الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إن العفو من الأخلاق السامية التي تحملها البشرية في أعماقها منذ القديم بمختلف حضاراتها ودياناتها سواء السماوية أم الوضعية؛ بل كان لا بد للبشرية أن تحملها
العفــو:
ذكرنا في خُلق العدل من الأخلاق الأساسية جزءًا من قول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى)، ولكن الآية لم تتوقَّف عند هذا الحدِّ، حد العدل وهو من الأخلاق الأساسيَّة، بل أضافت: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 178].
لقد أسَّس القرآن الكريم لأخلاق العفو، بعد إقراره وتأسيسه لخُلق العدل؛ فلكلِّ إنسانٍ الحقُّ في أن يقتصَّ ممَّن ظلمه، أو يستردَّ الحقَّ ممَّن آذاه، ولكن -وفي الوقت ذاته- كان من السموِّ والتفضُّل والخير أن يعفوَ صاحب الحقِّ ويُسامح ويتنازل، فهذه مرحلةٌ أعلى وأرقى في الإنسانيَّة والفضل من استرداد الحقِّ وتنفيذ العدل، قال سبحانه وتعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى: 40].
والقرآن الكريم يُثني على من يُمْسِك نفسه ويتحكَّم في غضبه مع القدرة على إنفاذه، ثم يُثني أكثر على مَنْ يسمو أكثر فيُصَفِّي نفسه من الغضب، قال سبحانه وتعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) [آل عمران: 134]. وقال تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى: 37].
ثُمَّ يدعو القرآن إلى مرحلةٍ أعلى؛ وهي ردُّ السيِّئة بالحسنة: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ذلك أنَّ مثل هذا الخُلق يُزيل العداوات والمشكلات من النفوس، ويجعلها أنقى وأصفى، حتى لو كانت متعادية (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34].
هذا الخلق نجده كذلك في الكتاب المقدس، لا سيَّما العهد الجديد منه؛ ففي إنجيل لوقا، يقول المسيح عليه السلام: "لكنِّي أقول لكم أيُّها السامعون: أحبوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم. باركوا لاعنيكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم"[1]. والمعنى نفسه نجده في إنجيل متى بتوسُّع؛ إذ يقول المسيح عليه السلام: "سمعتم أنَّه قيل: تُحبُّ قريبك وتُبغض عدوك. وأمَّا أنا فأقول لكم: أحبُّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم. لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فإنَّه يُشرق شمسَه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين؛ لأنَّه إن أحببتم الذين يُحبُّونكم فأي أجرٍ لكم؟! أليس العشَّارون -أيضًا- يفعلون ذلك؟ وإن سَلَّمتم على إخوتكم فقط فأي فضلٍ تصنعون؟ أليس العشَّارون -أيضًا- يفعلون هكذا؟"[2].
وجاء في رسالة القدِّيس بولس الأولى إلى أهل كولوسي، يقول: "ونتعب عاملين بأيدينا، نُشْتَم فَنُبَارِك، نُضَّطَهد فنحتمل"[3].
ولقد فطن حكماء البشريَّة منذ القديم إلى هذا الأثر الملموس؛ فلقد كان بوذا يردُّ السيِّئة بالحسنة، والكراهية بالحب؛ وإذا أُسِيء إليه في النقاش أو أُسيء التفاهم بينه وبين مَنْ يحاوره، آثر الصمت وكان يقول: "إذا أساء إليَّ إنسانٌ عن حُمقٍ فسأردُّ عليه بوقايةٍ من حُبِّي إيَّاه حبًّا مخلصًا، وكلَّما زادني شرًّا، زدته خيرًا". فإذا جاءه غِرٌّ وأهانه، استمع إليه بوذا وهو صامت، حتى إذا ما فرغ الرجل من حديثه، سأله بوذا: "إذا رفض إنسانٌ يا بُني أن يقبل منحةً تُقَدَّم إليه، فمن يكون صاحبها؟" فيُجيبه الرجل: "إنَّ صاحبها عندئذٍ هو مَنْ قدَّمها". فيقول له بوذا: "إنِّي أرفض يا بني قبول إهانتك، وألتمس منك أن تحفظها لنفسك". ومن أقواله: "على الإنسان أن يتغلَّب على غضبه بالشفقة، وأن يُزيل الشرَّ بالخير... إنَّ النصر يُوَلِّد المقت؛ لأنَّ المهزوم في شقاء... إنَّ الكراهية يستحيل عليها في هذه الدنيا أن تزول بكراهيةٍ مثلها؛ إنَّما تزول الكراهية بالحبِّ"[4].
وممَّا وُجد في تراث النصائح للمصريِّين القدماء قول الحكيم بتاح حتب: "إذا كنتَ قد تسامحت في سابق الأيَّام فصفحت عن شخصٍ بغية هدايته، فدعه وشأنه، ولا تُذَكِّره بفضلك في الغد"[5].
كذلك من أقوال لو - ذره: "إذا لم تُقاتل الناس فإنَّ أحدًا على ظهر الأرض لن يستطيع أن يُقاتلك.. قابل الإساءة بالإحسان. أنا خَيِّرٌ للأخيار، وخَيِّرٌ -أيضًا- لغير الأخيار؛ وبذلك يصير الناس جميعًا أخيارًا؛ وأنا مخلصٌ للمخلصين، ومخلصٌ -أيضًا- لغير المخلصين؛ وبذلك يصير الناس جميعًا مخلصين.. وأَلْيَنُ الأشياء في العالم تصدم أصلبها وتتغلَّبُ عليها.. وليس في العالم شيءٌ ألين أو أضعف من الماء، ولكن لا شيء أقوى من الماء في مغالبة الأشياء الصلبة القويَّة"[6].
وقد ذكرنا في حديثنا عن الأخلاق الأساسيَّة أنَّ هذا الكلام لم يُرْضِ كونفوشيوس، الذي قال: "لتكن العدالة جزاء الإساءة، وليكن الإحسان جزاء الإحسان". والحقُّ أنَّه لا يسعنا أن نرفض هذا الكلام، غير أنَّنا نرى أن يكون للفرد هذا الخيار، الذي يُرَقِّيه في مدارج الإنسانيَّة، ويُؤَصِّل لديه أخلاق الحياة الأجمل.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] إنجيل لوقا 6/27، 28.
[2] إنجيل متى 5/43-47.
[3] رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كولوسي 4/12.
[4] ول ديورانت: قصة الحضارة 3/74، 77.
[5] كمال محرم: الحكم والأمثال والنصائح عند المصريين القدماء، ص40.
[6] ول ديورانت: قصة الحضارة 4/35.
التعليقات
إرسال تعليقك