التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
في سنة 1396م دارت رحى معركة نيكوبوليس، وهي من أهمِّ المعارك في تاريخ الجيش العثماني الذي سرعان ما ألحق الهزيمة النكراء بالجيش الصليبي.
بدأ بايزيد الأول نشاطه الجهادي ضدَّ الصليبيين بفتحه لمدينة ألاشيهير Alaşehir الأناضولية (خريطة رقم 8)، وكانت هذه المدينة هي آخر ممتلكات الدولة البيزنطية في الأناضول، وكان ذلك عام 1390م أو 1391م[1]، وتردَّدت العلاقة بينه وبين الدولة البيزنطية، ومقرها الرئيس في القسطنطينية، بين الحرب والسلام، وانتهى الأمر لصالحه عندما قبل الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني بمعاهدة سلام عام 1391م مع الدولة العثمانية، كان من بنودها أن تدفع الدولة البيزنطية جزيةً كبيرةً إلى العثمانيين، وقبول تأسيس حىٍّ خاصٍّ بالمسلمين داخل القسطنطينية، بالإضافة إلى تمركز قوَّةٍ من الجيش العثماني تبلغ ستة آلاف مقاتل شمال القرن الذهبي إلى الغرب من جالاتا Galata شمال القسطنطينية[2]، وهذا كله يُعطي الانطباع الصحيح بأن القسطنطينية البيزنطية صارت تابعةً للدولة العثمانية وليس حليفةً لها، وكان هذا يُنذر بقرب سقوط الإمبراطورية البيزنطية التليدة.
بعد أن اطمئنَّ بايزيد الأول إلى الوضع مع الدولة البيزنطية تفرَّغ للنشاط العسكري في البلقان، فقام بعملٍ استراتيجيٍّ كبيرٍ للغاية، وهو عبور نهر الدانوب إلى الشمال؛ وذلك في عام 1391م، وكانت هذه هي المرَّة الأولى التي يعبر فيها العثمانيون نهر الدانوب، وأدخل بايزيد الأول بذلك رومانيا الجنوبية، والمعروفة بالإفلاق Eflak (الآن والاشيا Wallachia)، إلى تبعيَّة الدولة العثمانية، وهو تغيُّر تاريخي كبير سيستمرُّ قرابة خمسة قرون (أي إلى سنة 1878م)، وكان انتصار بايزيد كبيرًا على الجيش الروماني في موقعة أرچيسو Argeso؛ بل أُسر في الموقعة الأمير الروماني ميرسيا Mircea[3]، وكان تابعًا لملك المجر، وهذا أحدث اضطرابًا كبيرًا في شرق أوروبا؛ بل في أوروبا كلها؛ حيث كان العبور العثماني لنهر الدانوب يُمثِّل نذير خطرٍ كبيرٍ على كامل أوروبا، خاصَّةً أن الدول الواقعة شمال الدانوب هي دول كاثوليكية، ممَّا يعني تطوُّر النزاع العثماني الأوروبي بشكلٍ كبير؛ حيث لم يعد مقصورًا على الأعداء الأرثوذكس التقليديين للدولة؛ بل شمل نصارى وسط وغرب أوروبا، وهؤلاء من الكاثوليك.
وفي عام 1392م فتح بايزيد مدينة سالونيك اليونانية، وهو الفتح الثاني لها؛ حيث كانت تابعةً لمراد الأول عام 1387م، فيبدو أنها رجعت لليونانيين بعد وفاة مراد الأول، فاستردَّها بايزيد الأول في هذا العام؛ بل فتح شمال اليونان كله، وتوغَّل حتى ضمَّ سكوبيه في مقدونيا في العام نفسه[4].
وفي عام 1393م أنهى بايزيد الأول الملكيَّة البلغاريَّة بدخوله مدينة تارنوڤو Tarnovo، ثم نزعه للقيصر البلغاري إيڤان شيشمان Tsar Ivan Shishman من العرش بعد ذلك بعامين[5].
توترت العلاقة من جديد بين الدولة العثمانية والدولة البيزنطية ممَّا دفع بايزيد إلى بناء قلعة أناضولي حصار Anadoluhisarı على الجانب الآسيوي من المضايق في مواجهة القسطنطينية؛ وذلك عام 1394م[6]، ثم حصار القسطنطينية بدايةً من عام 1395م[7]، وهو الحصار الذي سيستمر إلى آخر عهد بايزيد الأول، وفي عام 1395م -أيضًا- بسط العثمانيون سيطرتهم على مناطق واسعة جنوب الدانوب؛ بل وسيطروا على نقاط التحرُّك من الجنوب إلى الشمال عبر النهر، وصار الوجود العثماني في هذه المناطق كثيفًا ممَّا حرَّك مخاوف ملك المجر سيجيسموند Sigismund، والذي بدأ في التحرُّك في اتِّجاهات دبلوماسيَّة كثيرة تهدف إلى تجميع القوى لمواجهة بايزيد الأول صاحب الطموحات الكبيرة في تكوين إمبراطورية ضخمة في شرق أوروبا.
أثمرت جهود سيجيسموند ملك المجر عن نتائج عظمى؛ إذ استجاب البابا الكاثوليكي بونيفاس التاسع Boniface IX لاستغاثة المجر، وبدأ في تجميع الجيوش الصليبية من غرب أوروبا، فكانت أكبر الدول استجابةً هي فرنسا؛ حيث أرسلت عشرة آلاف مقاتل[8]، ولم تكن أهميَّة الجيش الفرنسي في عدده فقط؛ بل في القادة والأمراء الكبار الذين صاحبوه، واستجابت كذلك عدَّة ممالك أوروبية كبرى لهذه الحملة، فجاء الجنود من إنجلترا، وإسكتلندا، وألمانيا، وبولندا، والنرويج، ومملكتي قشتالة Castile وأراجون Aragon الإسبانيتين، وفرسان تيتون Teutonic Order، ورودس Rhodes، وكذلك من عدَّة جمهوريَّات إيطاليَّة، أهمها چنوة، ودولة البابا، بالإضافة إلى الأسطول البندقي[9].
كان مجموع الجيوش الأوروبية الغربية المشاركة في الحملة يصل إلى سبعين ألف مقاتل، بالإضافة إلى ستين ألف جندي مجري، ممَّا يجعل الحملة تصل إلى مائةٍ وثلاثين ألف مقاتل، وهو رقمٌ كبيرٌ للغاية، خاصَّةً إذا نظرنا إلى الطبيعة المهاريَّة العالية لمعظم الفرق المشاركة في الحملة.
اكتملت العدَّة الصليبية في صيف 1396م، ودار التنسيق بينها وبين إمبراطور الدولة البيزنطية لضرب الجيش العثماني في أكثر من موضع، ووصلت الأخبار إلى بايزيد الأول، فجهَّز جيشًا من سبعين ألف جندي، واتَّجه من فوره إلى تارنوڤو ببلغاريا؛ حيث أتمَّ استعداده هناك[10]؛ بينما زحفت القوَّات الصليبية جنوبًا حتى تجمَّعت في بودا عاصمة المجر، ثم انطلقت من هناك إلى مدينة نيكوبوليس Nicopolis شمال بلغاريا بعد أن عبروا الدانوب جنوبًا لينقلوا المعركة إلى أرض العثمانيين.
تحاول بعض المصادر الغربية تقليل أعداد المقاتلين؛ وذلك للتقليل من أهميَّة المعركة، حتى تُقدِّر جيش الصليبيين بسبعة عشر ألفًا، وجيش المسلمين بخمسة عشر ألفًا[11]، وهذا في الواقع مستحيلٌ نظرًا إلى النتائج الحاسمة التي أفضت إليها المعركة، والتي تؤكد أن الأعداد كانت فيها كبيرةً جدًّا، كما أن هذه المصادر نفسها ذكرت التكوين الأممي للجيش الصليبي، واشتراك عددٍ كبيرٍ من الدول الأوروبية في إعداده، ممَّا يستحيل أن يكون في النهاية مجرَّد سبعة عشر ألف مقاتل!
في 25 سبتمبر 1396م دارت رحى معركة نيكوبوليس[12]، وهي من أهمِّ المعارك في تاريخ أوروبا؛ حيث كان الصدام مروعًا بين الجيش العثماني وأوَّل حملة كاثوليكية صرفة في قصَّة الدولة العثمانية.
لم يكن التنسيق جيِّدًا بين فرق الجيش الصليبي، وكانت الاضطرابات واضحةً بين القيادات المختلفة، ولم يكن الجميع -خاصَّةً الجيش الفرنسي- منصاعًا لقيادة سيجيسموند ملك المجر، كما كانت اللغات الكثيرة للفرق المشاركة في الحملة سببًا في عدم القدرة على التواصل الجيِّد في المواقف الحرجة؛ بينما كان الجيش العثماني متماسكًا ومترابطًا، وكانت إدارته على أعلى درجة من درجات المهارة والكفاية، وسرعان ما بدأت الكفَّة تميل لصالح الجيش العثماني، واستدرج الصليبيين، وخاصَّةً الفرنسيين، في كمائن متعدِّدة[13]، وما هي إلا ساعات حتى لحقت الهزيمة النكراء بالجيش الصليبي.
لقد كان يومًا من الأيَّام التاريخيَّة في قصة أوروبا بشكلٍ عام!
سقط من الجيش الصليبي مائة ألف قتيل! وأُسِر عشرة آلاف، ولم يتمكن من الهرب إلا عشرون ألفًا، كان منهم سيجيسموند ملك المجر، وهنري الرابع Henry IV الذي سيُصبح ملك إنجلترا لاحقًا، والأميرال البندقي موسينجو Mocenigo، الذي سيُصبح رئيسًا لجمهورية البندقية لاحقًا[14]! وصف المؤرخ الإنجليزي بيتر بورتون Peter Purton المعركة بأنها هزيمةٌ كارثيَّةٌ للأوروبيين[15]!
كانت نتائج المعركة وآثارها غير عاديَّة؛ فقد ثبت للجميع أن استئصال الأتراك من أوروبا صار مستحيلًا بعد هذه المعركة، وفقد البيزنطيون الأمل في استرجاع البلقان، وأدرك المجريون أن حربهم مع العثمانيين عسيرةٌ للغاية، فلن يجرءوا على اقتحام الحدود العثمانية في العقود القادمة، وقطعت فرنسا كلَّ أملٍ في أيِّ حربٍ صليبيَّةٍ جديدةٍ على الشرق، وترسَّخت الهيبة للدولة العثمانية في شرق أوروبا؛ بل في أوروبا بكاملها.
لم تكن الآثار كبيرة على أوروبا فقط؛ بل وصلت أخبار الانتصار العظيم إلى بقاع العالم الأخرى، وكان من جرَّاء ذلك أن أنعم الخليفة العباسي، والذي كان يعيش في القاهرة في كنف دولة المماليك، على الزعيم العثماني بايزيد الأول بلقب «سلطان»[16]، وهو لقبٌ كبيرٌ لا يُعطى إلا للقائد الذي لا يتبع أحدًا، وبذلك أعطى شرعيَّةً كبرى لبايزيد الأول جعلته -والعثمانيِّين من بعده- يُطالبون بقيادة كلِّ القبائل التركيَّة الموجودة في الأناضول، والعراق، وإيران، بشكلٍ رسميٍّ ومنطقي.
وطَّد هذا الانتصار أركان الحكم العثماني بشكلٍ كبيرٍ في البلقان والأناضول، وظهرت أمارات القوَّة والهيمنة في أرجاء البلاد، وعمَّ الأمن والأمان في كلِّ المدن والقرى حتى كانت تترك البضائع في الشوارع دون حمايةٍ فلا يتعرَّض لها أحد[17]!
ومع أن بايزيد الأول كان مقرِّبًا للعلماء، ومحبًّا لأهل القرآن، إلا أن الرخاء الكبير الذي صار في البلاد بعد هذه الفتوحات الكبرى والتوسُّعات العظمى، أدَّى إلى فتنة الناس في هذه الدنيا، فانتشرت كثيرٌ من الفواحش، حتى ذكرت بعض المصادر أن الناس كانوا لا يستخفون بالزنا أو شرب الخمر! بل طالت السلطانَ نفسه هذه الآثام، واتجه إلى الترف كذلك؛ حيث كان يأكل ويشرب في آنية الفضة[18] مع النهي الواضح عن ذلك في السنة المطهرة[19].
[1] رستم، أسد: الروم في سياستهم وحضارتهم ودينهم وثقافتهم وصلاتهم بالعرب، دار المكشوف، بيروت، الطبعة الأولى، 1955م. الصفحات 2/255، 256.
[2] Shaw, Stanford Jay: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis: The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808, Volume I, Cambridge University Press, New York, USA, 1976., vol. 1, p. 31.
[3] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول. صفحة 1/104.
[4] أوزتونا، 1988 صفحة 1/105.
[5] Imber, Colin: The Ottoman Empire, 1300-1650: The Structure of Power, Red Globe press, London, UK, Third edition, 2019., p. 11.
[6] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, UK, Basic Books, New York, 2006., p. 24.
[7] Mango, Cyril: The Oxford History of Byzantium, Oxford University Press, New York, First published Edition, 2002., pp. 273-274.
[8] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 1, p. 316.
[9] Tuchman, Barbara W.: A Distant Mirror: the Calamitous 14th Century, Alfred A. Knopf, New York, USA, 1978., p. 548.
[10] أوزتونا، 1988 صفحة 1/107.
[11] Nicolle, David: Constantinople 1453 The End of Byzantium, osprey publishing, Oxford, UK, 2000., p. 37.
[12] Jaques, Tony: Dictionary of Battles and Sieges, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 2007., vol. 2, p. 729.
[13] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م.صفحة 23/33.
[14] أوزتونا، 1988 الصفحات 1/106، 108.
[15] Purton, Peter Fraser: A History of the Late Medieval Siege, 1200-1500, The Boydell press, Woodbridge, UK, 2010., p. 188.
[16] İnal, Halil İbrahim: Osmanlı İmparatorluğu Tarihi, Nokta Kitap, İstanbul, 2007., p. 90.
[17] Boyar, Ebru & Fleet, Kate: A Social History of Ottoman Istanbul, Cambridge University Press, NewYork, USA, 2010., p. 170.
[18] ابن حجر العسقلاني، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد: إنباء الغمر بأبناء العمر، تحقيق: حسن حبشي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية-لجنة إحياء التراث الإسلامي، مصر، 1969م.الصفحات 2/226، 227.
[19] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442ه= 2021م، 1/ 151- 154، لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك