الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
الحرب النبيلة هو مصطلح وضعه الدكتور راغب السرجاني من خلال نظريته (المشترك الإنساني)، وهو يعني الحرب التي يقوم بها الإنسان -أيُّ إنسان- دفاعًا عن
إنَّ نظريَّة "المشترك الإنساني" هي نظرية تهدف إلى التواصل والتعارف عن طر يق المشتركات العديدة بين البشر جميعًا، وتقسم النظرية تلك المشتركات إلى أربع مجموعاتٍ كبرى هي: مجموعة المشترك الأسمى، ومجموعة المشتركات الإنسانية العامة، ومجموعة المشتركات الإنسانية الخاصة، وأخيرًا مجموعة المشتركات الإنسانية الداعمة.
وبعد تفصيل كلِّ هذه المشتركات واستيعابها، وكذلك المفاهيم والنظريَّات والرؤى التي انبثقت منها، يبقى السؤال الأهم بعد كلِّ هذا التفاؤل والنظرة الحالمة المشرقة..
ماذا لو فقه الناس جميعًا هذه النظريَّة؟!
هل ستنتهي الحروب من الدنيا؟
وهل سيأتي زمان يعمُّ فيه السلام فلا ينقطع؟ وينتشر فيه الآمن فلا يتزعزع؟!
هذا -والله- حلمٌ جميل..
لكنَّه للأسف لن يتحقَّق!
هل هذا إحباط؟ أم هو تشاؤم؟
إنَّه ليس هذا ولا ذاك..
إنَّه واقعيَّة!
إنَّ الشرَّ لن ينتهي من الدنيا، وسيظلُّ هناك أناسٌ يُقَدِّمون مصلحتهم الفرديَّة على مصالح العالمين، وسيظلُّ هناك مَنْ يسعى للتصادم ويزرع الكراهية، مهما تكلَّم الوعَّاظ والمصلحون، ومهما اجتهد المفكِّرون والمنظِّرون.
إنَّها سُنَّةٌ من سنن الكون لن يخرج منها البشر إلَّا بنهاية الدنيا؛ بل إنَّ الواقع يشهد أنَّ الأحوال تتَّجه إلى الأسوأ، وقد فَصَّلنا ذلك في فصل الطريق إلى الهاوية، فمعنى ذلك أنَّنا سنرى في المستقبل حروبًا كثيرةً على الرغم ممَّا ذكرناه في النظريَّة، وعلى الرغم من أنَّنا نحسبه مقنعًا، ولكنَّ السنن الكونيَّة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر لمجرَّد أنَّنا "نحلم" بمجتمعٍ جميلٍ لا شقاق فيه، و"نحلم" بأرضٍ سعيدةٍ لا تشهد حروبًا!
أعلم أنَّ هذا كلامٌ قد يُحبط البعض، ولكنِّي أقوله على الرغم من آلامه؛ لكي نتعامل معه تعاملًا واقعيًّا صحيًّا، ولا تكون ردود أفعالنا وهميَّة أو مَرَضِيَّة..
ماذا سيفعل هؤلاء الأشرار الراغبون في الصدام والساعون إليه؟
إنَّ الطمع والجشع يعمي الأبصار فلا يكترث هؤلاء بمصالح الناس، ولا بآمالهم، ولا بآلامهم، ومن ثَمَّ يتعدَّون على المشتركات الإنسانيَّة، وهي أمورٌ -كما ذكرنا- فائقة الأهميَّة لكلِّ إنسان، ولكلِّ أُمَّة، ولكلِّ حضارة، فعند التعدِّي عليها لا بُدَّ أن تنشأ حرب، ولا بُدَّ أن يحدث صدام.
وأنت أيُّها الإنسان الطيِّب!
ماذا لو تعدَّى أحد الظالمين على أحد حقوقك في الحياة؟
ماذا لو تعدَّى أحدهم على أحد المشتركات الإنسانيَّة العشرين التي ذكرناها في هذه النظريَّة؟
هل الخُلق الحميد يفرض عليك أن تحلم عليه؟ وأن تتركه يعبث بمقدَّراتك ومقدَّرات أُمَّتك؟ أم أنَّ الخلق الحميد هنا يفرض عليك أن تُقاتله؟ وأن تقف في وجهه؟ وأن تحمي حقوقك وحقوق أُمَّتك؟ وأن تدافع عن المشتركات الإنسانيَّة التي وهبها الله لك؟
إنَّني أرى أنَّ الحرب في هذه الحالة ضرورة!
بل إنَّني أُسمِّيها "الحرب النبيلة"!
وهذا أمرٌ منبثقٌ -أيضًا- من النظريَّة..
فالحرب النبيلة -في تعريفي- هي الحرب التي يقوم بها الإنسان -أيُّ إنسان- دفاعًا عن المشتركات الإنسانيَّة العشرين، إذا تعدَّى عليها أحد..
أمَّا الحرب الخبيثة فهي الحرب التي يتعدَّى بها أيُّ إنسانٍ على أحد المشتركات الإنسانيَّة العشرين لأيِّ بشرٍ على وجه الأرض!
وفي مقابل الحرب الخبيثة لا بُدَّ أن تُوجد حربٌ نبيلة..
والخبيث هو من بدأ، والنبيل هو مَنْ يَرُدُّ العدوان..
وقد استنكر الله عز وجل على المسلمين تردَّد بعضهم في قتال مَنْ تعدى على مشتركاتهم الإنسانيَّة فقال: )أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ( [التوبة: 13]، إنَّ الكلام في منتهى الوضوح.. لقد تعدَّى هؤلاء القوم على بعض المشتركات الإنسانيَّة فكان لا بُدَّ من القتال..
تَعَدَّوْا على خُلق الأمانة فخانوا العهد، وخُلق الأمانة من الأخلاق الأساسيَّة، وهي من المشتركات الإنسانيَّة العامَّة.
وتَعَدَّوْا على الاحتياجات الأساسيَّة للرسول القائد صلى الله عليه وسلم، أو لأيِّ إنسانٍ في الأُمَّة الإسلاميَّة، فهَمُّوا بإخراجه من داره وأهله وماله في المدينة، بل فعلوا ذلك من قبلُ عندما أخرجوه وأصحابه من مكة المكرمة، والاحتياجات الأساسيَّة من المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، بل إنَّهم تَعَدَّوا على المشترك الأسمى، وهو العقيدة، ففتنوا المسلمين عن دينهم.
ثُمَّ الأوضح من ذلك والأجلى أنَّهم هم الذين بدءوا الصدام: )وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ(.
إنَّ الذي بدأ القتال هو الأخبث.. والنبيل هو مَنْ يُقاومه..
وليس في الشرائع السماويَّة ما يدعو أتباعها أن يبدءوا النَّاس بالحروب، حتى لو كان الناس على غير دين الله عز وجل، حتى لو كانوا يشركون معه غيره، ويكفرون به، أو حتى يُنكرون وجوده! وما أعظم ما قاله فقهاء المالكيَّة والحنفيَّة والحنابلة، من أنَّ مناط القتال هو الحرابة والمقاتلة والاعتداء وليس الكفر! فلا يُقتل شخصٌ لمجرَّد مخالفته للإسلام، إنَّما يُقتل لاعتدائه على الإسلام، وغير المقاتل لا يجوز قتاله، وإنَّما يلتزم معه جانب السلم[1].
الحرب النبيلة إذًا هي حرب الدفاع عن المشتركات الإنسانيَّة..
بل إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يرفع كثيرًا من أجر من حارب هذه "الحرب النبيلة"!
فلم تَعُد القضية مجرَّد "جواز" له أن يُقاتل، بل إنَّه يرفعه لدرجة الشهداء، وهي درجةٌ ساميةٌ سامقةٌ في الإسلام، فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"[2].
فهذا الشهيد دافع في كلِّ مرَّةٍ عن شيءٍ من المشتركات الإنسانيَّة، فهو في الأُولَى يُدافع عن ماله؛ أي: عن مشترك التملُّك وهو من المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، والثانية يُدافع عن دينه، وهو المشترك الأسمى، وفي الثالثة والرابعة يُدافع عن حياته وحياة أسرته وهو من المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، وفي ذلك يُدافع عن كرامته، وعن حريَّته، وهما كذلك من المشتركات الإنسانيَّة العامَّة؛ فهو في كلِّ هذه الحالات محقٌّ في حربه، نبيلٌ في مقصده، ولو قُتِلَ صار شهيدًا.
بل إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُوسِّع دائرة الدفاع عن المشتركات الإنسانيَّة في لفظٍ جامعٍ شاملٍ فيقول: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"[3]. وهو هنا لا يُشير فقط إلى التعدِّي على خلق "العدل"، وهو من الأخلاق الأساسيَّة في المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، بل يُشير إلى التعدِّي على أيِّ مشتركٍ من كلِّ المشتركات التي أشرنا إليها في النظريَّة؛ لأنَّ أيَّ تعدٍّ على هذه المشتركات يُعتبر ظلمًا، والتصدِّي لهذا التعدِّي شرف، والدِّفاع عن المشترك نبل.
وماذا لو لم يتحرَّك "النبلاء" للدفاع عن مشتركاتهم؟
وماذا لو آثروا الدعة والسكون؟ أو آثروا السلامة والعافية؟!
إنَّ الفساد حينئذٍ ينتشر في الأرض!
إنَّه لا بُدَّ للظالم من نبيلٍ يردعه، ولا بُدَّ للحقِّ من نصيرٍ يظهره، ولا بُدَّ للأرض من كريمٍ يُصلحها، ولا بُدَّ للأمانة من حفيظٍ يحملها.
بغير هذا تفسد الأرض!
وهذا ما ذكره الله عز وجل في قوله تعالى: )وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ( [البقرة: 251].
من فضل الله على العالمين أنَّه خلق نبلاء يقفون في وجه الظالمين.
ولو اختفى هؤلاء النبلاء من حياة البشر في مرحلةٍ من مراحل التاريخ فإنَّها تكون مرحلةً سوداء كئيبةً على الإنسانيَّة، وهذا ما يُصَوِّره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول بعد أن نَبَّه على اللعنة التي أصابت بني إسرائيل لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "كَلَّا والله لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، وَلَتَأْخذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ يَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ"[4].
إنَّ المرحلة التي تسكت فيها الإنسانيَّة على تعدِّي الظالمين على المشتركات الإنسانيَّة، هي مرحلةٌ كئيبةٌ تستحقُّ اللعنة من ربِّ العالمين!
هل أنا أُناقض نفسي بالكلام الذي ذكرتُه عن الحرب النبيلة؟!
هل فهم أحدٌ أنَّ مقصود النظريَّة هو إقرار السلام بين الشعوب مهما كان الثمن؟
هل أنا أُشجِّع النبلاء على الحرب في وقتٍ تحتاج الأرض فيه إلى السلام؟!
وهل من الأولى أن نبحث عن السلام في وقتٍ يبحث فيه أصحاب المصالح الفرديَّة عن الصدام؟
إنَّني أُجيب عن هذه الأسئلة بأنَّني أُريد سلامًا قويًّا وليس هشًّا، وأُريد سلامًا دائمًا وليس مؤقَّتًا، وأُريد سلامًا عادلًا وليس ظالمـًا.
هذا هو السلام الذي أُريده، ومن أجله وضعتُ النظريَّة..
السلام هو اتِّفاقٌ بين طرفين أو أكثر، ولا يُمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون من طرفٍ واحد، والسلام لا يُمكن أن يستمرَّ إلَّا إذا حقَّق مصالح مشتركة للطرفين، والسلام لا يُمكن أن يكون عادلًا إذا صاحبه تعدٍّ على أحد المشتركات الإنسانيَّة.
إنَّه نوعٌ من الهراء والسفاهة أن تدعو المظلوم إلى الجلوس مع الظالم لإقامة علاقة سلام مع "بقاء الوضع على ما هو عليه"!
إنَّ الحقوق لا تسقط بالتقادم، وإنَّ سياسة الأمر الواقع التي ينتهجها الخبثاء والأشقياء هي سياسةٌ لا يُمكن أن يدوم معها سلام.
إذا أردنا أن نُقيم علاقة سلامٍ قويَّةٍ فالبداية هي إعادة "كلِّ" الحقوق إلى أصحابها، ثُمَّ بعدها نجلس جلسةً واضحةً للبحث عن المصالح المشتركة، أمَّا إعادة بعض الحقوق دون الأخرى أو إهمالها بالكليَّة فهذا يقتل السلام في مهده!
إذا فقهنا ذلك أدركنا أنَّ كثيرًا من دعوات السلام في العالم هي في الأصل دعواتٌ خبيثةٌ لا تهدف في الواقع إلى سلامٍ حقيقي، إنَّما هي تهدف إلى ترسيخ الظلم، ونصرة الظالم، وطحن المظلومين وسحقهم، وهذا لا يُمكن أن يكون سلامًا، إنَّما هو صدامٌ في ورق سوليفان!
ولقد جلس عددٌ من كبار العلماء في العالم يبحثون عن إمكانيَّة السلام في العالم، وذلك في مدينة إشبيلية بإسبانيا في سنة 1986م، وأصدروا بيانًا عُرِف ببيان إشبيليَّة قالوا فيه: "السلام ممكن، والحرب ليست حتميَّة بيولوجيَّة، لكنَّها ابتكارٌ اجتماعيٌّ يجب أن يترك مكانه لابتكار السلام"[5]. وهي غايةٌ نبيلةٌ سعى إليها هؤلاء العلماء، ولكن لي استدراكين على هذا البيان.
أمَّا الاستدراك الأوَّل فهو أنَّهم لم يُعَرِّفوا السلام المقصود؛ فكان السلام الذي يُريدون هو وضع الحرب والامتناع عنها فقط، ولم يُشيروا إلى أنَّ عدم إرجاع الحقوق إلى أصحابها هي حالةٌ "ينبغي" ألَّا يكون فيها سلام.
وأمَّا الاستدراك الثاني فهو قولهم: إنَّ الحرب ليست حتميَّة بيولوجيَّة. وأنا أقول بناءً على استقراء التاريخ، وكذلك الواقع: إنَّ الحرب للأسف الشديد حتميَّة بيولوجيَّة! لأنَّه -كما ذكرت آنفًا- سيظلُّ هناك من البشر مَنْ يُرَجِّح مصلحته الفرديَّة على مصالح الناس، ومَنْ يسعى إلى الاعتداء على المشتركات الإنسانيَّة، فبيولوجيًّا لن يقبل الإنسان الطبيعي بهذا، ومن ثَمَّ ستقوم "الحرب النبيلة"، و"يتحتَّم" الصدام!
هل يعني هذا أنَّني أشتهي الحرب؟!
أبدًا؛ ليس الأمر كذلك، فإنَّني على العكس من ذلك تمامًا..
إنَّ من أسعد الفترات التي تمرُّ على البشريَّة هي الفترات التي تنعم فيها بسلامٍ حقيقي؛ يُعيد "كلَّ" الحقوق إلى أصحابها.. نعم هي فتراتٌ قليلة، لكنَّها فتراتٌ سعيدة، وصياغة النظريَّة تدعو إلى إطالة هذه الفترات، وإلى البحث عنها حال غيابها.
ولكنَّني في الوقت نفسه أمقت تحذير الشعوب، وأبغض خداعها؛ ولذلك فأنا أرفض الوعود الكاذبة التي تهدف إلى تركيع الشعوب الضعيفة، وأرفض كذلك الآمال الوهميَّة التي يتعلَّق بها المساكين لعلَّ الأقوياء يتصدَّقون عليهم بلحظة سلام!
دعوني أكون واضحًا جدًّا في هذه النقطة..
لا يقوم سلام حقيقي -في معظم الأحوال- بين قويٍّ وضعيف! إنَّ النوازع الشريرة تتغلَّب على قلوب معظم الناس إذا رأوا ضعيفًا مستكينًا؛ ومن ثَمَّ يطغى القوي ويتكبَّر، وخاصَّةً لو كان مفرطًا في القوَّة، وكان الضعفاء مفرطين في الضعف.
نعم هناك في التاريخ مَنْ كان قويًّا جدًّا ومع ذلك لم يطغَ على حقوق الضعفاء، ولكن هذه أمثلةٌ نادرةٌ لا يُمكن أن نُؤَسِّس عليها نظريَّة، أو نبني عليها منهجًا.
لا يقوم السلام إلَّا بين أنداد!
وويلٌ للضعيف لو جلس على مائدة سلامٍ مع قوي، خاصَّةً إذا كان القويُّ لا يحتكم إلى خُلُقٍ أو فضيلة.
ولذا فأنا أنادي في هذه النظريَّة أهل الأرض جميعًا.. وأقول لهم: كي تحظوا بالسلام الذي تُريدون لا بُدَّ أن تكون لكم القدرة على الدفاع عن مشتركاتكم الإنسانيَّة، ومن هنا فالسعي لإعادة القوَّة الرادعة ليس في الحقيقة سعيًا للحرب، إنَّما هو سعيٌ للسلام.. وهو مفهومٌ دقيقٌ يحتاج إلى تفصيل أكثر، ولعلِّي أفرد له كتابًا مستقلًّا، إن شاء الله.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] الشوكاني: فتح القدير 4/291، والإمام مالك: المدونة الكبرى 3/6.
[2] الترمذي: كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قُتل دون ماله فهو شهيد (1421) عن سعد بن زيد، وقال الترمذي: حديث حسن. وأبو داود (4772)، والنسائي (4095)، وأحمد (1652).
[3] النسائي: كتاب تحريم الدم، باب من قتل دون ماله (4093) عن أبي جعفر، و(4096) عن سويد بن مقرن، وأحمد (2780) وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره وهذا إسناد رجاله ثقات رجال الصحيح إلَّا إنَّه منقطع. وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6/366.
[4] أبو داود: كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي (4337)، والطبراني: المعجم الكبير 10/146 (10290) عن ابن مسعود واللفظ له، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 16/20.
[5] ديفيد أدمز: بيان إشبيليَّة عن العنف، التمهيد لبناء السلام، منشورات المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو – باريس 1989م، ص7، 8.
التعليقات
إرسال تعليقك