1279م)، وتُحَدِّثنا مصادر التاريخ عن فقيه من سبتة اسمه أبو حاتم العزفي أبلى البلاء الحَسن في حشد الناس، واستنفارهم للجهاد؛ حتى ركب أهل سبتة جميعًا للجهاد من الفتى الذي بلغ الحلم فما فوقه، وتوفرت همم المسلمين على الجهاد وصدقت عزائمهم على الموت[7].
واستطاع ابن الأحمر في ظل هذه الكوارث التي أثارها للمارينيين بالمغرب والأندلس أن يأخذ مالقة ويستولي عليها ويُدخلها في حكمه، وعندئذٍ تكون الأمور قد عادت إلى ما كان يحب ويرغب من إخراج المرينيين من مالقة.
يبن الأسطول الإسلامي والأسطول النصراني
ثم بدا لابن الأحمر -مما وصل إليه حال المسلمين المحاصرين من جيوش النصارى- أن النصارى يستعدون لأخذها، وليس فقط إخراج المرينيين منها، وأنها على وشك أن تقع بأيديهم بالفعل، فندم على ما صنع ونبذ عهده وأعد أساطيله وجعلها مددًا للمسلمين، واجتمعت الأساطيل بميناء سبتة تناهز السبعين، فنشبت بين الأسطول الإسلامي وبين الأسطول النصراني معركة هائلة هُزم فيها النصارى، واستولى المسلمون على سفنهم، ونزلوا بالجزيرة، ففرَّ منها النصارى في الحال.
أَمَا كان ابن الأحمر يعتبر بالتاريخ حتى نهايته، فيُبصر فيه نصر يوسف بن تاشفين على المعتمد بن عباد ومعه الفرنج، ولو فعل ذلك لاكتملت له مسيرة القصة فيعتبر بها كلها، بدل أن يخشى من أحد فصولها فيكرر سيرة الخيانة!! إنه نموذج للحاكم الذي تضيع على يديه الممالك والبلاد، وتُمْحَى بسيرته أمجاد سطرها العظماء والفاتحون والمجاهدون الكبار.
وللنقمة التي ملأت قلب الأمير أبي يعقوب –ابن المنصور المريني، وقائد النصر البحري- على ابن الأحمر، فَكَّر في أن يتحالف مع النصارى ضد ابن الأحمر حتى يُذهب ملكه في غرناطة، وأرسل بهذا إلى أبيه في المغرب، فأنكر عليه المنصور ذلك ورفضه تمامًا.
وفي هذا الوقت نفسه ينقلب النصارى على ابن الأحمر، ويتحالفون مع بني أشقيلولة ويهاجمون غرناطة، إلا أن ابن الأحمر استطاع ردهم عنها.
المنصور المريني يعرض الصلح ثانية
ورغم خطورة الموقف الذي أوقع ابن الأحمر نفسه فيه؛ إذ جعل الكل أعداءه، فتحالف على نصيره الوحيد وهم بنو مرين، فجعلهم عدوًّا جديدًا يضاف إلى النصارى وإلى بني أشقيلولة رغم خطورة هذا الموقف ودقته إذا به يستقبل الرسالة التي تنزل على قلبه بردًا وسلامًا، وهي رسالة من السلطان يعقوب المنصور المريني، يُجَدِّد فيه الرغبة في الصلح والتحالف، ويحذر من خطورة انفصام هذا التحالف على المسلمين في الأندلس ومصيرهم.
وما كان أمام ابن الأحمر الفقيه إلا أن يقبل ويستجيب أمام هذا الخلق الإسلامي الكريم، فيكسب قومًا طالما جاهدوا معه، ونصروه وأعزوه، وعاداهم هو بحماقته، فلم يلبث إلا أن دارت عليه الدوائر[8].
المنصور المريني والصلح مع النصارى
هدأت العلاقات وصَفَت بين المنصور وبين ابن الأحمر لفترة من الزمن، ثم انقلب الحال في قشتالة نفسها؛ إذ ثار سانشو بن ألفونسو العاشر على أبيه، فلجأ ألفونسو العاشر إلى المنصور المريني، الذي جاز إلى الأندلس معاونةً لألفونسو، واستغلالاً لهذه الفرصة في ضرب بعضهم ببعض، ثم جاز مرة ثانية بعد أن مات ألفونسو العاشر، فصالحه النصارى وعقدوا معه عقدًا للهدنة والموادعة[9].
ثم وَفَد سانشو بعد ذلك على أمير المسلمين، وفيها سأل المنصور سانشو أن يرسل إليه من الكتب التي أخذوها من بلاد المسلمين في الأندلس، فأرسل إليه بعد عودته إلى بلاده 13 حملاً[10].
تكرار الخيانة من ابن الأحمر
بعد الموقعة السابقة بعام واحد وفي سنة (685هـ= 1286م) يموت المنصور المريني -رحمه الله- ويخلفه على إمارة بني مرين ابنه يوسف بن المنصور[11]، ومن حينها يذهب ابن الأحمر (الفقيه) إليه ويعرض عليه الولاء والطاعة، وكان قد تم اتفاق بينهما فيما مضى حينما نزل الجيش المغربي إلى الأندلس وهزم الأساطيل النصرانية، وفيه أن ينزل الأمير يوسف بن يعقوب لابن الأحمر عن كل الثغور الأندلسية التابعة لبلاد العدوة المغربية، عدا الجزيرة وطريف، وتفرق الملكان وهما على أكمل حالات المصافاة، ثم كذلك نزل السلطان يوسف المريني لابن الأحمر عن وادي آش بعد ذلك سنة (686هـ) [12].
في هذه الأثناء وبعدها نقض سانشو المعاهدة التي كان أبرمها مع المرينيين؛ مستغلاً انشغال السلطان المغربي بشئون المغرب واضطراباته، فهاجموا البلاد الإسلامية، فعبر إليه السلطان، وغزا بلاده وهزمه، وهنا أرسل سانشو إلى ابن الأحمر يُخَوِّفه السلطان المريني على ملكه، ويسأله محالفته حتى يتمكنوا من منع بني مرين من العبور إلى الأندلس ثانية، وأن ليس إلى ذلك من سبيل إلا أن يستولوا على جزيرة طريف.
سقوط جزيرة طريف بيد النصارى
ومن جديد اعتملت الوساوس في قلب ابن الأحمر، ووقع في الفخ النصراني القاتل، وما درى المسكين أنه يخنق نفسه بيده، فوافق على التحالف مع النصارى شريطة أن يأخذ هو طريف إن استُولي عليها، أما ملك قشتالة فإنه يحصل على ستة حصون من ابن الأحمر، وبالفعل حاصر ملك قشتالة طريف، وكان ابن الأحمر يمده بالمؤن والأقوات، واستمرَّ الحصار حتى أنهك أهلها تمامًا، وسلموا لملك قشتالة على شروط.
وكسابقة وعلى موعد أيضًا مع الزمن يأتي بالفعل جيش النصارى ويحاصر طريف كما فعل في السابق، لكن في هذه المرة يستطيعون أن يسقطوا طريف.
لكن النصارى بعد أن استولوا عليها لم يُعيدوها إليه، وإنما أخذوها لأنفسهم؛ وبذلك يكونون قد خانوا العهد معه، وتكون قد حدثت الجريمة الكبرى والخيانة العظمى وسقطت طريف[13].
وكان موقع طريف هذه في غاية الخطورة؛ فهي تطل على مضيق جبل طارق، ومعنى ذلك أن سقوطها يعني انقطاع بلاد المغرب عن بلاد الأندلس، وانقطاع العون والمدد من بلاد المغرب إلى الأندلس تمامًا.
أبو عبد الله بن الحكيم وأمور يندى لها الجبين
في سنة (701هـ= 1302م) يموت ابن الأحمر الفقيه[14] ويتولى من بعده محمد الثالث، والذي كان يلقب بالأعمش[15]، ويُعرف بالمخلوع، وكان رجلاً ضعيفًا جدًّا، وقد تولى الأمور في عهده الوزير أبو عبد الله بن الحكيم -الذي ما هو بحكيم- حيث كانت له السيطرة على الأمور في بلاد غرناطة([16])، و«انصرف عن موالاة سلطان المغرب إلى موالاة ملك قشتالة»[17].
لم يكتفِ أبو عبد الله بن الحكيم بذلك، لكنه زاد على السابقين له في هذه المحالفات وغيرها بأن فعل أفعالاً يندى لها الجبين، فأوعز أبو عبد الله المخلوع إلى ابن عمه حاكم مالقة بمداخلة أهل سبتة في خلع طاعة السلطان يوسف المريني، والدخول في طاعة ابن الأحمر، ثم جهَّز جيشًا وذهب ليقاتل، تُرى من يقاتل؟! أيقاتل النصارى الذين هم على حدود ولايته، أم من يقاتل؟!
كانت الإجابة المخزية أنه ذهب بجيشه واحتلَّ سبتة في بلاد المغرب، ذهب إلى دولة بني مرين واحتلّ مدينة سبتة حتى يقوي شأنه في مضيق جبل طارق، وتم احتلال سبتة بالفعل وأعلن أبو عبد الله بن الحكيم الأمان لأهل سبتة، وإرساله حكام سبتة المخلوعين إلى غرناطة[18].
وفي سبيل لزعزعة الحُكم في بني مرين، انطلق رجل مغربي كان من المرينيين الذين يقيمون في الأندلس ويُدعى عثمان بن أبي العلاء، انطلق من سبتة إلى البلاد المغربية المحيطة في محاولة للسيطرة عليها؛ أملاً في أن يتمكن من السيطرة على المغرب، وساعده على ذلك مشاكل المغرب الداخلية، ثم ما كان من مقتل السلطان يوسف المريني، وما أدى إليه من فتنة بين ولديه أبي سالمٍ وأبي ثابت، انتهت بانتصار أبي ثابت واستيلائه على العرش، ثم مات أبو ثابت بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه أبو الربيع سليمان، وهو الذي هزم عثمان بن أبي العلاء بعد ذلك فارتد إلى الأندلس من جديد[19].
وإنه -بلا شكٍّ- غباء منقطع النظير، أمر لا يقرُّه عقل ولا دين، لكن هذا ما حدث، فكانت النتيجة أنه بعد ذلك بأعوام قليلة استغل النصارى الثورة التي قامت على أبي عبد الله المخلوع وتولية أخيه أبي الجيوش نصر بدلاً منه، فزحفوا بجيوشهم نحو جبل طارق حتى سقط في أيديهم في سنة (709هـ= 1309م)، فعُزلت –بهذا- بلاد الأندلس عن بلاد المغرب، وتركت غرناطة لمصيرها المحتوم[20].
[5] بل إن يغمراسن هو الأمير الذي منعت معاركه المرينيين من سرعة الاستجابة لغوث الأندلسيين من قبل؛ حتى إنه رفض رسالة المنصور المريني بعقد هدنة بينهما لأنه سيتوجه إلى الأندلس التي تستغيث من بلاد النصارى، فما أمكن المنصور المريني أن يتوجه للجهاد مع الأندلسيين إلا بعد أن انتصر على يغمراسن هذا في معارك قوية، وبعد وقت ثمين ذهبت فيه من المسلمين الأندلسيين بلاد وأرواح وسبايا.. نسي ابن الأحمر هذا وأرسل ليغمراسن ليحالفه ضد المنصور المريني.
التعليقات
إرسال تعليقك