التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كان القرن الثامن عشر من القرون المهمة في تاريخ الإنسانية لأنه شهد تغييرات سريعة جدًّا في أكثر من موضع في العالم.
أوروبا والعالم في القرن الثامن عشر
كان القرن الثامن عشر من القرون المهمة في تاريخ الإنسانية لأنه شهد تغييرات سريعة جدًّا في أكثر من موضع في العالم، ولكننا لن نكون معنيين في هذا المقال بتحليل كل الأحداث المهمة في هذا القرن، إنما سنقتصر على ما سيكون له علاقة بالدولة العثمانية. -أيضًا- سنكتفي بالتعليق على أحداث الثلاثة أرباع الأولى من هذا القرن المهم، لتوافقها مع عهد «الثبات النسبي» الذي افترضناه.
قامت في هذا العهد؛ عهد الثبات النسبي، عدة حروب في أوروبا، في أكثر من مملكة أو إمبراطورية، من أجل التنافس على العرش بعد وفاة زعيم مهم. هذا في الواقع أمر مشتهر، ويحدث في أقطار كثيرة؛ لكن اللافت للنظر في حروب الخلافة succession wars التي حدثت في هذا القرن أنها كانت حروبًا عالمية! بمعنى أن الصراع فيها لم يكن داخليًّا فقط، إنما كانت تتدخل فيه قوى عالمية كثيرة؛ مما كان يُحْدِث نتائج واسعة في القارة الأوروبية، أو في العالم، ولم تكن الدولة العثمانية بعيدة عن تأثير هذه النتائج.
لم تكن حروب الخلافة فقط هي التي تحدث في هذا القرن، إنما نشبت حروب أخرى عالمية بهدف التوسع، أو التجارة، أو مجرد فرض الهيمنة. شهد هذا القرن -أيضًا- ميلاد بعض القوى الجديدة كبروسيا الألمانية، وذهاب بعض القوى التقليدية كالدولة الصفوية، وبولندا، والبندقية. إننا يمكن أن نشير إلى بعض الأحداث الفارقة في هذه الحقبة -بترتيب حدوثها الزمني قدر الإمكان- من خلال العناوين التالية:
أولًا: حرب الشمال العظمى The Great Northern War (100-1721م):
هذه حرب كبيرة للغاية نشبت للتنافس على الهيمنة السياسية، والعسكرية، والتجارية، في منطقة البلطيق شمال أوروبا. كان الطرفان الرئيسان في الحرب هما روسيا والسويد[1]؛ ولكن سرعان ما سحبت الحرب القوى الأوروبية المختلفة ليتسع مضمار الحرب فيشمل وسط وشرق أوروبا بالإضافة إلى شمالها. انضم الأعداء التقليديون للسويد، الدنمارك، والنرويج، إلى الجانب الروسي، كما انضم إليهم جانب من البولنديين، ولاحقًا مملكة بروسيا الناشئة.
أما السويد، والتي كانت القوة الأولى في المنطقة؛ فقد تحالف معها بعض الإمارات الألمانية، وجانب من البولنديين، وقوزاق أوكرانيا، وإلى حدٍّ ما الدولة العثمانية[2]. انتهت المعارك بتفوق روسي واضح، وكانت هذه هي البداية الحقيقية للتواجد الروسي الصلب في السياسة الأوروبية، وانزوى دور السويد كقوة أوروبية مؤثرة، وكذلك بولندا[3]. لم تشترك إنجلترا وفرنسا بقوة في هذه الحروب لانشغالهم بحرب الخلافة الإسبانية. زاد عدد ضحايا هذه الحرب، ما بين قتلى المعارك، والمجاعات، على ثلاثمائة ألف إنسان[4]!
ثانيًا: ميلاد مملكة بروسياPrussia الألمانية (1701-1918م):
وُلِدَت هذه المملكة عملاقة! لم تشهد المراحل التاريخية السابقة أي وجود لكيان ألماني قوي في وسط أوروبا أو غربها، إنما كان الألمان متفرقين في عشرات الإمارات المنفصلة التي تندرج في النهاية تحت حكم إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة، الذي يتخذ ڤيينا عاصمة له، فكان الألمان بذلك تابعين للنمسا في معظم فترات تاريخهم. هذا هو الظهور الأول لكيان ألماني كبير سرعان ما تَضَخَّم في المساحة والقوة حتى صار أحد القوى الأوروبية المؤثرة خلال القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر. سيكون لهذه المملكة دور كبير في أحداث الفترة التاريخية المقبلة. كان الزعيم الأول لهذه المملكة هو الملك فردريك الأول Frederick I[5]، وهو من البروتستانت، ويعتبر من الأعداء التقليدين لإمبراطور النمسا الكاثوليكي المتعصب.
ثالثًا: حرب الخلافة الإسبانية (1701-1714م):
حدثت بعد وفاة الملك الإسباني تشارلز الثاني Charles II في نوفمبر 1700م دون أولاد، فتنازعت على خلافته عائلتان من أكبر العائلات الأوروبية؛ عائلة الهابسبورج Habsburgالنمساوية، وعائلة بوربون Bourbon الفرنسية؛ حيث وقفت كل عائلة منهما خلف مرشح خاص بها. دعم الفرنسيون فيليب الخامس Philip V حفيد الملك الفرنسي القوي لويس الرابع عشر، فوصل للحكم فعلًا؛ لكن اعترضت النمسا، ورشَّحت الأمير تشارلز Charles ابن الإمبراطور النمساوي ليوبولد الأول. كان لكل واحد من هذين المرشحين جذور إسبانية بشكل أو آخر. كانت الإمبراطورية الإسبانية بأملاكها الواسعة في الأمريكتين من أكبر الإمبراطوريات العالمية في هذه الفترة التاريخية، وكانت هيمنة النمسا أو فرنسا عليها دون تقسيم يُخِلُّ بتوازن القوى في أوروبا؛ لذلك انتفضت أوروبا كلها تقريبًا لهذا الحدث، وبدأت في تكوين الأحلاف المضادة، وسرعان ما تطوَّر الأمر إلى قتال عسكري مهول شمل معظم أرجاء المعمورة! كان حلف النمسا يضم أساسًا إنجلترا (بريطانيا العظمى لاحقًا)، وهولندا، وبروسيا، والإسبان الموالين للهابسبورج Habsburg Spain، والدنمارك، أما حلف فرنسا فكان يشمل الإسبان الموالين لفرنسا Bourbon Spain، والمجر، وبعض الإمارات الألمانية، كباڤاريا Bavaria، وكولون Cologne، وأيضًا إمارة ليچ Liège (في بلچيكا الآن).
أما البرتغال وساڤوي Savoy الفرنسية فقد نقلتا ولاءهما من فرنسا في أول الحرب إلى النمسا في آخرها. شملت الحرب معارك عسكرية كبرى في إسبانيا، وهولندا، وإيطاليا، وأميركا، والهند، وغرب إفريقيا، واستمرت ثلاثة عشر عامًا؛ ومع أنها انتهت بتثبيت فيليب الخامس حفيد الملك الفرنسي على العرش الإسباني إلا أن الثمن كان فادحًا؛ إذ سُلِّمت الممتلكات الإسبانية في الأراضي المنخفضة (هولندا وبلچيكا)، ونابولي، وميلانو، وسردينيا إلى النمسا، وسُلِّمت صقلية إلى ساڤوي؛ بينما أخذت بريطانيا منطقة جبل طارق الاستراتيجية في جنوب إسبانيا، والمسيطرة على مضيق جبل طارق المتحكم في الملاحة في البحر المتوسط. أخذت بريطانيا -أيضًا- في هذه الحرب حقوق التجارة في الممتلكات الإسبانية، وتغلبت على غريمتها هولندا، على الرغم من كونهما في حلف واحد، فأخذت جانبًا كبيرًا من حقوقها التجارية في الهند[6].
يمكن القول: إن بريطانيا صارت القوة الأولى في العالم بعد هذه الحرب، خاصة أنه في أثناء هذه الحرب اتحدت إنجلترا مع اسكتلندا في عام 1707م لتصبح بريطانيا العظمى Great Britain[7]، وبذلك تسبق فرنسا التي أتت بعدها في القوة والتأثير. خرجت هولندا بعد هذه الحرب من عداد القوى العظمى؛ بينما أخذت النمسا الفرصة لإكمال المسيرة في أوروبا كقوة كبرى مؤثرة. لم تعد إسبانيا بعد تفككها أوروبيًّا من القوى المؤثرة، وإن كانت ممتلكاتها الخارجية في أميركا ظلت إلى حدٍّ كبير متماسكة. أقل تقدير لضحايا هذه الحرب العالمية يتجاوز 235 ألف قتيل[8]!
رابعًا: حرب الخلافة البولندية (1733-1735م):
نشأت هذه الحرب بعد موت الملك البولندي أوجست الثاني Augustus II؛ حيث انقسم نبلاء بولندا على أنفسهم، فدعم بعضهم ابنه أوجست الثالث Augustus III، ودعم الفريق الثاني ستانيسوف الأول Stanisław I، وهو ملك بولندي سابق. سرعان ما تحول الصراع إلى صدام بين القوى الكبرى في أوروبا. كان الصدام أساسًا بين الغريمين التقليدين في هذه المرحلة؛ الهابسبورج النمساوي مدعومين بروسيا، والبوربون الفرنسي مدعومين بإسبانيا. لم تدخل بريطانيا العظمى هذه المرة في الحرب مع النمسا؛ مما أثر على نتائجها لصالح الفرنسيين والإسبان.
استردت إسبانيا بعد هذه الحرب بعض ما فُقِد منها في حرب الخلافة الإسبانية، مثل نابولي وصقلية، وأخذت فرنسا عدة مقاطعات في اللورين، وإيطاليا. خسرت النمسا عدة أملاك في هذه الحرب. كانت هذه مقدمة لخسائر نمساوية مستقبلية؛ ومع ذلك فقد ربحت روسيا هيمنةً على بولندا؛ إذ صارت هي الحاكم الفعلي للمناطق المطلة على البلطيق، مثل لاتفيا وليتوانيا، على الرغم من كونها على الورق تابعة لبولندا[9]. من العجيب أن معظم المعارك في هذه الحرب، التي نشأت أساسًا من أجل الصراع على العرش البولندي، لم تكن على أرض بولندا، إنما كانت في أقطار أوروبية أخرى! مما يعطي دلالة على أنها كانت مجرد شرارة لإيقاد حرب بين القوى الكبرى في أوروبا آنذاك. انتهت الحرب بولاية أوجست الثالث على بولندا، وكان القتلى ثمانية وثمانين ألفًا[10].
خامسًا: حرب الخلافة النمساوية (1740-1748م):
هذه حرب عالمية حقيقية نشبت بعد موت الإمبراطور النمساوي تشارلز السادس Charles VI، وتدخَّلت فيها معظم القوى الأوروبية المعاصرة؛ حيث دعمت بريطانيا الإمبراطورة ماريا تيريزا Maria Theresa، ابنة الإمبراطور الراحل، وهي المرأة الوحيدة التي حكمت الإمبراطورية الرومانية المقدسة (النمسا وملحقاتها) في كل تاريخها[11]، وشارك بريطانيا في الدعم كلٌّ من هولندا، وسردينيا، وساكسوني، ثم روسيا في النهاية؛ بينما اتجه فريق آخر لرفض ولاية امرأة على عرش النمسا، لمخالفة هذا لقانون تأسيس الإمبراطورية، وتزعَّم هذا الفريق الفرنسيون، ودعمتهم إسبانيا، وبروسيا، وباڤاريا، والسويد، وچنوة، وعدة إمارات ألمانية. دارت معارك كبرى في أنحاء العالم المختلفة بين هذه القوى الجبارة، وانتهى الأمر لصالح بريطانيا وحلفائها؛ مما أعطاها قوةً جديدة في أوروبا، وتم تثبيت الإمبراطورة ماريا على العرش[12]، وإن كانت هذه الأحداث أدَّت دون شك إلى إضعاف قوة النمسا. زاد عدد ضحايا هذه الحرب على ثلاثمائة وخمسين ألفًا[13]. لم تؤدِ هذه النتائج إلى حلِّ المعضلات الناشئة بين القوى الأوروبية المختلفة؛ مما سيقود لاحقًا لحرب «السنوات السبع»، وهي أكبر حرب في القرن الثامن عشر كله.
سادسًا: حرب السنوات السبع The Seven Years' War (1756-1763م):
هذه واحدة من أعظم الحروب في التاريخ! شملت هذه الحرب عدة معارك كبرى في أوروبا، وأميركا الشمالية، وكذلك الوسطى، والجنوبية، بالإضافة إلى معارك في جنوب آسيا، وجنوبها الشرقي، وأيضًا في غرب إفريقيا. شاركت معظم القوى الكبرى -باستثناء الدولة العثمانية، والصين- في هذه الحرب العالمية. كانت الحرب في الأساس بين بريطانيا وفرنسا للتنازع على الصدارة العالمية؛ ولكن سرعان ما تطور الأمر لحرب عالمية كبرى. تُعتبر هذه الحرب من أشدِّ الحروب تعقيدًا؛ حيث تغيَّرت فيها التحالفات التقليدية بشكل مفاجئ، إلى درجة أن كثيرًا من المؤرخين يعتبرون ما حدث فيها هو «ثورة دبلوماسية» Diplomatic Revolution على الأعراف المعتادة[14].
في هذه الحرب انضمت النمسا لأول مرة في تاريخها إلى غريمتها التقليدية فرنسا في حربها ضد بريطانيا، وانضمت بروسيا الألمانية إلى بريطانيا، وبذلك شاركت أكبر أربع قوى أوروبية في حرب واحدة. سرعان ما جذبت الحرب روسيا القوية، فدخلت في البداية في حلف فرنسا؛ ولكنها غيَّرت اتجاهها في نهايات الحرب، وتحالفت مع بريطانيا! عكست هذه الحرب حالة الاحتقان الشديدة التي كانت تعاني منها أوروبا في هذا القرن كله. لقد حدثت مناوشات يسيرة بين بريطانيا وفرنسا في مستعمراتهم المتجاورة في أميركا الشمالية، وتزامن ذلك مع حدوث صراع يسير كذلك بين بروسيا والنمسا حول حيازة إقليم سيلزيا Silesiaالصغير، ومعظمه في بولندا الآن.
كان هذان الحدثان؛ صراع أميركا، وصراع سيلزيا، شرارة أشعلت الحرب بين القطبين الكبيرين بريطانيا وفرنسا، مع تسارع القوى الأخرى للدخول في حلف أحدهما. كان المعظم يتجه إلى حلف فرنسا لتقليص التضخم الإنجليزي المخيف في هذا القرن. ضمَّ حلف بريطانيا عدة إمارات ألمانية صغيرة، وكذلك البرتغال؛ بينما أسرعت إسبانيا، والسويد، وساكسوني، للدخول في حزب فرنسا[15]. دخلت إمبراطورية المغول الهندية في الحرب كذلك إلى جانب فرنسا على أمل الخلاص من الطموح الإنجليزي في السيطرة على الهند[16].
انتهت المعارك المعقدة بانتصار إنجليزي ساحق، وهزيمة فرنسية مذلة، وهذا أدَّى إلى تغيير موازين القوى الأوروبية بشكل سافر؛ حيث صارت بريطانيا هي القوة الأولى في أوروبا -بل في العالم- بلا منازع[17]، على الرغم من وصولها إلى حافة الإفلاس، وارتفاع معدلات البطالة والفقر[18]. تضاءل النفوذ الفرنسي بشكل كبير، وإن ظلت فرنسا إحدى القوى العظمى على الساحة. عقد المتصارعون معاهدة صلح في باريس في 10 فبراير 1763م وافقت فيها فرنسا على تسليم بريطانيا عدة ممتلكات فرنسية كبرى تشمل كندا، وكل الأراضي شرق نهر المسيسيبي، ومعظم جزر البحر الكاريبي، ومعظم جزر شمال شرق أميركا، والسنغال، وكل المستعمرات الفرنسية في الهند باستثناء خمسة فقط، مع تدمير القلاع في هذه المستعمرات الخمسة المتبقية لفرنسا لتصبح عديمة الجدوى عسكريًّا! -أيضًا- ستقوم إسبانيا -بأمر فرنسا- بتسليم بريطانيا ولاية فلوريدا Florida الأميركية، في مقابل أن تعوِّضها فرنسا بالتنازل لها عن كل الأراضي الأميركية الواقعة غرب المسيسيبي، ومنها ولاية لويزيانا كلها! ستقوم فرنسا كذلك بإفراغ ألمانيا كلها من أي جندي فرنسي، كما ستوافق على اعتبار هانوفر الألمانية ملكًا شخصيًّا لملك بريطانيا. لم تحصل فرنسا في هذه المعاهدة المعقودة في عاصمتها إلا على بعض الحقوق التجارية، والتي تشمل الصيد في نيو فاوند لاند، وخليج سانت لورنس (شرق كندا)، وكذلك تجارة العبيد في السنغال[19].
بالإضافة لهذه الخسارة الفرنسية العظيمة فقد تأثر اقتصادها بشدة نتيجة الإنفاق العسكري الكبير خلال السنوات السبع، ومع ذلك فقد ظل متماسكًا، ولم تقع الدولة في ديون خارجية[20]. بالنسبة لبروسيا فإن بداية الحرب كانت كارثية لها، إلا أن ملكها فردريك الثاني المعروف بالعظيم Frederick II the Great استطاع أن يتغلب على صعوبات كبيرة، وبفكر استراتيجي متقدِّم تمكن من الانتصار منفردًا على روسيا، والنمسا، وبولندا، وخرجت بروسيا من الحرب كإحدى أهم القوى في أوروبا والعالم. صارت بروسيا بعد الحرب مركزًا لتدريب العسكريين في أوروبا على تكتيكات الحروب، وفنون القتال[21]. على الرغم من خسارة النمسا لإقليم سيلزيا، والذي كان شرارة الحرب كلها، إلا أن الأداء النمساوي في الحرب كان قويًّا؛ مما حفظ لها مكانة في أوروبا، أما البرتغال، والسويد، وإسبانيا، فلم يتقدم وضعهم في أوروبا بعد الحرب، وإن كانت الأخيرة قد استردت المستعمرات التي أخذها منها الإنجليز أثناء الحرب، مثل الفليبين، وكوبا[22].
لم تحقق روسيا انتصارات كبرى في هذه الحرب، وإن كانت قد استفادت منها بشكل غير مباشر من أكثر من وجه؛ فقد تخلصت من فرنسا المنكسرة، وبالتالي صار الطريق إلى بولندا مفتوحًا في ظل تقلص مطامع فرنسا فيها، وأيضًا لفتت الحرب أنظار الروس إلى أوجه القصور في نظامهم العسكري، وإدارتهم التقليدية؛ مما سينعش عدة برامج للإصلاح بعد الحرب، بالإضافة إلى تثبيت روسيا كعنصر فاعل في السياسة الأوروبية[23].
قضت هذه الحرب الشاملة على أرواح ما يقرب من مليون إنسان[24]! هذا غير المجروحين، والمعاقين، والأسرى، فضلًا عن الدمار الذي شمل قارات العالم كلها تقريبًا. قادت هذه الحرب إلى تغييرات فكرية كثيرة، ونشأت بعدها عدة اتجاهات دبلوماسية، وسياسية فريدة. بعد هذه الحرب ستدرك معظم القوى الكبرى خطورة المارد الإنجليزي، وبالتالي سيتجهون إلى التحالف مع القطب الفرنسي. هذا سيكون له آثار كبيرة في السياسة العالمية آنذاك، وسيكون إيذانًا كذلك بميلاد الولايات المتحدة الأميركية عام 1776م[25]، بعد ثلاثة عشر عامًا فقط من انتهاء هذه الحرب! -أيضًا- سيقود الانهيار الفرنسي في هذه الحرب إلى عدة مشكلات تنتهي بالثورة الفرنسية الشهيرة عام 1789م[26]، وما يتبعها من زلازل سياسية، وعسكرية، وفكرية، على مستوى أوروبا كلها والعالم. إنها حرب القرن فعلًا[27].
[1] ديورانت، ول: قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود، وآخرين، تقديم: محيي الدين صابر، دار الجيل-بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم-تونس، 1408هـ=1988م.الصفحات 33/30-32.
[2] Tucker, Spencer C.: A Global Chronology of Conflict: From the Ancient World to the Modern Middle East, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 2, pp. 683-684.
[3] ديورانت، 1988 صفحة 33/40.
[4] Nolan, Cathal J.: Wars of the Age of Louis XIV, 1650-1715: An Encyclopedia of Global Warfare and Civilization, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 2008., pp. 183-193.
[5] ديورانت، 1988 صفحة 37/63.
[6] Black, Jeremy: Eighteenth Century Europe, 1700-1789, Macmillan Press LTD, London, UK, Second Edition, 1999., pp. 327-330.
[7] Speck, William Arthur: A Concise History of Britain, 1707-1975, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 1993., p. 1.
[8] Clodfelter, Micheal: Warfare and Armed Conflicts: A Statistical Encyclopedia of Casualty and Other Figures, 1492-2015, McFarland & Company, Inc., Publishers, Jefferson, North Carolina, USA, Fourth Edition, 2017., p. 73.
[9] Tucker, 2010, vol. 2, pp.729-730.
[10] Levy, Jack S.: War in the Modern Great Power System: 1495-1975, The University Press of Kentucky, Lexington, Kentucky, USA, 1983., p. 90.
[11] Pavlac, Brian A. & Lott, Elizabeth S.: The Holy Roman Empire: A Historical Encyclopedia, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2019., p. 250.
[12] Tucker, 2010, vol. 2, pp. 736-755.
[13] Levy, 1983, p. 90.
[14] Horn, D. B.: The Diplomatic Revolution, In: Lindsay, J. O.: The New Cambridge Modern History, The Old Regime: 1713-1763, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 1957., vol. 7, pp 440-464.
[15] Tucker, 2010, vol. 2, pp. 766-792.
[16] Sen, S.N.: History Modern India, New Age International Publisher, New Delhi, India, Third Editions, 2006., p. 34.
[17] Boyer, Paul S.; Clark, Clifford E.; Kett, Joseph F.; Salisbury, Neal; Sitkoff, Harvard & Woloch, Nancy: The Enduring Vision: A History of the American People, Cengage Learning, 2007., vol. 1, p. 153.
[18] Robinson, Jerry: Bankruptcy of Our Nation, New Leaf Publishing Group, Arkansas, USA, 2009., pp. 155-156.
[19] Tucker, 2010, vol. 2, p. 792.
[20] Wheeler, J. S.: Great Powers, Their Economic History and a Foundation of Sand, Military Review, US Army Command and General Staff College, Vol. 68, No. 7, 1988., p. 82.
[21] Marston, Daniel: The Seven Years' War, Osprey Publishing Limited, London, UK, 2001., p. 90.
[22] Kozlowski, Darrell J. & Weber, Jennifer L.: Colonialism, Infobase Publishing, New York, USA, 2010., p. 34.
[23] Robson, Eric: The Seven Years War, In: Lindsay, J. O.: The New Cambridge Modern History, The Old Regime: 1713-1763, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 1957., vol. 7, p. 465-486.
[24] Levy, 1983, p. 90.
[25] Gipson, Lawrence Henry: The American Revolution as an Aftermath of the Great War for the Empire, 1754–1763, Political Science Quarterly, Academy of Political Science, New York, USA, Vol. 65, No. 1, 1950., pp. 86-104.
[26] Schroeder, Paul W.: The Transformation of European Politics, 1763-1848, Oxford University Press, New York, USA, 1994., p. 67.
[27] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 733- 740.
#لشراء كتاب «قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط» يرجى التواصل مع دار أقلام للنشر والتوزيع والترجمة أو الاتصال على الرقم التالي: 01116500111.
التعليقات
إرسال تعليقك