ملخص المقال
ما أكثر الفرص التي يضيعها المسلمون، وتضيع بسببها الانتصارات العظيمة والإنجازات المهمة، وهذه نماذج من تلك الفرص
في عام 490هـ/ 1096م وصلت الأخبار إلى السلطان (قلج أرسلان) -صاحب (قونية) في بلاد الروم (تركيا اليوم)- بأن جمهورًا غفيرًا من الفرنجة في طريقهم إلى القسطنطينية، لم يستبشر السلطان الشاب بهذا الخبر، وخشي منه أسوأ العواقب، وقام بمناوشات مع القوات الصليبية، ولكنهم استطاعوا أخيرًا الوصول إلى مدينة أنطاكية في بلاد الشام، وهي أول مدينة إسلامية تحاصرها الحملة الصليبية الأولى، صمدت أنطاكية، وصمد قائدها المدافع عنها (ياغيسيان)، صمدت المدينة لمدة تسعة أشهر، وهي تستنجد بملوك الدول المجاورة: ملك دمشق (دقاق)، وملك حلب (رضوان)، وابن منقذ صاحب قلعة شيزر، وابن ملاعب صاحب حمص، وبالسلطان السلجوقي، وبالخليفة العباسي.
ولكن ما من مجيب! فكل واحد من هؤلاء كان يخاف من الآخر، ويخشى من حدوث انقلاب عليه أثناء غيابه، ولكن الأسوأ من كل ذلك هو ضعف الحس الجهاديّ، والشعور بالمصلحة العامة. كانت الإرادات والعزائم في وهنٍ شديد؛ فلم ينظروا إلى عواقب نجاح الحملة الصليبية على العالم الإسلامي وعلى أنفسهم.
كان صاحب الموصل هو الوحيد الذي وصل إلى أسوار أنطاكية، ولكنه جاء متأخرًا بعد أن سقطت أنطاكية بيد الأعداء، ومع ذلك كانت هناك فرصة؛ لأن الصليبيين وجدوا المدينة فارغة من المؤن، فدبَّ فيهم الجوع حتى أكلوا الجلود والأعشاب، ولكن حاكم الموصل لم يستغل هذه الفرصة، وسقطت أنطاكية!
بعد عشر سنوات أو أكثر عزم سلطان السلاجقة على مقاومة الفرنجة، فكلف صاحب الموصل الأمير (مودود) القيام بذلك، وكان هذا الأمير معروفًا بالتقوى وحب الجهاد في سبيل الله، فجاء إلى الشام والتقى مع صاحب دمشق ( طغتكين) وقررا مهاجمة الصليبيين، كان ذلك في عام 507هـ/ 1113م، وفي مكان يسمى (الأقحوانة) -قريب من حطين- نشبت المعركة، وقُتل من الفرنجة ألفان من أبطالهم وأعيانهم، وغرق كثير منهم في بحيرة طبرية، ولحق المسلمون بالفلول المهزومة التي لجأت إلى غربي طبرية، وظلت قابعة هناك ستة وعشرين يومًا، واجتمع بدو المنطقة عازمين على إبادتهم، وبلغت طلائع المسلمين بيت المقدس ويافا، ولكنهم اكتفوا بالمناوشات ولم يكمل الفتح، وضاعت الفرصة مرة ثانية.
وننتقل إلى العصر الحديث إلى عام 1921م حيث كان الزعيم الريفي (محمد بن عبد الكريم الخطابي) ينتصر على إسبانيا انتصارات هائلة؛ ففي معركة (أنوال) فقد الأسبان (17000) من جنودهم وضباطهم، ودوَّت أخبار هذه المعركة جميع أنحاء العالم، ولم يكن أي جيش أوربي قد ذاق مثل هذه الهزيمة الساحقة، وانضمت فرنسا إلى إسبانيا، وفتحت جبهة مع الريفيين عرضها (600) كم، وصبر الريفيون صبرًا يفوق الوصف، وتحملوا ما لا يُطاق من البرد، ومن قصف المدفعية والطائرات، وسقط سبعون من معسكرات العدو، واضطربت فرنسا، وقامت وقعدت، وتحالفت بريطانيا معهما فقامت الدول بحصار (أجدير) عاصمة ابن عبد الكريم، وضربوا المدينة الصغيرة بالقنابل والغازات السامَّة، واضطر الأمير (محمد بن عبد الكريم) للتسليم، ونفي إلى جزيرة في المحيط الهندي.
دخلت إسبانيا إلى (أجدير) وما تزال تحتل سبتة ومليلة حتى اليوم، ويكتب (شكيب أرسلان) معلقًا على أحداث الريف: "وأما العالم الإسلامي فقد تخلى بأجمعه عن الريف، ولم يفكر في معاضدته بشيء، وذلك للأسباب الآتية:
1- انصراف كلٍّ من الأقطار الإسلامية إلى همِّ نفسه.
2- فشو الاعتقاد في تركيا ومصر، وقسم من بلاد العرب؛ بأن سياسة الاتحاد الإسلامي شيء مضر بالمسلمين!! وهذا رأي الحزب الذي تحالف مع الإنجليز، وتمنى فوزهم في الحرب العالمية الأولى.
3- الاعتقاد بكون نجاح الريفيين مؤقتًا، وأن لا بُدَّ أن تكون الطائلة الأخيرة للأسبان"[1].
وهكذا ضاعت فرصة لهزيمة الدول الاستعمارية في العصر الحديث، وتكتب جريدة (الديلي اكسبرس): "لقد نفي عبد الكريم، وسيطول الزمن حتى يأتي زعيم آخر أو زعماء آخرون يزدرون بدولتين أوربيتين".
ويكتب الصحفي (فانسنت شين) عن معركة الريف وبطولة ابن عبد الكريم "وصلت وسط عجيج الغارات الجوية التي تقوم بها طائرات فرنسا وإسبانيا، ودخلت على ابن عبد الكريم في خندق بالخط الأمامي، إن روعة شجاعته لا حدَّ لها، إيمانه بعقيدته لم يتغير على الرغم من الأخطار المحدقة به. إن هالات السمو والجلال تحيط به، ليتني كنت أستطيع البقاء معه مدة أطول؛ لأزداد تأملاً وتفكيرًا، ولأتعمق في دراسة هذه الظاهرة البشرية الفريدة".
حقًّا إن صمود الشعب العراقي ظاهرة بشرية فريدة! فهل تتحول أحداث العراق إلى مثل أحداث الانتفاضة، نشاهدها كل يوم وكأنها تحولت إلى شيء (روتيني) معتاد، وليست عملاً يجب أن يُدعم ويؤيد؟! هل من طباع العربي قصر النفس، وليس عنده جلد على الاستمرار؟ مع أن في هدي الرسول r أنه كان يحبُّ العمل الدائم ولو كان قليلاً، ويفضِّله على الكثير المنقطع، كما وُصف في حديث عائشة -رضي الله عنها- تقول: "كان عمله ديمة".
وبالمقابل نجد الغربيين لا يسأمون من طرح مشاريع تقسيم العالم الإسلامي والاستيلاء عليه[2]. لماذا ننسى إخلاف الوعد ونقض العهد عند هؤلاء الغزاة، وقد فعلوه مرات سابقة؟! ألم يعدوا الشريف حسين بن علي بأن يكون ملكًا على العرب إذا ساعدهم في محاربة الدولة العثمانية؟! وبعد أن انتصروا على تركيا أبعدوا الشريف حسين، ونفوه إلى قبرص. وهذه نهاية من يتعاون مع هؤلاء الأعداء، وخاصة مع حلقة الشر المفرغة: أمريكا وحليفتها بريطانيا.
د. محمد العبدة
المصدر: موقع الإسلام اليوم.
التعليقات
إرسال تعليقك