التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
حكم محمود الثاني إحدى وثلاثين سنة، تنقسم إلى ثلاث مراحل رئيسة، تتميز كل واحدة منها بسمات معينة.
السلطان محمود الثاني (1808-1839م)
ينبغي أن نتعامل مع قصَّة محمود الثاني على أنها قصَّة طبيبٍ ماهرٍ في الرعاية الحرجة يعالج مريضًا مُسِنًّا مشرفًا على الموت، فنجح في أن يكون سببًا في بقاء المريض حيًّا لفترةٍ أطول! إننا لا نتعامل هنا مع مريضٍ يُرجى شفاؤه التام من مرضه؛ فالشيخوخة لا علاج لها! يقول رسول الله ﷺ: «تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ»[1]. والأمم كالبشر، لها فترة شبابٍ وقوَّة، ثم تتَّجه بشكلٍ مؤكَّدٍ إلى الشيخوخة والضعف، ولقد اعتلى محمود الثاني عرش البلاد وهي في هذه المرحلة الأخيرة، ومِنْ ثَمَّ كان دوره هو السعي -فقط- لإطالة عمر الدولة مدَّةً أطول.
نقول هذا الكلام لأن جهد محمود الثاني كان كبيرًا وعظيمًا، مثل سلفه سليم الثالث وأشدُّ، وكان على الرغم من صغر سنه عند تسلُّمه الحكم -ثلاثة وعشرون عامًا[2]- فإنَّه كان فاهمًا لمهمَّته بشكلٍ عميق، وسعى للإصلاح بجدٍّ وهمَّة، وتميَّز عصره بإنجازاتٍ كان لها دورٌ في رسم شكل العقود التي تلت، بل يُعتبر عمله أحد أهمِّ الأمور التي رسمت شكل «تركيا الحديثة» بعد سقوط الدولة العثمانية لاحقًا.
ثم على الرغم من كلِّ هذا الجهد فإن الدولة خسرت في زمانه الكثير من الأرض والقوَّة، وهذا ليس لقصورٍ منه؛ ولكن لأنها كانت كما ذكرنا في فترة الشيخوخة منذ زمن. يُقارنه بعضهم بالقيصر الروسي الشهير بطرس الأكبر[3]؛ من حيث إن إصلاحاته أدَّت إلى تغيير أساسيَّاتٍ كثيرةٍ في الدولة، ولكن من منطلق شباب الدولة وشيخوختها الذي اعتمدناه فإن هذه المقارنة ظالمةٌ لمحمود الثاني؛ لأن بطرس الأكبر استلم حكم روسيا وهي في فترة شبابها، فكان لأعماله الأثر الممتد لفتراتٍ طويلةٍ (مثل السلطان محمد الفاتح في الدولة العثمانية)، بينما استلم محمود الثاني البلاد في فترة شيخوختها فكان من الطبيعي ألا تتحوَّل إلى دولةٍ شابَّةٍ قويَّة؛ لأن هذا في الواقع عكس السنن.
حكم محمود الثاني إحدى وثلاثين سنة، وحدثت في عهده عدَّة أمورٍ عظيمة، ولفهم هذه الفترة الطويلة سنقوم بتقسيمها إلى ثلاث مراحل رئيسة، تتميَّز كلُّ واحدةٍ منها بسماتٍ معيَّنة، ويغلب على كلِّ واحدةٍ حَدَثٌ أو أحداثٌ بعينها، وإن كان هناك دون شَكٍّ تداخلٌ بين الأحداث والمراحل. المرحلة الأولى تمتدُّ عشر سنوات، من 1808م إلى 1818م، وفيها غَرِقَت الدولة في ملفَّاتها القديمة المفتوحة منذ أيام سليم الثالث، وهي ملفَّاتٌ كثيرةٌ ومعقَّدة، وأهمُّها أربعة؛ تمرُّد الإنكشارية، وحرب روسيا، وانتفاضة الصرب، وحرب السعودية. أمَّا المرحلة الثانية فتمتدُّ عبر ثلاث عشرة سنة، من 1818م إلى 1831م، وفيها كان الملفُّ الأكبر هو ملفُّ ثورات اليونان وسعيها للاستقلال عن الدولة العثمانية، وتداعيَّات ذلك على الدولة داخليًّا وعالميًّا.
أخيرًا تأتي المرحلة الثالثة، وتمتدُّ ثماني سنوات، من 1831م إلى 1839م، وكان الشغل الشاغل للدولة فيها هو الصراع مع والي مصر محمد علي باشا. من المهمِّ أن نذكر أن إصلاحات محمود الثاني في المجالات المدنيَّة والعسكريَّة والقانونيَّة وغيرها، كانت في كلِّ هذه المراحل، ولم تكن محدودةً بسنواتٍ معيَّنة، وإن كانت وتيرتها قد زادت في النصف الأخير من عهده. وفي هذا المقال سوف نتحدث عن المرحلة الثالثة:
المرحلة الثالثة: الصراع بين محمد علي باشا والدولة العثمانية، والإصلاحات الداخليَّة
محمد علي باشا وقرار الانفصال عن الدولة العثمانية:
العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقةٌ ديناميكيَّةٌ تفاعليَّة؛ يُقَدِّم فيها الحاكم للمحكومين الرعاية، والحماية، ويكفل لهم العيش الآمن الطيِّب، ويحفظ لهم دينهم، وأنفسهم، وأموالهم، وفي المقابل يُقَدِّم المحكوم للحاكم الطاعة، والنصرة، والتوقير. عندما يحدث خللٌ في هذه العلاقة من أحد الطرفين لا ينبغي توقُّع الحسنى من الطرف الآخر! الحاكم الذي لا يقوى على حماية شعبه ولا رعايته ينبغي ألَّا يتوقَّع منهم الطاعة، والشعب الذي لا يُطيع حاكمه ولا يُوَقِّره ينبغي ألَّا يتوقَّع منه العدل والرحمة. هكذا تسير الأمور الواقعيَّة، أمَّا المثاليَّات التي يستمر فيها طرفٌ على أداء كامل واجبه على الرغم من ضياع كلِّ حقوقه -أو معظمها- فهي غير موجودةٍ في هذه الدنيا.
أقول هذا الكلام كمقدِّمةٍ للحديث عن سعي مصر للخروج من تبعيَّة الدولة العثمانية في هذه المرحلة التاريخيَّة. الواقع إن مصر لم تكن أوَّل الولايات التي تسعى إلى هذا الانفصال غير الرسمي؛ فقد فعلته قبلها الجزائر، وتونس، وليبيا، واليمن، والعراق، وفلسطين، ولبنان، وكذلك فعلتها بعض الأقطار الأوروبية كصربيا، وأخيرًا اليونان. إن الأمر متكرِّرٌ إذن، وهو يؤكِّد أن هناك قصورًا في الحكومة العثمانية أدَّى إلى هذا التكرار في الخروج من التبعيَّة.
لم تكن الحكومة العثمانية تقوم بواجبها ناحية الأقطار التابعة لها، على الأقل في القرن الأخير، لا من ناحية الرعاية، ولا من ناحية الحماية! لم ترفع الحكومة العثمانية الفقر عن كواهل الفلاحين والبسطاء، ولم تُحقِّق لهم الأمن الداخلي في مواجهة عصابات البلطجة من المماليك أو الخارجين عن القانون، ولم توفِّر لهم الحماية ضدَّ الغزو الأجنبي الذي يتعرَّضون له. رأينا في العقود الثلاثة الأخيرة عدم قدرة الدولة على حماية العراقيين من الغزو الإيراني، وعدم قدرتها على حماية الجزائريين من الغزو الفرنسي، وعدم قدرتها -في حالتنا الآن- على حماية مصر من الغزو الفرنسي في 1798م، ثم الإنجليزي في 1807م.
بل الأدهى من ذلك أن جنود الدولة العثمانية -خاصَّةً الإنكشارية قبل القضاء عليهم- كانوا أحيانًا يتسلَّطون بقوَّتهم وسلاحهم على السكان، فينظر إليهم الشعب على أنهم محتلُّون قساة، لا حكَّام رحماء، وعلى أنهم جباةٌ لا رعاة، ولا ننسى أن تمسُّك الشعب المصري بمحمد علي باشا في عام 1805م كان بسبب الظلم الواقع عليهم من عامل الدولة العثمانية خورشيد باشا، ومن فرقة الأكراد التي أرسلتها الدولة إلى مصر عقب خروج الفرنسيين. في ظلِّ هذه الأجواء ينبغي توقُّع سعي الولايات للخروج من التبعيَّة العثمانية دون نظرٍ إلى مسألة الطاعة للحاكم، أو التوقير له.
يمكن أن يكون بعض الحكام -كمحمود الثاني- مظلومين في هذه الحسبة؛ لأنه لم يتخلَّ عن الشعوب التابعة بسبب إهمالٍ أو ظلم، إنما بسبب ضعف إمكانات الدولة في زمانه، وهذه تراكمات سنين لا دخل له هو شخصيًّا فيها. إنه يملك «الرغبة» في حماية الشعوب التابعة له، لكنه لا يملك «القدرة»! والواقع أن الشعوب لا تكترث كثيرًا بالرغبات الحميمة الصادقة عند الحكَّام؛ إنما هي تريد -وهذا حقُّها- تفعيلًا على أرض الواقع لهذه الرغبات، وستسير حتمًا في ركاب مَنْ وفَّر لها الحماية والرعاية ولو كان أقلَّ تقوًى وصلاحًا من غيره، وليس هذا خطأً في الشعوب بل هي فطرةٌ بشريَّة، ولقد أَمَرَ اللهُ أهلَ قريشٍ أن يعبدوه، وأبرز لهم نعمتين عظيمتين كدليلٍ على استحقاقه للعبادة، وهما الطعام والأمن. قال تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: 3، 4]. فإذا كان الله -مع كامل نعمه ورعايته- يلفت نظر الناس إلى نعمتي الطعام والأمن، وجعلهما من أسباب استحقاقه للعبادة، فكيف للحاكم أن يتوقَّع طاعةً من شعبه إذا لم يوفِّر له هذين الأمرين؟
هذه الخلفيَّة ينبغي أن تكون في أذهاننا ونحن نقرأ الصفحات المؤلمة القادمة التي نرى فيها حربًا حقيقيَّةً بين الولاية المصريَّة والدولة العثمانية، فهي ستُساعد كثيرًا في إزالة التشويش الذي يحدث في العادة عند رؤية هذه الصراعات الأهليَّة.
كيف كان محمد علي باشا يُفكِّر في هذا التوقيت؟!
فكَّر محمد علي باشا في الإسراع بضمِّ الشام عسكريَّا إلى مصر تحت قيادته! لم يكن التصرُّف «مثاليًّا»، لكنَّه كان «منطقيًّا»، وله أسبابه في عالم السياسة. أعتقد أن النقاط التالية يمكن أن تُفسِّر سلوك محمد علي بشكلٍ متوازن.
أولًا: الدولة العثمانية ليست في حالة «ضعف» فقط إنما هي في حالة «انهيار». هذا هو شبح الإمبراطوريَّة، وليس الإمبراطوريَّة ذاتها. الأمر انتهى بالفعل منذ أواخر القرن الثامن عشر، وكلُّ محاولات الإنقاذ المبذولة ما هي إلا لإطالة الأجل بضع سنوات أو عقود أخرى. السياسيون المحترفون في العالم كلِّه كانوا يرون هذه الحقيقة، وما تصرُّفات الإنجليز، والفرنسيين، والروس، إلا بناءً على إدراكهم لهذه الحقيقة. في عام 1853م -بعد هذه الأحداث بعقدين أو ثلاثة- أطلق الإمبراطور الروسي نيكولاس الأول -في حوارٍ له مع السفير البريطاني سيمور Seymour- مصطلح «رجل أوروبا المريض» Sick man of Europe على الدولة العثمانية[4]، وكان يقصد الرجل المريض المقبل على الموت، وكان يريد اقتسام تركته مع الإنجليز.
العاطفيُّون المثاليُّون فقط كانوا يرون غير ذلك، ويعتقدون أن الأمل ما زال موجودًا في القيام من جديد وجمع كلمة المسلمين تحت راية «الخلافة» العثمانية، ولم يكن محمد علي باشا من هؤلاء العاطفيِّين، بل كان سياسيًّا محترفًا، ورأى هذا الانهيار قبل نيكولاس الأول بأكثر من عشرين سنة!
ثانيًا: إذا فهمنا الحقيقة السابقة؛ حقيقة «الانهيار» لا «الضعف»، فمن سيأخذ الشام، وغيرها بطبيعة الحال إذا لم يتقدَّم الآن محمد علي لأخذها؟ إنها ستئول إلى إحدى القوى الأوروبية الثلاث؛ روسيا، أو بريطانيا، أو فرنسا (وهو ما حدث بعد أقلَّ من قرن، عندما قسَّم الإنجليز والفرنسيون الشام، والدولة العثمانية، بينهما في اتفاقيَّة سايكس-بيكو عام 1916م). أضف إلى هذا أن هذه المرحلة التاريخيَّة شهدت التدخل الحقيقي للأوروبيين في الشام، بمعنى أن الأمر لم يكن مجرَّد «تَوَقُّع»؛ إنما كان «واقعًا» فعليًّا، رآه محمد علي وغيره عام 1799م عندما غزا نابليون الشام، ومن قبل ذلك في عام 1773م عندما احتلَّت روسيا بيروت، فحدوثه الفترة القادمة أوقع.
ثالثًا: على أفضل تقديرٍ ستئول الشام في حال انهيار الدولة العثمانية وزهد الدول الأوروبية فيها إلى القوى المحلِّيَّة العشوائيَّة. ستتغلَّب عائلةٌ ما على مدينة، وتتغلَّب عائلةٌ أخرى على مدينةٍ ثانية، وينفرط العقد كلُّه. هذا -أيضًا- ليس «توقُّعًا» إنما هو الحال المعاصر فعلًا منذ عقود! ظهر ذلك في عهد ظاهر العمر، ومن بعده أحمد باشا الجزار في فلسطين، والشهابي في لبنان، وآل العظم في دمشق، فالواقع أن محمدًا علي باشا أقوى من هؤلاء جميعًا.
رابعًا: كيف أدركنا أن محمدًا علي باشا أفضل للشام من القوى المحلِّيَّة العشوائيَّة؟ هذا استنبطناه من أداء محمد علي في مصر في فترة حكمه لها (ستة وعشرون عامًا حتى هذه اللحظة في عام 1831م). لقد كان أهمُّ ما يُميِّز التجربة المصريَّة في عهد محمد علي باشا هو بناء الدولة على أساس العلم والمعرفة، والسعي إلى آخر ما توصَّل إليه العلماء في المجال المـُعَيَّن. وهذا في الواقع عكس الوضع في الدولة العثمانية تمامًا، حيث لم يكن العلم في بؤرة اهتمامها في غالب الأحوال. كان حرص محمد علي باشا على العلم والتعليم هو السِّرُّ وراء نجاح تجربته وحفظها في التاريخ. في مجال الجيش أسَّس محمد علي مدرسة الحربيَّة في أسوان عام 1820م، وأتبعها بتأسيس عدَّة مدارس حربيَّة في بني عدي، وفرشوط، والنخيلة، وجرجا، بل أسَّس مدارس إعداديَّة للحربيَّة تُؤهِّل التلاميذ الصغار للدخول في الكلِّيَّات الحربيَّة، وكانت أوَّل هذه المدارس في قصر العيني، ثم أسَّس مدرسةً أكبر في أبي زعبل.
-أيضًا- في المجال العسكري أسَّس عدَّة مدارس متخصِّصة؛ مثل مدرسة البيادة في الخانكة، ومدرسة السواري في الجيزة، ومدرسة المدفعيَّة في طرة، ومدرسة أركان الحرب في الخانكة، ومدرسة البحريَّة في رأس التين بالإسكندرية، إلى أن أسَّس مدرسةً متخصِّصةً في الموسيقى العسكريَّة[5][6][7]! -أيضًا- الصناعات العسكريَّة كانت متميِّزة، ومرَّت مصر من مرحلة استيراد السلاح الحديث إلى تصنيعه؛ فقد أُسِّس أوَّل مصنعٍ للأسلحة والمدافع في القلعة عام 1827م، وكان يُنتج ستمائة بندقيَّة، بالإضافة إلى ثلاثة أو أربعة مدافع، كلَّ شهر، وفي عام 1831م أنشأ مصنعًا آخر في الحوض المرصود بطاقةٍ إنتاجيَّةٍ فاقت تسعمائة بندقيَّة شهريًّا، كما بنى عدَّة مصانع للبارود كانت تنتج أكثر من خمسة عشر ألف قنطار من البارود سنويًّا[8].
كان محمد علي باشا يعتمد في البداية على شراء السفن الحربيَّة الحديثة من أوروبا[9]، ولكنَّه أنشأ ترسانةً مهمَّةً لبناء السفن في بولاق[10]، ثم أتبعها بترسانةٍ كبرى في الإسكندرية عام 1829م[11]. نشر محمد علي باشا المدارس الابتدائيَّة والعليا في البلاد[12]، وهو صاحب الفضل في إنشاء الكلِّيَّات المتخصِّصة؛ فأسَّس مدرسة الهندسة في 1816م، والطب في 1827م، وألحق بها مدرسة الصيدلة بعد قليل، ثم مدرسة الولادة في 1829م، وكذلك أنشأ مدارس الهندسة العسكريَّة في بولاق، والمعادن بمصر القديمة، والألسن بالأزبكية، والزراعة بنبروه، والمحاسبة بالسيدة زينب، والطب البيطري في رشيد[13][14][15][16]، وهو الذي أسَّس أوَّل مطبعةٍ في مصر ببولاق عام 1821م[17].
أمَّا المصانع فكانت على مستوًى متقدِّمٍ جدًّا، وشملت عدَّة مصانع للغزل والنسيج، وللأقمشة، وللجوخ، ولسبك الحديد، وللسكر[18]، وللصابون[19]، ولدبغ الجلود[20]، وفي مجال الزراعة أدخل العلم حتى حصل على نتائج رائعة، وإليه يرجع الفضل في عام 1821م في إنتاج القطن طويل التيلة[21] الذي اشتُهرت به مصر، ونافست به الصناعات الأوروبية، وزرع ثلاثة آلاف فدان من التوت لصناعة الحرير الطبيعي النفيس[22]، واهتمَّ بالريِّ على أساسٍ علميٍّ كذلك، وشَقَّ الترع الكثيرة والقنوات[23]، وهو الذي شقَّ ترعة المحموديَّة التي أمدَّت الإسكندرية بماء النيل[24]، مَّما كان له أكبر الأثر على مشاريع الشرب والزراعة في هذه المدينة الكبرى، وهو الذي بنى القناطر الخيرية لتنظيم مياه النيل[25]، وأنشأ عددًا كبيرًا من الجسور[26].
وانتعشت التجارة جدًّا في عهده، وزادت صادرات مصر من الصناعات والموادِّ الخام حتى تجاوز عائدها مليوني جنيه سنويًّا[27]، وهو أوَّل من أنشأ دارًا للآثار، وأصدر القوانين التي تمنع خروجها من مصر[28]، وعَبَّد الطرق، ونظَّم البريد على أسسٍ علميَّةٍ ناضجة، وهو أوَّل من أرسل بعثاتٍ علميَّةٍ لاكتشاف منابع النيل جنوب السودان[29]. وعلى المستوى الإداري يرجع إليه الفضل في بناء ديوان الحكومة بشكلٍ علميٍّ يشمل عدَّة وزارتٍ مؤسَّسةٍ على الأنماط الحديثة، مثل وزارة الجهاديَّة (الحربيَّة)[30]، ووزارة المعارف (التعليم)[31]، كما أنشأ في عام 1829م دارًا لحفظ الوثائق الحكوميَّة، عُرِفَت بالدفترخانة[32]، وكان حريصًا على القيام بعمليَّات إحصاء السكان[33]، وهو صاحب التقاسيم الإداريَّة المعروفة الآن بالمديريَّات والمحافظات[34]، وهو الذي أسَّس مدينة الخرطوم عندما ضمَّ السودان إلى مصر عام 1823م[35].
-أيضًا- كان محمد علي باشا مهتمًّا جدًّا بالبعثات العلميَّة إلى أوروبا، فأرسل عددًا من الطلاب للمرَّة الأولى في تاريخ مصر في عام 1813م إلى إيطاليا، ثم أتبع ذلك بعدَّة بعثاتٍ وصل مجموعها إلى تسعة، وكانت إلى بريطانيا، وفرنسا، والنمسا، وشملت البعثات كلَّ المجالات العلميَّة تقريبًا؛ في العلوم العسكريَّة، وبناء السفن، والطب، والهندسة، والزراعة، والطباعة، وغيرها من المجالات[36][37]. إنها ثورةٌ علميَّةٌ حقيقيَّةٌ نَقَل بها محمد علي باشا مصرَ نقلةً نوعيَّة، وجعلها من الدول ذات الثِّقَل في المنطقة، ولو كان أبناء محمد علي وأحفاده على شاكلته لصارت مصر إحدى القوى العالميَّة المؤثِّرة، ولكنَّهم كانوا أقلَّ منه بكثير.
هذا هو محمد علي باشا الذي يسعى لضمِّ الشام، فهل هو أفضل أم القوى المحلِّيَّة التي لا تسعى إلا لجمع المال، ويقف طموحها عند ضمِّ مدينةٍ أو مدينتين إلى أملاكهم؟ بل إذا جئتَ إلى الحقيقة فإنه ينبغي أن يُقارَن بمعظم قادة الدولة العثمانية في قرونها الثلاثة الأخيرة، الذين أخرجوا العلم تقريبًا من حساباتهم، اللهمَّ إلا ما شاهدناه من محاولات سليم الثالث ومحمود الثاني، وهي في الواقع محاولاتٌ أقل نضجًا من التي رأيناها في حالة محمد علي باشا!
خامسًا: كان محمد علي «محتاجًا» للشام، وليس مجرَّد راغبٍ في التوسُّع لزيادة الثروة. كانت الشام بالنسبة إليه ذات أهميَّةٍ استراتيجيَّة، وسياسيَّة، وعسكريَّة، واقتصاديَّة. على المستوى الاستراتيجي تُمثِّل الشام منطقةً عازلةً بينه في مصر -دولته الرئيسة- وبين الدولة العثمانية في الأناضول. وجود الشام في يده يحميه في مصر من الهجمات المباغتة، وينقل ساحات القتال مع العثمانيين -إذا حدثت- إلى مناطق بعيدةٍ عن بلده، وهذا ما فكَّر فيه نابليون قبل ذلك عندما احتلَّ مصر؛ حيث اتَّجه مباشرةً لاحتلال الشام لتأمين عمقه الاستراتيجي.
وعلى المستوى السياسي فإنه لا يأمن على حكمه في مصر إلا بالسيطرة على مراكز القوى في الشام، وهي مراكز متعدِّدة، وذات أهواءٍ مختلفة، وولاءاتٍ كثيرة، ولقد اعتاد الساسة المسيطرون على مصر أن يضمُّوا إليها الشام، كذلك يفعل الساسة المسيطرون على الشام؛ فهم يسعون لضمِّ مصر، حتى صارت القوى العالميَّة تتعامل مع مصر والشام كوحدةٍ واحدةٍ في أغلب الأحوال. حرص الطولونيون على حكم القُطرين معًا، وكذلك فعل الإخشيديون، والعبيديون، والأيوبيون، والمماليك، وكذلك العثمانيون في زمن سليم الأول، بل حدث هذا في التاريخ القديم؛ ففعله المصريون القدماء حين ضمُّوا الشام، وفعله الهكسوس الشاميون حين ضمُّوا مصر. ليس مستغربًا إذن أن يصرَّ محمد علي باشا على ضمِّ الشام إلى مصر.
وعلى المستوى العسكري فإنه يريد أن يزيد من عدد جيشه عن طريق التجنيد من بلاد الشام[38] ذات الكثافة السكانيَّة العالية، كما يريد أن يستخدم قلاعها وحصونها الشهيرة، كما تشتهر الشام بالأخشاب التي يحتاجها لبناء سفنه الحربيَّة[39]، وكانت مسألة الأخشاب هذه من المسائل المهمَّة جدًّا لمحمد علي؛ حيث لم تكن الأخشاب المصريَّة بالجودة التي تُمكِّنه من بناء السفن القويَّة، وكان يضطرُّ إلى استيرادها من قبرص، أو السودان، أو الشام، ثم تفاقم الأمر بعد انسحاب الجيش المصري من اليونان فغضب السلطان محمود الثاني ومنع بيع الأخشاب من الإسكندرونة بالشام لمحمد علي، ممَّا وضعه في أزمةٍ عسكريَّةٍ كبرى؛ وذلك لأنه فَقَد أسطوله في اليونان، وكان يحتاج إلى إعادة بناءٍ له، وهذا ما أعطى امتلاك الشام أهميَّةً إضافيَّةً لمحمد علي[40].
وعلى المستوى الاقتصادي تُعتبر الشام مصدرًا لكثيرٍ من الموادِّ الخام غير الأخشاب؛ كالنحاس، والحديد الذي يحتاجه لصناعة المدافع وبقيَّة الأسلحة، ومختلف صناعات الحديد الأخرى، بالإضافة إلى الفحم، والزيوت[41][42]. -أيضًا- تقع الشام على طرق التجارة من آسيا إلى أوروبا، وبها موانئ تجاريَّة مهمَّة للغاية، وتقع على طرق الحُجَّاج القادمين من آسيا أو الأناضول في طريقهم إلى مكة، وبها عددٌ كبيرٌ من الأسواق التجاريَّة المتطوِّرة جدًّا، التي تتعامل على المستوى العالمي، وليس المحلي فقط؛ كأسواق دمشق، وحلب، وبيروت، وطرابلس، وصيدا، وعكا، ويافا[43].
إن الشام بهذه الأبعاد صارت بالنسبة إلى محمد علي باشا «ضرورةً» لا ترفًا!
سادسًا: هناك شواهد على أن محمد علي باشا كان يريد تكوين إمبراطوريَّةً «عربيَّة» تعتمد على تجميع الشعوب الناطقة بالعربيَّة في كيانٍ واحدٍ كبير. هذه الرؤية كانت معروفةً للسياسيِّين العالميِّين في هذه الفترة التاريخيَّة، ويُؤيِّدها ما ذكره چون باركر John Barker، القنصل البريطاني في مصر في عهد محمد علي، من أن جيش محمد علي منهمكٌ في مشروع تحرير الشعوب العربيَّة وجمعها في إمبراطوريَّةٍ عربيَّة، وأن هدفه المباشر هو توطيد سلطته في ولايات عكا ودمشق، ثم التوسُّع بعد ذلك نحو حلب وبغداد عبر كلِّ الولايات العربيَّة[44]. وأكَّد اللورد بالمرستون Lord Palmerston رئيس وزراء بريطانيا هذه الرؤية عندما وصف طموحات محمد علي في عام 1833م قائلًا: «إن هدفه الحقيقي هو تكوين مملكة عربية تضمُّ كلَّ الأقطار التي تتكلَّم بلغة الضاد»[45].
هذا يعني أن محمدًا علي سيسعى يومًا إلى ضمِّ العراق كذلك، ولا يقدر على فعل ذلك إلا بضمِّ الشام. تنقل بعض الروايات حوارًا لمحمد علي باشا مع أحد قادة الجيش الفرنسي عام 1825م، وبعد بداية حرب اليونان، ذكر فيه أنه بعد الانتهاء من هذه الحرب سيضع يده على بلاد الشام بما فيها ولاية عكا، ولن يقف بجيشه إلا على ضفاف دجلة والفرات، وفي بلاد اليمن والجزء الأوسط من شبه الجزيرة العربية. ونُقِلَ عنه كذلك أنه سيكون المدافع عن حقوق الشعوب العربيَّة التي تعيش تحت الحكم العثماني حياة التابع البائس المستضعف[46]، وسواءٌ كانت هذه الروايات صحيحةً أم غير ذلك فإنَّ الواقع يُؤيِّدها.
هذا الفكر -في الواقع- منطقي، بل عميق؛ لأن التجانس بين أبناء هذه الإمبراطوريَّة المرجوَّة كبير، فغالبيَّتهم يدينون بالإسلام، وكلهم يتكلمون اللغة العربيَّة، وليست هناك حواجزٌ جغرافيَّةٌ بينهم، وتاريخهم إلى حدٍّ كبيرٍ مشترك، وعاداتهم وتقاليدهم متقاربة، وفي الجملة كلهم يُعانون من الفقر، والجهل، وبالتالي يحتاجون إلى التغيير، وقد يتحمَّسون له. هذه الإمبراطوريَّة لو تكوَّنت تحت زعامةٍ قويَّةٍ فاهمة قد يكون لها شأنٌ كبيرٌ في التاريخ.
غالب الأمر أن محمودًا الثاني كان يقرأ هذا السيناريو كذلك؛ لأنَّ خطواته في هذه الفترة كانت تُنبئ عن مخاوفه من توسُّع محمد علي باشا في المحيط العربي. يُؤيِّد ذلك بقوَّة أنه قرَّر في أوائل 1831م إعادة ضمِّ العراق للدولة العثمانية بشكلٍ مباشر، فأرسل والي حلب علي رضا باشا بجيشٍ لاسترداد القطر من المماليك، ونجح الوالي الحلبي في أخذ بغداد في سبتمبر 1831م، وعيَّنه السلطان واليًا عليها، ثم في عام 1834م تمكَّن علي رضا باشا من ضمِّ البصرة أيضًا، وبذلك دخلت العراق من جديد في الإدارة المباشرة للدولة العثمانية[47][48].
لقد كان بقاؤها تحت قيادة المماليك المنفصلين عن الدولة العثمانية مغريًا لمحمد علي باشا في اقتحامها كما فعل الإيرانيون قبل ذلك، أمَّا الآن فالوضع صار أصعب عليه. -أيضًا- في عام 1835م قرَّر السلطان محمود الثاني إعادة ليبيا إلى السلطة العثمانية، واستردادها من العائلة القرمانلية، فاستغلَّ اضطراباتٍ داخليَّةً هناك وأرسل الأسطول العثماني الذي تمكَّن من القبض على آخر حكَّام الأسرة القرمانلية، علي باشا يوسف القرمانلي في 28 مايو 1835م، وعادت ليبيا بذلك إلى الحكم العثماني المباشر[49]. لقد حرص السلطان محمود الثاني على ضمِّ العراق وليبيا تحديدًا -فيما يبدو لي- لأنهما قريبتان لدولة محمد علي باشا، وعربيَّتان، فمن المتوقَّع أن يتوسَّع فيهما الوالي الطموح! لا شَكَّ أن هذا الحلم -حلم إمبراطوريَّة عربيَّة تُسيطر بقبضتها على عدَّة أقاليم مهمَّة عالميًّا- سيدفع محمدًا علي باشا إلى كثير من التضحيَّات!
سابعًا: كانت الدوافع النفسيَّة عند محمد علي باشا لتعويض خسارته في اليونان كبيرة؛ لقد خسر الوالي المصري في هذه الحرب عددًا كبيرًا من جنده المدرَّبين بعناية. يُقَدِّر المؤرِّخ العسكري الأميركي مايكل كلودفلتر Micheal Clodfelter عدد القتلى في الجيش المصري في اليونان حتى نهاية 1826 -أي دون ضحايا موقعة ناڤارين البحرية عام 1827م- بستَّة عشر ألف قتيل[50]، أي أن إجمالي القتلى في نهاية معارك اليونان بإضافة شهداء ناڤارين يزيد على عشرين ألفًا، وقُدِّر العدد في حساباتٍ أخرى بثلاثين ألفًا[51].
هؤلاء الجنود ليسوا مرتزقةً يمكن تعويضهم بسهولة؛ إنما كانوا جنودًا نظاميِّين أُنْفِق على تدريبهم جهدًا ومالًا ووقتًا كثيرًا. -أيضًا- خسر محمد علي باشا أسطوله الفخم الحديث الذي أسَّسه بجهدٍ كبيرٍ على آخر ما وصلت إليه التقنيَّات الأوروبية. وفوق ذلك خسر عدَّة علاقاتٍ دبلوماسيَّةٍ مع فرنسا وبريطانيا؛ إذ صار محاربًا لهما في اليونان بعد أن كان متوافقًا معهما، وحيث إنه يحتاجهما في دعم المشاريع الكبرى التي يُنفِّذها في مصر، ويحتاج منهما استقبال البعثات العلميَّة الرسميَّة من مصر، فإن التطوُّر السلبي الأخير سيضرُّ بمصالح دولته، وسيحتاج وقتًا طويلًا لإعادة بناء جسور التعاون أو الثقة مع القوى الأوروبية. المكسب الوحيد الذي خرج به محمد علي باشا من حرب اليونان هي ولايته على جزيرة كريت[52]، وهي -مع أهميَّة الجزيرة الاستراتيجيَّة- ولايةٌ مرهقةٌ ومكلِّفة؛ لأن أهلها يونانيون، وسيداومون على الثورة رغبةً في الانضمام إلى المملكة اليونانيَّة الجديدة، وبالنظر إلى بُعْدِ كريت عن مصر ستُصبح هذه الولاية عبئًا لا مغنمًا.
كان محمد علي يريد من السلطان أن يمنحه الشام التي يريد، وذلك بعد جهده الوافر في اليونان، وأدائه المميَّز لولا اجتماع القوى العالميَّة عليه، ولكن السلطان كان يخشى من تنامي قوَّة محمد علي، فضنَّ بالشام أملًا في تقليص قوَّته، والواقع أنني أرى أنه كان من الأفضل أن يُعطيها إيَّاه سِلمًا، وأن يبني معه جسور ثقة، وأن يحاول أن يحتويه، ليس بالضرورة عن قناعةٍ بأحقيَّة محمد علي في التعويض، وليس عن حبٍّ متبادلٍ بين الزعيمين، ولكن من باب السياسة الواقعيَّة؛ لأن فارق القوَّة كبيرٌ بين الزعيمين لصالح محمد علي باشا، وأي صدامٍ يحدث بين الفريقين سيكون السلطان هو الخاسر الأكبر فيه، فضلًا عن الفتنة المتحقَّقة، والدماء المهدرة، والانشغال بالنفس عن روسيا والغرب.
لهذه الأسباب مجتمعة، وقد يكون لغيرها كذلك، قرَّر محمد علي باشا غزو الشام عسكريًّا، والواقع أنه لا يمكن للباشا إعلان مثل هذه الأسباب الحقيقيَّة لعمليَّة غزوٍ خطرةٍ مثل هذه العمليَّة؛ فلن يكون هذا مقبولًا على الإطارين المحلي والدولي معًا، ولذلك كان السبب المعلن، والحجة القانونيَّة الشرعيَّة، هو إيواء والي عكا عبد الله باشا لستَّة آلاف مصريٍّ هاربين من الجنديَّة والضرائب، ورفضه لإعادتهم[53][54]، ومِنْ ثَمَّ وجبت الحرب[55]! إنها حُجَّةٌ سياسيَّةٌ فقط، وهي حُجَّةٌ واهيةٌ جدًّا؛ لأن الفلاحين لم يهربوا إلى دولةٍ أجنبيَّة؛ إنما فرُّوا من ولايةٍ إلى ولايةٍ في الدولة نفسها (العثمانية)، وأقصى ما يمكن لمحمد علي باشا أن يفعله -رسميًّا وقانونيًّا- هو الشكوى للسلطان محمود الثاني، فيأمر واليَ عكا بإعادتهم، أو يُحقِّق في الأمر لينظر إلى الأصلح في هذه القضيَّة الداخليَّة؛ أمَّا تحريك الجيوش من ولايةٍ إلى ولايةٍ في داخل الدولة نفسها فليس له مبرِّرٌ قانوني؛ إنما هي حُجَّةٌ «للتجمُّل» فقط، وتبقى الأسباب الحقيقيَّة للغزو هي ما ذكرناه، والله أعلم.
يبقى أن نذكر أنه من المؤكَّد أن فريقًا كبيرًا من القرَّاء ينظر إلى الجانب «الأخلاقي» المفقود في هذه القصَّة؛ حيث إن الوضع «المثالي» يقتضي أن يضع محمد علي باشا كلَّ إمكاناته وَفق تصرُّف السلطان محمود الثاني، لأنه -أي محمدًا علي- تابعٌ له، وأن قوَّة محمد علي ينبغي أن تصبَّ في مصلحة الدولة العثمانية، لا في مصلحة محمد علي الشخصيَّة، ولا حتى لمصلحة «ولاية» مصر العثمانية، وأن محمدًا علي ينبغي أن يفعل مثلما فعل عمر بن الخطاب القويُّ، مع أبي بكر الصديق الأفضل، عندما قال له عند استخلاف الأخير على المسلمين: «إِنَّ قُوَّتِي لَكَ مَعَ فَضْلِكَ»[56]، خاصَّةً أن السلطان محمود الثاني مصلحٌ، ويبذل -في حدود طاقته- جهودًا حسنةً للارتقاء بالدولة. ممكنٌ أن يرى بعض القرَّاء هذا المنحى، وهم معذورون في ذلك، ولكنَّ التفكير «الواقعي» -وخاصَّةً في هذا الزمن- بعد انقضاء زمن الخلافة الراشدة التي كانت على منهاج النبوَّة، يسير في الاتجاه الذي ذكرناه، ومنذ قرونٍ طويلةٍ والمسلمون يعيشون بقاعدة «الحكم لمن غَلَبَ»، بعد أن نبذوا -للأسف- مبدأ الشورى في اختيار الحاكم[57]، مع العلم أن جمهور الفقهاء -باستثناء بعض الشافعيَّة- يعترفون بهذه القاعدة -مع عدم مثاليَّتها- فيأمرون الأتباع بطاعة الذي يمتلك القدرة على التغلُّب حتى لو كان المغلوب أفضل دينيًّا وأخلاقيًّا[58][59]؛ لأن الحكم يحتاج في الأساس إلى قوَّة، تحفظ الهيبة، وتُحقِّق الأمن والكفاية للرعيَّة، أمَّا المبرِّرات «الشرعيَّة» لمحمد علي في عدم طاعته للسلطان فمن السهل «تدبيرها» كما «فَبْرَكَها» سليم الأول عند غزوه للشام ومصر عامي 1516م و1517م، وأيسرها في حالتنا هو القول بأن طاعة محمد علي للسلطان -الذي لا يملك من أمره شيئًا، ويحتاج إلى روسيا، أو فرنسا، أو بريطانيا، للدفاع عن نفسه وشعبه- هي إهدارٌ لطاقات المسلمين، وتضييعٌ لفرصةِ قيامٍ! وليس ثَمَّة عمر بن الخطاب t في هذا الزمن!
الحرب المصريَّة العثمانيَّة الأولى (1831-1833م):
في أكتوبر 1831م خرج إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا على رأس أسطولٍ كبيرٍ في اتِّجاه عكا؛ أهم وأحصن مدن فلسطين، والمركز الرئيس لعبد الله باشا والي عكا وبالتبعيَّة فلسطين، وكان يُصاحبه كذلك جيشٌ بريٌّ تقدَّم عبر سيناء إلى غزة[60][61] (خريطة رقم 37). لم يجد الجيش المصري مقاومةً تُذْكر في جنوب فلسطين، فسيطر على غزة، والمدن المحيطة[62]، ثم تابع زحفه شمالًا حتى وصل إلى عكا، فضرب عليها الحصار برًّا وبحرًا بدايةً من 27 نوفمبر 1831م[63]. في الوقت نفسه تقدَّمت بعض القوَّات المصرية شمالًا إلى لبنان، لتتَّحد مع قوَّات بشير الشهابي، الذي اتَّفق مع محمد علي على مساعدته في لبنان بعد أن قرأ أن الغلبة له لا للسلطان. اشتركت القوَّتان في إخضاع صور، وصيدا، وبيروت، وجبيل، وأخيرًا طرابلس -بعد مقاومة- في غضون أسابيع قليلة[64][65]!
وصلت الأخبار إلى إسطنبول، فأعلن السلطان رسميًّا عصيان محمد علي باشا[66]، وأمر محمد باشا والي حلب بالاستعداد لحربه في موقعةٍ فاصلة، الذي أمر بدوره حاكم طرابلس عثمان باشا بالتوجُّه لحرب الجيش المصري[67]. في أبريل 1832، وكان الجيش المصري ما زال محاصرًا لعكا، تقدَّم والي طرابلس بجيشه جنوبًا لحرب إبراهيم باشا[68]. ترك إبراهيم باشا بعض قوَّاته حول عكا لمنع عبد الله باشا من الخروج من المدينة[69]، وتوجَّه بالجيش الرئيس شمالًا حيث التقى والجيش العثماني جنوب حمص[70]. هذا هو أوَّل قتالٍ مباشرٍ بين الجيشين المصري والعثماني. كان فارق التسليح، والإعداد، والتخطيط، والمهارة، كبيرًا لصالح الجيش المصري، فحدثت الهزيمة بسرعةٍ للعثمانيِّين! عاد إبراهيم باشا مسرعًا إلى عكا، وزاد من قصفها، حتى سقطت في يده في 27 مايو 1832م[71] بعد أكثر من ستَّة شهورٍ من الحصار، ليُحقِّق ما لم يُحقِّقه نابليون العظيم منذ ثلاثةٍ وثلاثين سنة! أُسِر عبد الله باشا، وأُرسِل إلى مصر[72]، وانطلق إبراهيم باشا إلى دمشق، أهم مدن الشام، فدخلها في 14 يونيو 1832م[73] وسط ترحيب السكان[74]. هذا الترحيب يكشف مدى الضغط الذي كان يُعانيه الشعب في ظلِّ الفساد الإداري الذي شمل الدولة العثمانية في قرونها الأخيرة.
كانت الهزيمة صادمةً لإسطنبول! جهَّز السلطان جيشًا من ستِّين ألف مقاتل[75][76] بقيادة رئيس الأركان العثماني حسين باشا[77]، الذي توجَّه مسرعًا إلى الشام. التقى الجيشان عند حمص في 8 يوليو 1832م[78]، وللمرَّة الثانية تواليًا حقَّق الجيش المصري انتصارًا حاسمًا تراجع معه الجيش العثماني خارج الشام كلِّها[79]! بعد المعركة دخل إبراهيم باشا مدينة حماة بلا قتال[80]، ثم أتبعها في 26 يوليو بدخول المدينة المهمَّة حلب[81]. هكذا صار الجيش المصري مسيطرًا على معظم المدن المهمَّة في فلسطين وسوريا ولبنان، ومع ذلك لم يتوقَّف إبراهيم باشا الذي أقنعته الانتصارات المتتالية أن الجيش العثماني صار بلا شوكة!
توغَّل إبراهيم باشا بجيشه شمالًا حتى وصل إلى جبال طوروس الفاصلة بين الشام والأناضول، وهناك وجد الجيش العثماني في انتظاره عند ممرِّ بيلان Belen (في تركيا الآن)، وهو أحد الممرَّات المهمَّة في جبال طوروس، والسيطرة عليه تتحكَّم في الحركة بين الأناضول والشام، ولذلك يُعْرَف هذا الممرُّ ببوابة سوريا[82]. دارت موقعةٌ كبرى بين الفريقين في 29 يوليو 1832م، وحقَّق الجيش المصري النصر مجدَّدًا[83]، وهرب الجيش العثماني إلى الإسكندرونة الساحليَّة، وسيطر المصريون على ممرِّ بيلان[84]، وصار طريقهم إلى الأناضول مفتوحًا!
ترك إبراهيم باشا الممرَّ في حماية بعض جنده، وطارد الجيش العثماني الذي استقلَّ سفنه من الإسكندرونة هاربًا[85]، فاحتلَّ إبراهيم باشا المدينة، كما سيطر على مدن الساحل؛ أنطاكية، واللاذقية، وبانياس. هكذا امتلك المصريون الشام بكاملها[86]! عاد إبراهيم باشا إلى ممرِّ بيلان، واقتحم الأناضول[87]، وسيطر على مدينتي أضنة Adana، وطرسوس Tarsus، في الجنوب[88].
انتظر إبراهيم باشا أوامر والده بخصوص التوغُّل في الأناضول، كما استأذنه في الخطبة له على منابر الشام بدلًا من الخطبة للسلطان، وفي صكِّ العملة باسم محمد علي بدلًا من اسم محمود الثاني. جاء الردُّ من القاهرة حاسمًا وغير متردِّد، وعكس ما توقَّع إبراهيم باشا! لفت محمد علي باشا نظر ابنه إلى أنه لم يصل إلى ما وصل إليه من مجدٍ إلا بالتريُّث والهدوء، وأنه لا يكترث بلقب سلطانٍ أو ملك؛ إنما يكفيه أنه «محمد علي»! وعليه؛ فإنه يأمره بعدم تجاوز الشام؛ فهذه هي حدود ما أراد أن يصل إليه، كما أمره ببقاء الخطبة للسلطان، وكذلك بعدم صكِّ عملةٍ جديدة، بل الحفاظ على العملات العثمانيَّة[89].
الواقع أن الغايات وراء هذه الأوامر ليست احترام حقوق الدولة العثمانية أو السلطان، وإلا لما كانت هناك حروبٌ من الأساس، ولكنها الحكمة السياسيَّة والعسكريَّة، وعمق الرؤية، والنضوج الإداري والقيادي الباهر. كان محمد علي باشا مبهرًا في التحكُّم بردود فعله، وكان قادرًا على عقد الموازنات المعقَّدة فيخرج بأفضل النتائج. إن قرارات محمد علي باشا بعدم الخطبة له، وبعدم الرغبة في إضفاء لقب سلطان أو ملك لاسمه، وعدم صكِّ عملةٍ خاصَّةٍ به، كلها تصبُّ في حاجته لعدم لفت نظر القوى العظمى إلى أنه صار بديلًا للدولة العثمانية؛ لأنهم في هذه الحالة سيقفون له بالمرصاد قبل أن يشتدَّ عوده، إنما يكفيه أن ينظروا إليه على أنه والٍ طموحٌ يريد أن يُزيد من مساحة ولايته على حساب العثمانيِّين، وهذا لن يعترضوا عليه، بل قد يُشجِّعوه؛ لأنه يُضْعِف الدولة العثمانية التي يريدون إسقاطها. أمَّا أمره بعدم التوغُّل في الأناضول فمن أجل السبب نفسه، بالإضافة إلى خطورة التوغُّل في بقاعٍ لا يعرفونها بجيشٍ قليل، خاصَّةً مع بُعده الشديد عن المدد. إنها رؤيةٌ متَّزنةٌ تنمُّ عن عقليَّةٍ عسكريَّةٍ ناضجة.
اضطربت الأوضاع في إسطنبول بشدَّة. لم يكن أكثر المحلِّلين تشاؤمًا يتوقَّع مثل هذه النتائج، خاصَّةً أن الجيش المصري يترك في كلِّ مدينةٍ حامية؛ أي أن عدده يتناقص مع كلِّ معركة[90]، ومع ذلك يُحقِّقون النصر السهل الذي لا يفقدون معه جنودًا ولا سلاحًا، بل على العكس يغنمون سلاح العثمانيِّين، بل ويغنمون تعاطفًا شعبيًّا معهم، ممَّا يُصَعِّب الأمور لاحقًا على الدولة العثمانية. العجيب أن القتال يدور على أرض الشام التي جابها العثمانيُّون طولًا وعرضًا، بينما يدخلها معظم المصريِّين للمرَّة الأولى في حياتهم، فنصر الجيش المصري غير مفهومٍ في إسطنبول! الآن يقف الجيش المصري على أعتاب الأناضول، فماذا يفعل السلطان؟ لم ييأس السلطان المكلوم؛ إنما جهَّز جيشه الأخير، وهو عبارةٌ عن ثلاثةٍ وخمسين ألف مقاتل[91]، تحت قيادة الصدر الأعظم رشيد باشا[92]، بينما كان الجيش المصري في جنوب الأناضول مؤلَّفًا من خمسة عشر ألف جندي فقط[93]. شجَّع هذا التباين في القوَّة الجيشَ العثماني على المضيِّ قدمًا للحرب. كان الشتاء قد دخل بقوَّةٍ لكنَّ السلطان لم يُطِقْ الصبر، فدفع الجيش إلى التقدُّم في ديسمبر 1832م.
عَلِمَت مخابرات إبراهيم باشا بتقدُّم الجيش العثماني فلم ينتظره في أضنة؛ إنما تحرَّك من فوره لملاقاته في الطريق[94]. التقى الجيشان في 21 ديسمبر 1832م عند مدينة قونية Konya[95] في وسط الأناضول، وهي على بعد مائتين وسبعين كيلو مترًا غرب أضنة، ممَّا يعني توغُّل الجيش المصري جدًّا في الأناضول. كالعادة، حقَّق الجيش المصري انتصارًا ساحقًا على الجيش العثماني، ولكنه في هذه المرَّة أَسَرَ القائدَ الصدرَ الأعظم رشيد باشا[96][97]، وهذه كارثةٌ معنويَّةٌ وحربيَّة، كما أَسَرَ معه عشرة آلاف جندي عثماني، بالإضافة إلى ثلاثة آلاف قتيل[98][99]، بينما لم يفقد الجيش المصري سوى مائتين واثنين وستِّين جنديًّا[100]! كانت النتيجة فاضحةً للجيش العثماني، وللدولة كلِّها، وصار الطريق مفتوحًا إلى إسطنبول ذاتها. لم يُضَيِّع إبراهيم باشا الفرصة، وانطلق بجيشه في اتِّجاه العاصمة[101]، فوصل إلى كوتاهية Kutahya واحتلَّها[102]، وصار بذلك على بُعد أقلَّ من ثلاثمائة كيلو متر من إسطنبول، وليس بينها وبينه جيشٌ[103]!
وصلت الأخبار إلى مشارق الأرض ومغاربها، وعَلِم الإنجليز والفرنسيون والروس بالحدث! عاش السلطان مثل هذه اللحظات المرعبة قبل ذلك بثلاث سنوات (1829م) عندما اقتربت الجيوش الروسيَّة من إسطنبول، ويومها نجدته بريطانيا وفرنسا، حين أمرتا روسيا بالتوقُّف، فكانت معاهدة إدرنة. الآن مَنْ ينجده من جيوش محمد علي باشا؟
لجأ السلطان إلى بريطانيا[104]! أرسل السلطان سفيره في ڤيينا إلى لندن للتفاوض في إرسال مددٍ بحريٍّ تتولَّى الدولة العثمانية الإنفاق عليه، لكن كان تفاعل بريطانيا مع المسألة بطيئًا ومتردِّدًا[105]! واقع الأمر أن الإنجليز كانوا من الناحية النفسيَّة مع محمد علي باشا في تحرُّكاته؛ ليس حبًّا في مصر، ولكن بغضًا في الدولة العثمانية؛ فهذه هي الدولة التي كسرت عمالقة أوروبا عدَّة قرون، وجميع الأوربِّيِّين -بلا استثناء- لا يريدون لها البقاء، فكلُّ انتقاصٍ من قوَّتها في مصر، والشام، والأناضول، سيُعطيهم فرصةً لالتهامها في أوروبا. تعلَّلت بريطانيا بانشغالها في المسألة البلچيكيَّة، وكانت بلچيكا تريد الانفصال عن هولندا، وتدعمها فرنسا، والأمور مضطربةٌ نسبيًّا في أوروبا[106]. كان سبب الاعتذار واهيًا بالقياس إلى حجم الكارثة العثمانية. فرنسا -أيضًا- كانت تؤيِّد محمد علي باشا بشكلٍ واضح، ولذلك لم يتوجَّه إليها السلطان بالطلب[107].
الوحيدة التي تحرَّكت بسرعةٍ لنجدة الدولة العثمانية كانت ألدَّ أعدائها؛ روسيا[108]! لقد رأت روسيا أن سقوط إسطنبول في يد محمد علي سينقل ميراث الدولة العثمانية كلَّه إلى الدولة المصريَّة الجديدة، وسيُعيد إحياء دولةٍ إسلاميَّةٍ كبرى بعائلةٍ علويَّةٍ بدلًا من العائلة العثمانية، وستقع المضايق البحريَّة في يد مَنْ يستطيع أن يُدافع عنها، وقد يُطالب السلطان الجديد بما استولت عليه روسيا من الدولة العثمانية في العقود السبعة الأخيرة. كلُّ هذه الهواجس دفعت روسيا إلى إرسال مبعوثها العسكري الجنرال موراڤييڤ Muraviev أوائل ديسمبر 1832م ليعرض المساعدة العسكريَّة على الدولة العثمانية[109]، وليس هذا فقط، بل سافر موراڤييڤ بعد ذلك إلى مصر حاملًا رسالةً من الإمبراطور الروسي نيكولاس الأول، أشدِّ المبغضين للدولة العثمانية، إلى محمد علي باشا لإقناعه بوجوب حلِّ المشكلة سلميًّا[110]!
لم يطمئن السلطان محمود الثاني لعرض روسيا، وعلم أن نزول القوَّات الروسيَّة في إسطنبول لحمايتها قد يعني ضياعها بالكلِّيَّة، فتلكَّأ في الاستجابة، وسلك المسلك الطبيعي في مثل هذه الظروف، وهو مسلك التواصل الدبلوماسي المباشر مع محمد علي باشا في مصر، فأرسل له خليل باشا قائد البحريَّة لعرض الحلِّ السلمي[111]. وصل مندوب السلطان إلى الإسكندرية في 21 يناير 1833م، واستقبله محمد علي باشا في قصر رأس التين، وعلى الرغم من مظاهر التبجيل والتوقير المبالغ فيها بين الطرفين فإن المفاوضات جاءت باهتةً وعقيمة، ولم تؤدِّ إلى نتيجةٍ إيجابيَّة[112]. كان العرض العثماني يتضمَّن إعطاء محمد علي باشا ولايات القدس، ونابلس، وعكا، وطرابلس، أي تقريبًا فلسطين ومعظم لبنان، في مقابل الانسحاب من الأناضول، وانهاء الحرب[113].
لم يكن العرض بالطبع مقنعًا لمحمد علي باشا بعد وصوله في الحرب إلى هذه النقطة. في الوقت نفسه تقدَّم إبراهيم باشا بقوَّاته إلى كوتاهية، وبدا واضحًا أنه يريد الوصول إلى إسطنبول لولا أن جاءته رسالةٌ من أبيه تأمره بالتوقُّف[114]. وجد محمد علي باشا أن هذا التقدُّم من ابنه تهوُّرٌ قد يُضَيِّع كلَّ المكاسب، وأراه محقًّا في هذه الرؤية؛ لأن القوى العظمى كانت ستنقلب عليه مجتمعةً في هذه الحالة، وتتكرَّر تجربة سحق الأسطول المصري في ناڤارين عام 1827م.
إزاء رفض محمد علي باشا لعرض السلطان شعر محمود الثاني أن خطوات الجيش المصري تقترب من إسطنبول، فوافق في 3 فبراير على المساعدة الروسيَّة[115]، وهذا خطأٌ منه؛ لأن خطر الروس على المسلمين أضعاف خطر محمد علي باشا. بل نُقِل عن السلطان محمود الثاني نفسه أنه قال تعليقًا على طلبه المساعدة العسكريَّة من روسيا: «الغرقان يستنجد بالثعبان»[116]! وفي رأيي أنه لو وقعت الدولة العثمانية في يد الأسد المصري فهو خيرٌ لها من وقوعها في يد الثعبان الروسي، أو الثعالب الإنجليزيَّة والفرنسيَّة! أيًّا كان الأمر، بعد موافقة السلطان بأقلَّ من ثلاثة أسابيع، في 20 فبراير 1833م، أرسل «الثعبان» الروسي أسطوله يحمل عشرين ألف جندي، وبعدها بشهرٍ تقريبًا، في 23 مارس، قاموا بإنزالٍ عسكريٍّ في الأناضول بالقرب من إسطنبول[117]!
اشتعل الموقف، وأرسل السفير الفرنسي إلى محمد علي باشا يستحثُّه على قبول عرض السلطان بأخذ الولايات الأربع التي عرضها ليغلق باب المساعدة الروسيَّة المشبوهة[118]، لكن محمد علي رفض الوساطة الفرنسيَّة، وأصرَّ على أنه يريد الولاية على سوريا الكبرى بكاملها؛ أي الشام بما فيها من ولايات حتى حلب[119]. -أيضًا- طلب إبراهيم باشا من أبيه الإصرار على الاستقلال الكامل، مع إضافة ولاية أضنة في الأناضول[120]. كانت رغبة إبراهيم باشا في ضمِّ أضنة راجعةً لكثرة الغابات فيها، واحتياج مصر للأخشاب في بناء الأساطيل، كما أنها تُسيطر على مدخل الأناضول، وتُعطيهم فرصةً لإعادة الكَرَّة، كما تمنع العثمانيِّين من دخول الشام. رفض محمد علي نصيحة ابنه في مسألة الاستقلال، لكنَّه وافقه في مسألة ضمِّ أضنة، وهذا أغضب السلطان الذي كان قد مال إلى إجابة شروط محمد علي لولا طلبه أضنة الأناضوليَّة، وهمَّ بالرفض. تأزَّم الموقف، وخشيت بريطانيا وفرنسا من اشتعال قتالٍ قد لا يستطيعون إيقافه، فدفعت كلتا الدولتين السلطانَ لقبول عرض محمد علي باشا كاملًا، بما فيه من ولاية أضنة، لمنع الحرب المرتقبة بين الروس والمصريين[121]، والتي قد يكون من نتيجتها وقوع الدولة العثمانية في قبضة الروس على الأغلب، وفي كلِّ الأحوال ستكون نتيجة الحرب هي إنهاء الوجود العثماني؛ إمَّا لصالح روسيا، أو لصالح مصر، وهو ما ترفضه القُوى الأوروبية، فكانت معاهدة كوتاهية!
معاهدة كوتاهية (1833م):
رضخ السلطان محمود -مضطرًّا- لهذا العرض، وفي 6 مايو 1833م أصدر فرمانًا[122] في كوتاهية، عُرِف باتفاق سلام كوتاهية Peace Agreement of Kütahya، أعطى فيه محمد علي باشا ولاية مصر، وكريت، والشام كلها، والحجاز، وكذلك ولاية أضنة[123][124] (انظر خريطة رقم 37)[125]، وبهذا انتهت الحرب، وانسحب إبراهيم باشا من كوتاهية إلى أضنة في 24 مايو[126].
واقع الأمر أن هذا الاتفاق لم يكن معاهدةً بالمعنى القانوني والدولي؛ لأنه لم يكن اتِّفاقًا بين طرفين، إنما كان فرمانًا من جهةٍ واحدة، هي جهة السلطان، أعطى فيه «لواليه» محمد علي باشا إدارة هذه الولايات المذكورة[127]، وهي المرَّة الأولى في تاريخ الدولة العثمانية التي يُعطي فيها السلطان ولاية سبع ولاياتٍ دفعةً واحدةً لوالٍ واحد[128]! كان الجميع يعلم -أيضًا- أن هذه هدنةٌ وليست اتِّفاقيَّة سلامٍ دائم؛ فمن المعلوم أن محمد علي باشا -مع أنه أخذ ما يريد، وزيادة (أضنة)- إلا أنَّه ما زال تابعًا للدولة العثمانية.
نعم يتَّضح من بداية المعارك أنه لا ينوي الانفصال التام عن الدولة، ولكن الانتصارات السهلة التي حقَّقها على الجيش العثماني ستدفعه على الأغلب إلى التفكير في الاستقلال، ولقد كانت رغبة الاستقلال التام عن الدولة العثمانية بارزة عند ابنه إبراهيم باشا، ولو كان الأمر بيده لأسقط -فيما أعتقد- الدولة العثمانية كلَّها، ولضمَّها بكاملها إلى دولة أبيه، تمامًا كما فعل سليم الأول بالمماليك قبل ذلك، حين لم يكتفِ بالشام، بل اقتحم مصر، وأسقط القاهرة، ومحا دولة المماليك من الوجود، وشخصيَّة إبراهيم باشا عسكريَّة كسليم الأول، وهو يريد حسم الأمور بسرعةٍ دون تضييع فُرَص، وقد تئول الأمور إليه كحاكمٍ لمصر إذا مات أبوه، الذي بلغ حتى هذه اللحظة أربعًا وستِّين سنةً من العمر، وعندها سيتجدَّد القتال حتمًا، بل قد تُغيِّر الأيَّام القادمة سلوك محمد علي المتحفِّظ نسبيًّا ويتحوَّل إلى الهجوم مجدَّدًا، ولقد كان المانع الأكبر لاستمراره في القتال هو وجود القوَّات الروسيَّة، وكذلك ضغط بريطانيا وفرنسا، فلو تغيَّرت ظروف هذه القوى العظمى -وهذا كثير الحدوث في هذا الزمن، وما أحداث الحروب النابليونيَّة ببعيدة- فقد ينسف محمد علي باشا المعاهدة، ويُسْقِط العثمانيِّين.
هذا من ناحية الدولة المصريَّة، أمَّا من ناحية الدولة العثمانية فإن السلطان محمودًا الثاني دُفِعَ مُكرَهًا إلى هذا الكمِّ المهول من التنازلات المهينة! لقد فقد في أقلَّ من سنتين الشام كلَّه، والحجاز، وإقليم أضنة الأناضولي، وتعرَّضت جيوشه لأربع هزائم مذلَّة في حروبٍ ميدانيَّةٍ مفتوحة، هذا غير الحاميات التي استسلمت في عشرات المدن، وأُسِر صدره الأعظم رشيد باشا، واستجدى المساعدة من ألدِّ أعدائه الروس، وهُدِّدت عاصمته بشكلٍ مباشرٍ وواقعي. كلُّ هذه الجروح لن تندمل أبدًا مع الوقت، ولسوف يكون الشغل الشاغل له هو الخروج من هذا المأزق، واستعادة الأملاك السليبة. لا شَكَّ أنه سيبحث عن فرصةٍ لنقض المعاهدة وإعادة الحرب، إذا وجد في نفسه قوَّة. هذه الاحتمالات جعلت روسيا متردِّدةً في الخروج من الأناضول، وفي الوقت نفسه فإن بريطانيا وفرنسا لن يقبلا بوجودها، وقد يتطوَّر الأمر إلى صدامٍ لا ترغب فيه القوى العظمى. هذا دفع روسيا إلى إرغام السلطان على عقد معاهدةٍ تؤَمِّن بها المستقبل الروسي، فكانت معاهدة هونكار إسكيله سي[129]!
معاهدة هونكار إسكيله سي Hünkâr İskelesi (1833م):
وُقِّعت هذه المعاهدة في 8 يوليو 1833م[130]، وبعد يومين فقط غادرت القوَّات الروسيَّة الأناضول[131]. كانت المعاهدة تقضي بالدفاع المشترك بين البلدين لمدَّة ثماني سنوات[132][133][134]. هذا في الواقع -من وجهة نظرٍ عمليَّة- يجعل الدولة العثمانية تحت الحماية الروسيَّة؛ لأنها لا تقوى في حالتها هذه على إعانة روسيا على أعدائها، إنما المقصود أن تُعينها روسيا إذا احتاجت، فصارت الدولة العثمانيَّة كأنَّها «تابعٌ» لروسيا! هذا في حدِّ ذاته يُمثِّل مشكلةً كبرى أزعجت بريطانيا على وجه الخصوص[135]. أُعلنت المعاهدة بعد رحيل القوَّات الروسيَّة، ولم يكن واضحًا فيها «الثمن» الذي ستدفعه الدولة العثمانية نظير تلقِّي مساعدة الروس عند الحاجة، وهذا كان يُثير الشكوك في الأوساط الأوروبية. أخيرًا في أوائل 1834م[136] ظهر على الساحة ما يُعْرَف بالبند السري Secret clause لمعاهدة هونكار إسكيله سي، وهو يقضي بأن الدولة العثمانية ستقوم بإغلاق الممرَّات البحريَّة -الدردنيل والبوسفور- في وجه السفن التي ترغب روسيا في منعها من المرور[137][138]، وهذا يُعطي روسيا سيطرةً عمليَّةً على المضايق، ولا يخفى مدى الضرر الذي يمكن أن يقع على القوى الأوروبية في حال تنفيذ هذا البند. كان من الواضح أن الدولة العثمانية كانت واقعةً تحت ضغطٍ شديدٍ أدَّى إلى مثل هذه المعاهدة المهينة التي وضعتها في صورة تابعٍ لا حيلة له للإمبراطوريَّة الروسيَّة!
كان للمعاهدة أثرٌ كبيرٌ على السياسة الأوروبِّيَّة، وعلى مواقف الدول العظمى من الدولة العثمانية، وخاصَّةً بريطانيا، فقد أدركت هذه الدول خطورة الانهيار المفاجئ للدولة العثمانية، فقد يصبُّ هذا الانهيار لمصلحة قوَّةٍ أخرى غيرهم؛ إمَّا روسيا وهذا خطر، وإمَّا محمد علي باشا وهذا أخطر، ولهذا ستتحوَّل السياسة الإنجليزيَّة، بزعامة رئيس الوزراء الشهير اللورد بالمرستون Lord Palmerston، إلى إعانة الدولة العثمانية ودعمها في الفترة القادمة[139]، ولقد أوضح بالمرستون سياسة دولته في رسالة مختصرة أرسلها إلى السفير البريطاني في باريس قال له فيها: «ينبغي أن نُؤيِّد السلطان بكلِّ ما في وسعنا، بمساعدة فرنسا إذا شاءت الاشتراك معنا، ودونها إذا رفضت ذلك»[140]. ستُصبح بريطانيا إذن هي الحليف الرئيس للعثمانيِّين، وستحرص على عدم سقوط دولتهم، وذلك بالوقوف في وجه الروس دبلوماسيًّا أحيانًا، وبحربهم في أحيانٍ أخرى، وبالوقوف في وجه محمد علي باشا، والسعي لتحجيم قوَّته، في أحيان ثالثة. قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251]!
في الواقع كانت المعاهدة مؤلمة، ولن يجني المسلمون خيرًا من فرقتهم أبدًا، وليت العاقلَيْن؛ السلطان محمود الثاني ومحمد علي باشا، جلسا سويًّا، وتفاهما بودٍّ، وبوساطة إسلاميَّة لو تطلَّب الأمر، بدلًا من إقحام الروس، والإنجليز، والفرنسيين، وهؤلاء -كما هو معلوم- لا يرقبون في مؤمنٍ إلًّا ولا ذمَّة!
الإصلاحات الداخليَّة في الدولة العثمانيَّة:
بعد هذه العواصف المدمِّرة هدأت الأمور في الدولة العثمانية لمدَّة ستِّ سنوات (1833-1839م)، وسيتَّجه السلطان محمود إلى إعادة بناء دولته، ورأب الصدع الكبير الذي أصابها. في الواقع كان السلطان قد بدأ إصلاحاته في الدولة من اليوم الأوَّل لولايته، ولكنه ابتُلي -كما رأينا- بصراعاتٍ دوليَّةٍ ومحلِّيَّةٍ كثيرةٍ استنزفت وقته وجهده وفكره، وأدَّى بعضها إلى تدمير عدَّة مشاريع، كما كُبِّلت الدولة بغراماتٍ حربيَّةٍ في معاركها مع روسيا، وكُبِّلت كذلك بسحق أسطولها في ناڤارين، ثم كُبِّلت أخيرًا بتدمير جيشها بمدافع الجيش المصري! ولكن السلطان كان يُسَدِّد ويقارب، ويفعل ما بوسعه ليتحسَّن الوضع، ولو قليلًا، عسى أن ينجح خلفاؤه في الارتقاء بالدولة إذا تغيَّرت الظروف للأحسن.
كانت إصلاحات السلطان محمود الثاني شبيهةً بتلك التي قام بها محمد علي باشا في مصر، ولكن على نطاقٍ أقل، ولعلَّ التفوُّق المصري كان بسبب هدوء الحال نسبيًّا في البلد بعكس الوضع السياسي المضطرب الذي كانت تعيشه الدولة العثمانيَّة زمن محمود الثاني، وعمومًا شملت الإصلاحات ميادين كثيرة، وإن كان أهمُّها الجيش، والتعليم، والقانون.
إصلاحات الجيش: حاول السلطان محمود الثاني بعد التخلُّص من الإنكشاريَّة المفسدة أن يبني فرقًا عسكريَّةً تأخذ بالنظم الحديثة؛ فاهتمَّ أولًا بفرق الخيَّالة والمشاة، ثم ما لبث أن أدخل التطوير السريع على فرق المدفعيَّة، وجعلها على نسق الجيش البروسي، كما وضع على رأس الخيَّالة قائدًا إيطاليًّا اسمه كالوسو Calosso الذي نسَّقها على النمط الفرنسي[141]. حاول السلطان أن يحافظ على دعمٍ شعبيٍّ لهذه التكوينات الجديدة، وذلك ليمنع المغرضين من نشر الشائعات والفتن التي من الممكن أن تُعطِّل مسيرة الإصلاح، فكان يُقيم الاحتفالات الشعبيَّة للإنجازات عند فتح المدارس العسكريَّة، أو تدشين أسلحةٍ جديدة[142]، وكان يهتمُّ بإبراز فتاوى العلماء القاضية بوجوب تعليم فنون الحرب، وضرورة إصلاح الجيش[143]، فصار الجوُّ العام في الدولة -حكوميًّا وشعبيًّا- راغبًا في الإصلاح، وهذا نجاحٌ كبير. جدَّد السلطان محمود الثاني مدارس المدفعيَّة، والبحريَّة، والهندسة، التي أنشأها السلطان مصطفى الثالث قبل ذلك، وأسَّس السلطان -أيضًا- أكاديميَّةً عسكريَّةً في عام 1834م، وأرسل بعض خرِّيجيها إلى العواصم الأوروبِّيَّة لاستكمال دراستهم[144].
أخذ السلطان بنظام التجنيد الإجباري كما فعل محمد علي باشا في مصر، وجعل مدَّة التجنيد اثنتي عشرة سنة[145]، وهذا وإن أدَّى إلى التناسق بين أفراد الجيش لكون معظمهم ناطقين باللغة التركيَّة، ويشتركون جميعًا في ظروفٍ واحدة، إلا أنه لم يُقَابَل في البداية بارتياحٍ عند المواطنين[146] -كما حدث في مصر سابقًا مع محمد علي باشا- الذين كانوا يريدون الحماية من الدولة دون المغامرة بالقتال! اعتمد السلطان في تدريب هذا الجيش على خبراء عسكريِّين من بروسيا[147]. اهتمَّ السلطان -أيضًا- بالبحريَّة، وبنى دارًا جديدةً لمدرستها، وزوَّد هذه المدرسة بالأدوات والمكتبة والأجهزة[148]. في عام 1829م تمكَّنت الدولة من بناء سفينةٍ حربيَّةٍ عملاقة هي سفينة «المحموديَّة»، وكانت أكبر سفينةٍ حربيَّةٍ في العالم من ناحية الحجم[149]، وكانت تحمل مائةً وثمانيةً وعشرين مدفعًا، بالإضافة إلى ألفٍ ومائتين وثمانين بحَّارًا[150].
إصلاحات التعليم: أنشأ محمود الثاني الكثير من المدارس الابتدائية لتعليم اللغة التركيَّة، وقراءة القرآن، ومبادئ اللغة العربية، وجعل التعليم الابتدائي إلزاميًّا للمرَّة الأولى في تاريخ الدولة العثمانية[151]، كما أُنْشِئت مدارس متخصِّصة تُعِدُّ الطلاب للالتحاق بمدارس البحريَّة، والطب، والزراعة، والهندسة، والمدفعيَّة، وقد عُرِفَت هذه المدارس «بالرشيديَّة»، نسبةً إلى الصدر الأعظم رشيد باشا الذي فكَّر في إنشائها، وكانت تُمثِّل وصلةً بين المدارس الابتدائيَّة والمدارس العليا المتخصِّصة[152][153]. -أيضًا- اعتنى السلطان بمدرسة تعليم اللغات[154]، وكان خرِّيجوها يعملون بالسفارات المختلفة، فكانت هذه هي البداية الحقيقيَّة لتولية الأتراك العثمانيِّين شئون الدبلوماسيَّة بدلًا من اليونانيين كما كان معتادًا في التاريخ العثماني[155].
-أيضًا- أنشأ السلطان مدرسةً مهمَّةً للطب، وكان التعليم فيها باللغة الفرنسيَّة، وذلك لأوَّل مرَّةٍ في التاريخ العثماني، وزار السلطان المدرسة، وقال في كلمته للطلاب أن الغرض من التدريس باللغة الفرنسيَّة ليس مجرَّد تعلُّمها، ولكن لمواكبة الجديد في الطب، وأن هذه خطوةٌ مرحليَّة، وسيكون بعدها تدريس الطبِّ باللغة التركيَّة، وفي الإطار نفسه عمل السلطان على إرسال البعثات العلميَّة إلى باريس وبقيَّة العواصم الأوروبية لتحصيل الفنون والعلوم الحديثة، على الرغم من المقاومة الداخليَّة لهذه البعثات[156].
إصلاحات القانون: أسَّس السلطان محمود الثاني المجلس الأعلى للقضاء، وكانت مهمَّته إعداد القوانين، وحرص على وجود شخصيَّاتٍ غير مسلمةٍ في المجلس، لكيلا تتعارض القوانين الجديدة مع الديانات الكثيرة في الدولة، خاصَّةً أن السلطان كان حريصًا على إبراز مسألة التسامح الديني[157]، وذلك بعد الاضطرابات الشديدة التي شهدتها صربيا واليونان في عصره. استحدث السلطان نظمًا جديدةً للتعيينات والترقيَّات في المناصب الحكوميَّة، وجعلها مبنيَّةً على أسسٍ علميَّة، وغير خاضعةٍ للمنح أو الهبة كما كان معتادًا[158]، واهتمَّ كذلك بالمعاشات وقوانينها، وزاد من المرتَّبات ليقضي على الرِّشوة، كما استحدث نظمًا للمراقبة لمنع الفساد. استحدث السلطان القوانين التي تؤكِّد مركزيَّة الدولة فزادت هيبتها في الولايات، وأنشأ مجالس الولايات وربطها بالحكومة المركزيَّة[159][160]. وفي محاولةٍ للسيطرة على انفلات الولاة بالحكم، وتحكُّمهم بالرعيَّة، سَحَبَ السلطان منهم سلطة تنفيذ حكم الإعدام، وجعل صدور حكمٍ قضائيٍّ شرطًا لتنفيذها[161]. حقَّق السلطان -أيضًا- إضافةً كبيرةً للنظام الإداري بإعطاء قيادة الولايات للمدنيِّين بعد أن كانت مقصورةً على العسكريِّين، وفرَّغ العسكريِّين بذلك لأمور الحرب وحماية الجبهات[162].
كان للسلطان كذلك إصلاحاتٌ كثيرة خاصَّة بالسياسات الماليَّة، وقلَّل إلى حدٍّ كبير الضرائب والجمارك المفروضة على الناس[163]، على الرغم من الاضطراب الاقتصادي الذي عانت منه البلاد في عصره نتيجة الخسائر العسكريَّة أمام الروس، وفي اليونان، وأمام محمد علي باشا. للأسف في خضم هذه الإصلاحات كانت تحدث تجاوزاتٌ شرعيَّةٌ غير مقبولةٍ في صياغة القوانين، ومن ذلك إجراء تسهيلاتٍ في القوانين الخاصَّة بتجارة الخمور للسماح بزيادة انتشارها، وللأسف -أيضًا- فإن السلطان -على الرغم من اهتمامه بالصورة الإسلاميَّة للدولة- كان لا يمانع في أن يُشارك وزراءه شرب الخمر في المناسبات المختلفة[164][165]، وهذا عجيبٌ في الواقع لقادة دولةٍ تتصدَّر المشهد الإسلامي في العالم!
إصلاحاتٌ أخرى: أجرى السلطان أوَّل إحصاءٍ للأراضي الزراعيَّة في العصر الحديث[166]، وأدخل تحسيناتٍ على شبكة المواصلات، وأنشأ طرقًا جديدة[167]، كما أنشأ جريدةً رسميَّةً للدولة[168]، وهو أوَّل من أنشأ وزارةً للشئون الخارجيَّة[169]. اهتمَّ السلطان بعمليَّات إحصاء السكان[170]، وخاصَّةً بعد تطبيق نظام التجنيد الإجباري، ومن أشهر الإحصاءات في عصره إحصاء عام 1830م[171]، كما اهتمَّ السلطان محمود الثاني بالأوقاف، ووضعها تحت رقابةٍ شديدةٍ لمنع التلاعب الذي كان قد انتشر في العهود الأخيرة للدولة[172]. -أيضًا- من الأمور اللافتة في إصلاحاته العمل على توسيع دائرة التأليف العلمي والحضِّ عليه، ونشر هذه المؤلَّفات في الدولة، وترجمة العلوم الأجنبيَّة[173]، والاهتمام بالطباعة وتحسين طرقها[174]. هذا كله بالإضافة إلى أمورٍ شكليَّةٍ كثيرة، مثل: تغيير شكل الملابس من النمط العثماني القديم إلى النمط الأوروبي، وتغيير المراسم في السرايات والحكومة، وتواصل السلطان مع الناس بشكلٍ مباشرٍ بدلًا من الانعزال عنهم كما كان مشتهرًا في القرون الثلاثة الأخيرة، بل والسماح للوزراء بالجلوس في حضرة السلطان، وكانوا قبل ذلك يجتمعون بالسلاطين وقوفًا[175]! -أيضًا- أدخل السلطان فكرة الاحتفال بيوم مولد السلطان، ويوم وصوله إلى العرش، وجعل هذه الأيَّام على التقويم الميلادي وليس الهجري، وكان الهدف من الاحتفال بهذين اليومين ربط الشعب بقائده بعد اهتزاز صورة السلطان لقرونٍ طويلة، وكان الهدف من جعلها على التقويم الميلادي جذب الرعايا غير المسلمين، في البلقان خصوصًا، للارتباط بالدولة عن طريق مواعيد يعرفونها في تقويماتهم، وكذلك التواجد على الساحة الأوروبية؛ حيث كانت السفارات تُهنِّئ الدولة في هذه المناسبات على أساس أنها احتفالاتٌ قوميَّة، وهي ما يُشبه في زماننا العيد الوطني للدولة[176].
من المنطلق نفسه، وبهدف ربط الشعب بسلطانه، وزَّع السلطان صورته المرسومة على المصالح الحكوميَّة المختلفة في الدولة العثمانيَّة كلِّها لتُعَلَّق بها، وذلك للمرَّة الأولى في تاريخ الدولة العثمانية[177]، ومن الجدير بالذكر أن علماء الدين كانوا يعترضون على مثل هذه الإجراءات[178]، ولكنَّها استمرَّت دون توقف، وكان معظم أفراد الشعب متقبِّلين لها؛ لأنهم في الواقع كانوا لا يعرفون شكل قائدهم قبل السلطان محمود الثاني، حيث كان السلطان لا يُغادر قصره إلا نادرًا، ولو غادره فهذا يكون في حدود إسطنبول فقط، ومع وجود حراساتٍ مكثَّفةٍ تعزله عن الناس، فجاء السلطان محمود الثاني بفكر التواصل مع الشعب، وكان من ذلك -أيضًا- -إلى جوار مسألة الصور الرسميَّة- التجوال في الدولة، وخاصَّةً في الأقاليم البلقانيَّة، وزيارة المدارس ومعسكرات الجيش، والمشاريع، والتلطُّف مع العامَّة في الحوار في المناسبات المختلفة[179].
التنظيمات: قبيل وفاة السلطان محمود الثاني بقليل -في عام 1839م- بدأ مشروع «التنظيمات» Tanzimat، وهو المشروع الذي يهدف إلى إعادة تنظيم قوانين الدولة وهياكلها بصورة حديثةٍ تناسب الزمن الذي تعيش فيه الدولة[180]، وبدأ السلطان محمود المشروع بإنشاء مجلسٍ عُرِف بمجلس الوكلاء Council of Ministers، وكان يضمُّ إلى جانب الصدر الأعظم والوزراء عددًا من الشخصيَّات المرموقة التي يُضيفها السلطان إلى المجلس؛ كشيخ الإسلام، وقيادات الجيش، وكبار رجال الحكومة[181]. يعتبر هذا المجلس هو أوَّل صورةٍ برلمانيَّةٍ في الدولة العثمانية، وهو الذي سيتطوَّر في عهد وَلَدَي محمود الثاني؛ عبد المجيد الأول، وعبد العزيز، إلى مجلس الأحكام العدليَّة[182]. يعتبر هذا المجلس مرحلةً انتقاليَّةً بين الحكم الأوتوقراطي الديكتاتوري الذي يمارسه الملوك عادة، والحكم البرلماني الذي يشارك فيه الشعب. لم تُعْلَن هذه التنظيمات بشكلٍ كاملٍ ورسميٍّ إلا بعد وفاة محمود الثاني بأربعة شهور في 1839م، وذلك في عهد ابنه السلطان عبد المجيد الأول[183].
يعتبر الكثير من المؤرخين أن «تنظيمات» محمود الثاني هي البداية الحقيقيَّة لتأسيس تركيا الحديثة، التي كانت في مجملها على شكل الأنظمة الأوروبية[184][185][186]. -أيضًا- كانت هذه التنظيمات هي البداية لفصل إداريَّات الدولة وسياساتها عن العلماء أصحاب النفوذ سابقًا في الدولة[187]، وكان محمود الثاني يرى أن العلماء -بعدم درايتهم في السياسة والإدارة- كثيرًا ما يتسبَّبون في تعطيل مسار العمل، أو إلغاء بعض المشروعات الإصلاحيَّة، والحقُّ أن التاريخ العثماني شهد الكثير من الحوادث التي استغلَّ فيها الانقلابيُّون، أو الطامعون في السلطة، بعضَ العلماء لإصدار فتاوى يكون من آثارها تحقيق ما يريدون، سواءٌ بعلمٍ وقصدٍ من العلماء، أم بسبب عدم درايتهم بالسياسة.
على الرغم من أن القوانين كانت مستمدَّةً في هذه الفترة من الشريعة الإسلاميَّة فإن بعض المؤرِّخين يُشير إلى أن بدايات العلمانيَّة في تركيا كانت في زمن محمود الثاني؛ وذلك بسبب تقليصه لسلطات رجال الدين، وفصلهم عن السياسة، وعدم اشتراط موافقتهم على القوانين المستحدثة في الدولة، و-أيضًا- بسبب إنشاء المدارس المدنيَّة التي تُدَرِّس الموادَّ العلميَّة كالرياضيَّات والجغرافيا دون المواد الدينيَّة، وبالتالي عدم وقوعها تحت إدارة رجال الدين، فضلًا عن التغريب في النظم الإداريَّة، والاجتماعيَّة، والثقافيَّة، وغيرها[188].
في الجملة يُحْسَب لهذا السلطان أنه أوَّل من وضع أقدام الدولة بشكلٍ عمليٍّ على طريق الإصلاح والتغيير، وهذه ليست خطوةً سهلةً في مجتمعٍ متحفِّظ كالمجتمع العثماني في هذا الزمن، ولا شَكَّ أن لهذا التغيير مزايا وعيوبًا، ولكن مبدأ الإصلاح في حدِّ ذاته مبدأٌ رائع، ويحتاج إلى جرأةٍ وفعاليَّة، وهو ما كان يتميَّز به هذا السلطان.
معاهدة بلطة ليمان التجاريَّة مع بريطانيا (1838م):
عُقِدت معاهدة بلطة ليمان Balta Liman في 16 أغسطس 1838م[189]. كانت هذه المعاهدة هي أكثر المعاهدات تساهلًا في تاريخ الدولة العثمانية؛ إذ تحدَّدت الرسوم بين الدولتين لتكون 5% على الواردات، و12% على الصادرات[190]. هذا في الواقع يعود بالفائدة الأكبر على بريطانيا التي ستجد سوقًا ضخمةً لبضائعها. -أيضًا- ستكون هناك نتيجةٌ سلبيَّةٌ على المستوى الداخلي؛ حيث إن سهولة تواجد البضائع الإنجليزيَّة المتميِّزة في الأقطار العثمانيَّة سيعيق عمليَّات التصنيع في الدولة لعدم قدرتها على منافسة المنتج الإنجليزي[191]، خاصَّةً أن بريطانيا كانت في ذلك الوقت هي الدولة الصناعيَّة الأولى في العالم، وإنتاجها غزيرٌ للغاية. لهذا السبب رفض محمد علي باشا تنفيذ الاتفاقيَّة في مصر[192]؛ لأنها تُهدِّد مشروعاته الصناعيَّة، وهذه في الواقع رؤيةٌ عميقةٌ من الوالي المصري، لكن يبدو أن السلطان محمود الثاني لم يأخذ بها لعدم قدرات بلاده على التصنيع أصلًا، أو لأن هناك ضغطًا مباشرًا من بريطانيا لقبول المعاهدة. أنا في الواقع أعتقد أن الضغط الإنجليزي كان هو السبب الرئيس في الموافقة على هذه المعاهدة المضرَّة بالدولة العثمانية؛ لأن زمن توقيعها كان متوافقًا مع إعلام محمد علي باشا لقنصلي بريطانيا وفرنسا في مصر بأنه يسعى إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية، وكان هذا الإعلام في 25 مايو 1838م[193]، وكان هذا الإعلام بعد فشل مفاوضاتٍ عثمانيَّةٍ مصريَّة.
هذا يعني أن معاهدة بلطة ليمان كانت بعد أقلَّ من ثلاثة شهور على هذا التهديد، فيكون السلطان بهذه المعاهدة قد ضَمِن مساعدة بريطانيا له ضدَّ محمد علي باشا في حربه المتوقَّعة قريبًا! بعضهم يرى -تفاؤلًا- أن محمودًا الثاني كان يتوقَّع أن إغلاق المصانع التركيَّة التقليديَّة نتيجة عدم قدرتها على منافسة الصناعات الإنجليزيَّة الحديثة أمرٌ فيه مصلحةٌ على المدى البعيد؛ لأنه سيدفع الصنَّاع العثمانيِّين إلى بناء مصانعهم بالطرق العلميَّة الأوروبِّيَّة الحديثة، ولكن حقيقة الأمر أن هذا لم يتحقَّق على أرض الواقع[194]! يرى المؤرِّخ التركي كاندان بادِم Candan Badem أن الدولة العثمانيَّة فعَّلت في هذه المعاهدة عكس ما تفعله كلُّ الدول لحماية تصنيعها وأسواقها المحلِّيَّة؛ وذلك برفع الضريبة على الصادرات وخفضها على الواردات[195]! لا يكون هذا في رأيي إلا اضطرارًا تحت الحاجة الملحَّة لعون الإنجليز! أيًّا كان الأمر فإن هذا الموقف جعل بريطانيا تتَّجه بشكلٍ أكبر إلى محالفة الدولة العثمانية الضعيفة، ومعاداة محمد علي باشا القوي.
الحرب العثمانيَّة المصريَّة الثانية (1839-1841م):
لم يكن السلطان محمود الثاني راضيًا عن نتيجة معاركه السابقة مع محمد علي باشا، وكان ينتظر الفرصة للتراجع عن الاتفاق الذي سلَّم فيه الشام له. حاول السلطان بدايةً بالطرق السلميَّة، فأرسل في عام 1837م صارم أفندي كمبعوثٍ للتفاوض، فعرض على الوالي المصري أن يجعل حكمه توارثيًّا في مصر على أن يقبل بالانسحاب من الشام كلِّه باستثناء الجنوب (فلسطين)، على ألا يكون الحكم وراثيًّا في جنوب الشام. رفض محمد علي باشا هذا الطرح، وكان يُدرك ان إمكانات الدولة العثمانية لا تسمح لها بطرده من الشام، ففشلت المفاوضات[196].
هنا قرَّر السلطان المواجهة العسكريَّة مع إبراهيم باشا المتمركز في الشام، لكنَّه قبل ذلك عمل على تهييج الشعب السوري للقيام بتمرُّدٍ على الجيش المصري ليُسَهِّل الصدام العسكري على العثمانيِّين[197][198]. كان السوريُّون غاضبين من الحكم المصري لكونه رفع قدر الضرائب المفروضة عليهم لتنفيذ المشاريع المدنيَّة والحربيَّة في الإقليم[199][200]، وكذلك بسبب مسألة التجنيد الإجباري في الجيش[201]، لهذا كان من السهل إثارة الناس عبر آليَّات المخابرات المعروفة.
في ربيع 1839م حرَّك السلطان محمود الثاني جيشه بشكلٍ صريحٍ إلى الحدود الجديدة بينه وبين محمد علي باشا[202]، وأمر الوالي المصري ابنه بعدم البدء بالقتال، والحرص على عدم الظهور بمظهر المعتدي[203]. لم يكترث الجيش العثماني بالبحث عن سببٍ قانونيٍّ لمخالفة اتفاق كوتاهية السابق (1833م) مع محمد علي باشا على أساس أن الوالي المصري هو الذي بدأ سابقًا بالتعدِّي دون اعتبارٍ لتبعيَّته للسلطان. اقتحم حافظ باشا بجيشه الأرض التابعة للمصريين، فتقدَّم إبراهيم باشا بجيشه؛ ليلتقي الجيشان في 24 يونيو 1839م عند مدينة نصيبين[204] على بعد مائة كيلو متر شمال شرق حلب (تُعْرَف المدينة -أيضًا- بنزيب[205] Nizip، وهي في تركيا الآن).
كان هذان الجيشان هما أفضل جيوش المسلمين في هذه الحقبة! الجيش المصري كان متطوِّرًا للغاية، والجيش العثماني كان قد طُوِّر على قدر الإمكان في السنوات الأخيرة. كان الجيشان متقاربَيْن في العدد تقريبًا (أربعون ألف مصري في مواجهة ثمانية وثلاثين ألف عثماني)، ولكن الجيش المصري كان أفضل من ناحية المهارة والتسليح[206]. لم يكن ينبغي قط لهذين الجيشين أن يصطدما سويًّا، خاصَّةً مع إدراك الجميع أن الخاسر الرئيس في هذه المعركة -أيًّا كانت نتيجتها- هم المسلمون، وأن المعركة ستصبُّ في كلِّ الأحوال في مصلحة القوى الأوروبِّيَّة وروسيا، لكن قدَّر اللهُ وما شاء فعل! أنا أُقَدِّر مشاعر السلطان المقهور محمود الثاني، لكني أراه تسرَّع في قرار الحرب؛ فحالة الدولة والجيش لا تتحمَّل صدامًا جديدًا، وليس من الحكمة فتح الأبواب للأوروبيين للتدخُّل من جديد في بلاد المسلمين، وحتمًا سيتدخلون! قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي: أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ[207] فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا»[208].
كانت معركة يومٍ واحد! انتصر الجيش المصري انتصارًا ساحقًا في المعركة يفوق انتصاراته السابقة كلها! كاد الجيش العثماني يفنى في أرض القتال، وأُسِر خمسة عشر ألف جنديٍّ منهم[209]! غنم المصريون من مدافع الجيش العثماني مائةً وستَّةً وستِّين مدفعًا، كما غنم عشرين ألف بندقيَّة[210]، وصار الطريق من جديد إلى إسطنبول مفتوحًا. أكثر من هذا توجَّه الأسطول العثماني بكامله -مع أنه لم يكن مشاركًا في القتال- إلى الإسكندرية ليضع نفسه -مختارًا- تحت رهن إشارة محمد علي باشا[211][212]!!
هذه المشاهدات لا تعني إلا معنًى واحدًا لا ثاني له: هذا سقوطٌ كاملٌ للدولة العثمانية، وتحويل دفَّة قيادة الأمَّة المسلمة من السلطان محمود الثاني العثماني إلى محمد علي باشا! لم يلفت هذا المشهد أنظار المعاصرين، ولم يلفت أنظار كثيرٍ من المؤرِّخين، الذين مرُّوا على الحدث بشكلٍ عابر، وهم يتأسَّفون على ما حدث للدولة الجريحة؛ الدولة العثمانية، وللسلطان المكلوم محمود الثاني، لكن هذا الحدث لفت نظر الأوروبيين، وخاصَّةً الإنجليز! إنهم لا يسمحون بضخِّ دماءٍ جديدةٍ في عروق المسلمين! لا ينبغي لقائدٍ مسلمٍ أن يتقوَّى إلى الدرجة التي تُمكِّنه من جمع المسلمين تحت رايةٍ واحدة، ولا يمكن أن تسمح القوى الأوروبِّيَّة بتكرار تجربة الدولة العثمانية الكبيرة التي أرهبت أوروبا عدَّة قرون، ولا يمكن أن يتركوا القاهرة تحلُّ محلَّ إسطنبول بهذه السهولة! لكلِّ هذا فزعت أوروبا، وحرَّكت دبلوماسيِّيها، وجنودها، ومدافعها، ولم تترك الأمور للاحتمالات، وصار هذا الحدث هو الشغل الشاغل لبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا، والنمسا، مع أن الصدام داخلي بين المسلمين! قال تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الإسراء: 64]!
ماذا فعل السلطان محمود الثاني بعد هذه الهزيمة القاسية؟!
الواقع أن اللهَ رحمه من سماع أخبار هذه الكارثة العسكريَّة والسياسيَّة؛ إذ وافته المنيَّة في أوَّل يوليو 1839م، بعد المعركة بأسبوعٍ واحد، عن عمرٍ قارب أربعًا وخمسين سنة[213]، ولم يكن الخبر قد وصل إسطنبول بعد[214]!
كانت مشكلة كبيرة أن يموت القائد المخضرم في هذه الظروف، خاصَّةً أن وليَّ العهد -ابنه الأمير عبد المجيد- كان يبلغ من العمر ستَّة عشر عامًا فقط! إن هذا الشاب الصغير سيواجه واحدةً من أعتى مشكلات الدولة العثمانية في كلِّ تاريخها!
سنأتي لتفصيل نتائج هذه الأزمة، ومواقف الدول الأوروبية، وما آلت إليه الأمور بعد موقعة نصيبين، لكن لا بُدَّ أوَّلًا من تعليقٍ ختاميٍّ على فترة حكم السلطان محمود الثاني.
من أصعب الأمور حقًّا أن تسعى لتقييم شخصيَّةٍ «مُصْلِحَة» في زمن انهيار! أوَّلًا ستكون أركان الدولة متصدِّعةً بشكلٍ لا تتحقَّق معه أيُّ نتيجةٍ إيجابيَّةٍ مهما كان الإصلاح عبقريًّا! ثانيًا ستكون الأمور في غاية الإبهام بالنسبة إلى المـُصْلِح لاتِّساع الخرق على الراقع، وبالتالي في ظلِّ الفتن الكثيرة التي تجتاح الدولة لن تكون الرؤية واضحةً له أبدًا. ثالثًا تختلف طرق التحليل للأحداث؛ فالسياسة الشرعيَّة تختلف عن السياسة التي يمارسها الناس في أمورٍ كثيرة، والتحليل الواقعي يختلف عن التحليل المثالي، والتحليل بقواعد زماننا المعاصر يختلف عن التحليل الذي كان يمارسه السياسيُّون في هذه الحقبة. رابعًا وأخيرًا لا تتوفَّر لدينا كلُّ المعلومات التي بسببها أخذ السلطان قرارًا ما، خاصَّةً في هذا الزمن المليء بالمكائد والمؤامرات، فيسعى حينئذٍ كلُّ طرفٍ إلى إخفاء أكبر قدرٍ من الحقيقة. ومع ذلك يمكن القول إن السلطان محمودًا الثاني كان مجتهدًا تمام الاجتهاد في إنقاذ دولته. تعرَّضت الدولة في زمانه لخسائر عسكريَّة كثيرة، بعضها كان مهينًا، لكن هذا لم يكن في معظم الأحوال نتيجة خطأ منه؛ إنما لضعف الجيش والدولة بشكلٍ عام، وهذا نتيجة أخطاءٍ متراكمةٍ منذ أكثر من قرنين. اهتزَّ اقتصاد الدولة كذلك نتيجة هذه الخسائر، وفقدت الدولة هيبتها، واستجدت المساعدة من أعدائها. على الرغم من ذلك سعى السلطان محمود الثاني بصبرٍ وإصرارٍ إلى رسم خريطةٍ صالحةٍ للدولة، يمكن للسلاطين القادمين بعد ذلك أن يسترشدوا بها للخروج من الأزمة إذا تغيَّرت الظروف.
انتقد بعضهم سعيه بناء دولته على النظم الأوروبية، وعدَّ بعضهم هذا مسخًا لعقيدة الولاء والبراء! ولكن هذا في الواقع ظلمٌ للسلطان المصلح الذي كان يجتهد في الجمع بين قواعد الشريعة الإسلاميَّة وبين ما وصلت إليه أوروبا من تفوُّقٍ في علوم الحرب، والسياسة، والإدارة، والاقتصاد، وغير ذلك، ولا يمنع هذا أن يكون قد وقع في بعض الأخطاء، أو اختار خلاف الأولى، أو كانت له موازناتٌ لا نطَّلع عليها، لكن كل هذا لا يحرمه من «أجر» الاجتهاد حتى لو أخطأ. قال رَسُولُ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»[215]. ولا ننسى أن علماء الدولة العثمانية أحنافٌ بشكلٍ حصري، وهؤلاء ينتمون جميعًا لمدرسة «الرأي»، ويعتمدون كثيرًا على القياس، وبالتالي قد يختارون رأيًا شرعيًّا في مسألة، ويُخالفهم في ذلك كثيرٌ من العلماء الآخرين المنتمين إلى مدرسة «الحديث».
عمومًا، على الرغم من كلِّ شيء، وعلى الرغم من النتائج القاسية، وعلى الرغم من الموت والبلاد بهذه الحالة، سيظلُّ محمود الثاني واحدًا من أعظم السلاطين العثمانيِّين حرصًا على مصلحة الدولة، ومن أكثرهم جديَّةً في العمل، ومن أشدِّهم إصرارًا على الكفاح على الرغم من كلِّ المعوقات. لا أحسب أنه رأى يومًا واحدًا سعيدًا في حياته، فأسأل الله أن يغفر ذنوبه، ويُسْعِد آخرته[216].
[1] أبو داود: كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (3855) عن أسامة بن شريك t، والترمذي (2038)، وقال: حديث حسن، وابن ماجه (3436)، وأحمد (18477)، والحاكم (8206)، وقال: حديث صحيح. ووافقه الذهبي، والبخاري في الأدب المفرد (291)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (2930).
[2] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 398.
[3] Georgeon, François: Ottomans and Drinkers: the Consumption of Alcohol in Istanbul in the Nineteenth Century, In: Rogan, Eugene L.: Outside In: Marginality in the Modern Middle East, I.B.Tauris, London, UK, 2002., p. 15.
[4] جرانت، أ. ج.؛ وتمبرلي، هارولد: أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين 1789 - 1950، ترجمة: بهاء فهمي، مراجعة: أحمد عزت عبد الكريم، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1950م.صفحة 1/421.
[5] الرافعي، عبد الرحمن: عصر محمد علي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، 2001م. الصفحات 327-335.
[6] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م.صفحة 2/236.
[7] جودت، صالح: مصر في القرن التاسع عشر، مكتبة الشعب، القاهرة، (دون سنة طبع).صفحة 16.
[8] الرافعي، 2001 الصفحات 337-342.
[9] سرهنك، 1895 صفحة 2/237.
[10] الجبرتي، عبد الرحمن بن حسن: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، دار الجيل، بيروت، (دون سنة طبع).صفحة 3/363.
[11] الرافعي، 2001 صفحة 367.
[12] فريد، محمد: البهجة التوفيقية في تاريخ مؤسس العائلة الخديوية، تحقيق: أحمد زكريا الشلق، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1426هـ=2005م.صفحة 241.
[13] الرافعي، 2001 الصفحات 397-401.
[14] مبارك، علي: الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008م.صفحة 1/187.
[15] جودت، (دون سنة طبع) الصفحات 17-19.
[16] فريد، 2005 الصفحات 241، 242.
[17] القاضي، محمد: الفكر الاصلاحى عند العرب فى عصر النهضة، دار الجنوب، 1992م.صفحة 44.
[18] مبارك، 2008 الصفحات 15/266–268.
[19] سرهنك، 1895 صفحة 2/252.
[20] الرافعي، 2001 صفحة 510.
[21] هنتر، روبرت: مصر الخديوية: نشأة البيروقراطية الحديثة، ترجمة: بدر الرفاعي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005م.صفحة 27.
[22] الرافعي، 2001 صفحة 495.
[23] جودت، (دون سنة طبع) صفحة 13.
[24] مبارك، 2008 صفحة 1/184.
[25] سرهنك، 1895 صفحة 2/229.
[26] مبارك، 2008 صفحة 1/184.
[27] الرافعي، 2001 صفحة 513.
[28] جودت، (دون سنة طبع) صفحة 18.
[29] سرهنك، 1895 صفحة 2/234.
[30] الرافعي، 2001 صفحة 515.
[31] سرهنك، 1895 صفحة 2/231.
[32] عبد الفتاح، عصام: أيام محمد علي: عبقرية الإرادة وصناعة التاريخ، دار المنهل، 2014م.صفحة 82.
[33] حاكم، 2017 صفحة 207.
[34] جودت، (دون سنة طبع) صفحة 14.
[35] صبري، محمد: تاريخ مصر الحديث من محمد علي إلى اليوم، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1926م.صفحة 60.
[36] مبارك، 2008 صفحة 1/222.
[37] الرافعي، 2001 الصفحات 407، 410–422.
[38] الرافعي، 2001 صفحة 220.
[39] صبري، 1926 صفحة 66.
[40] غازي، علي عفيفي علي: الجزيرة العربية والعراق في استراتيجية محمد علي، دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2016م. الصفحات 35، 36.
[41] الرافعي، 2001 صفحة 220.
[42] غازي، 2016 صفحة 35.
[43] Philipp, Thomas: Acre: The Rise and Fall of a Palestinian City, 1730-1831, Columbia University Press, New York, USA, 2001., p. 12.
[44] Hajjar, J.: L'Europe et Les Destinées Du Proche-Orient (1815-1848) (in French), Tournai, Belgium, 1970., p. 103.
[45] لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م. صفحة 131.
[46] خوري، اميل؛ وإسماعيل، عادل: السياسة الدولية في الشرق العربي، دار النشر للسياسة والتاريخ، بيروت، 1960 الصفحات 2/57، 58.
[47] لونگريك، ستيفن هيمسلي: أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث، ترجمة: جعفر الخياط، مكتبة اليقظة العربية، الطبعة السادسة، 1985م.الصفحات 327-333.
[48] سرهنك، 1895 صفحة 1/686.
[49]روسي، إتوري: ليبيا منذ الفتح العربي حتى سنة 1911، الدار العربية للكتاب، الطبعة الثانية، 1411هـ=1991م.الصفحات 404-411.
[50] Clodfelter, Micheal: Warfare and Armed Conflicts: A Statistical Encyclopedia of Casualty and Other Figures, 1492-2015, McFarland & Company, Inc., Publishers, Jefferson, North Carolina, USA, Fourth Edition, 2017., p. 192.
[51] صبري، محمد: تاريخ مصر الحديث من محمد علي إلى اليوم، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1926م. صفحة 65.
[52] Dodwell, Henry: The Founder of Modern Egypt: A Study of Muhammad 'Ali, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 2011., p. 242.
[53] قاسم، محمد؛ وحسني، حسين: تاريخ القرن التاسع عشر في أوروبا منذ عهد الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العظمى، مطبعة دار الكتب المصرية-لجنة التأليف والنشر، القاهرة، الطبعة السادسة، 1348هـ=1929م.الصفحات 142، 143.
[54] جوان، إدوارد: مصر في القرن التاسع عشر، تعريب: محمد مسعود، القاهرة، الطبعة الأولى، 1340هـ=1921م. صفحة 775.
[55] شاروبيم، ميخائيل: الكافي في تاريخ مصر الحديث والقديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1425هـ=2004م.صفحة 4/67.
[56] ابن سعد، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع: الطبقات الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1410هـ=1990م.صفحة 3/158.
[57] رفيع، حماد بن محمد: سؤال الوعي التاريخي وإشكال بناء الرؤية، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العدد 60، 2010م.صفحة 113.
[58] ابن بطال: شرح صحيح البخاري، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الثانية، 1423هـ=2003م.الصفحات 10/7-9.
[59] ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى النَّاسِ رَجُلٌ وَقَهَرَهُمْ بِسَيْفِهِ، حَتَّى أَقَرُّوا لَهُ، وَأَذْعَنُوا بِطَاعَتِهِ وَتَابَعُوهُ، صَارَ إِمَامًا يَحْرُمُ قِتَالُهُ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ؛ إِذِ الْمَدَارُ عَلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَارْتِكَابِ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، وَصَوْنًا لإِرَاقَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ... وزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ التَّغَلُّبُ جَامِعًا لِلشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الإْمَامَةِ، وَإِلاَّ فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَتُهُ. انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، 1983 الصفحات 31/ 262، 263.
[60] لوتسكي، 1985 صفحة 127.
[61] شاروبيم، 2004 صفحة 4/67.
[62] إبراهيم، 1856 صفحة 275.
[63] جوان، 1921 صفحة 776.
[64] تشرشل، 1998 الصفحات 3/301، 302.
[65] الشدياق، 1954 الصفحات 2/206–209.
[66] جوان، 1921 صفحة 777.
[67] الشهابي، حيدر: لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، عني بضبطه ونشره وتعليق حواشيه ووضع مقدمته وفهارسه: أسد رستم، فؤاد افرام البستاني، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1933م.الصفحات 3/828–830.
[68] الرافعي، 2001 صفحة 225.
[69] فريد، 1981 صفحة 449.
[70] الرافعي، 2001 صفحة 225.
[71] الشدياق، طنوس يوسف: أخبار الأعيان في جبل لبنان، مكتبة العرفان، بيروت، 1954م.صفحة 2/211.
[72] مبارك، 2008 صفحة 1/188.
[73] شيلشر، ليندا: دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مراجعة: عطاف مارديني، ترجمة: عمرو الملاح، دينا الملاح، دار الجمهورية، دمشق، الطبعة الأولى، 1419هـ=1998م. صفحة 60.
[74] شيلشر، 1998 صفحة 61.
[75] شاروبيم، 2004 صفحة 4/71.
[76] جوان، 1921 صفحة 777.
[77] بازيلي، قسطنطين ميخالوفيتش: سوريا ولبنان وفلسطين تحت الحكم التركي من الناحيتين السياسية والتاريخية، مراجعة: منذر جابر، ترجمة: يسر جابر، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1988م.صفحة 146.
[78] الرافعي، 2001 صفحة 229.
[79] فريد، 1981 صفحة 450.
[80] الشهابي، 1933 صفحة 3/867.
[81] صبري، 1926 صفحة 66.
[82] Suriano, Matthew J.: Historical Geography of the Ancient Levant, In: Steiner, Margreet L. & Killebrew, Ann E.: The Oxford Handbook of the Archaeology of the Levant: C. 8000-332 BCE, Oxford University Press, Oxford, UK, 2013., p. 11.
[83] لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م.صفحة 127.
[84] كتافاكو، انطون: فتوحات ابراهيم باشا المصري في فلسطين ولبنان وسوريا نقلا عن تقارير انطون كتافاكو قنصل النمسا في عكا وصيدا 1831 – 1841، عربها وعلق عليها: الخوري بولس قرألي، مطبعة القديس بولس، حريصا-لبنان، 1937م.صفحة 34.
[85] شاروبيم، 2004 صفحة 4/71.
[86] جوان، 1921 صفحة 779.
[87] قاسم، وحسني، 1929 صفحة 188.
[88] رستم، أسد: بشير بين السلطان والعزيز 1804-1840، منشورات المكتبة البوليسية، بيروت، 1985م.الصفحات 85، 86.
[89] دودويل، هنري: الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2017م، 2017 صفحة 110.
[90] مشاقة، مخائيل: مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان، منشئه: ملحم خليل عبدو، أندراوس حنا شماشيري، مصر، 1908م.صفحة 108.
[91] الرافعي، 2001 صفحة 243.
[92] إبراهيم أفندي: مصباح الساري ونزهة القاري، بيروت، الطبعة الأولى، 1272هـ=1856م.صفحة 278.
[93] McGregor, Andrew James: A Military History of Modern Egypt: From the Ottoman Conquest to the Ramadan War, Greenwood Publishing Group, Westport, CT, USA, 2006., p. 107.
[94] شاروبيم، 2004 صفحة 4/97.
[95] فهمي، خالد: كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة، ترجمة: شريف يونس، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1422هـ=2001م.صفحة 216.
[96] مبارك، 2008 صفحة 1/189.
[97] سرهنك، 1895 صفحة 1/687.
[98] جوان، 1921 صفحة 781.
[99] فهمي، 2001 صفحة 101.
[100] الرافعي، 2001 صفحة 246.
[101] شاروبيم، 2004 صفحة 4/98.
[102] مشاقة، 1908 صفحة 109.
[103] لوتسكي، 1985 صفحة 128.
[104] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م.صفحة 527.
[105] Temperley, Harold William Vazeille: History of Serbia, London, UK, 1964., 1964, p. 63.
[106] جرانت، أ. ج.؛ وتمبرلي، هارولد: أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين 1789 - 1950، ترجمة: بهاء فهمي، مراجعة: أحمد عزت عبد الكريم، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1950م.الصفحات 1/309–312.
[107] كامل، مصطفى: المسألة الشرقية، مطبعة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1898م.صفحة 90.
[108] لوتسكي، 1985 صفحة 129.
[109] دولينا، نينل الكسندروفنا: الإمبراطورية العثمانية وعلاقاتها الدولية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، ترجمة: أنور محمد إبراهيم، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999م.صفحة 30.
[110] كامل، 1898 صفحة 89.
[111] صبري، 1926 صفحة 68.
[112] دودويل، هنري: الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي، مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2017م.صفحة 114.
[113] شاروبيم، 2004 صفحة 4/99.
[114] دودويل، 2017 صفحة 113.
[115] لوتسكي، 1985 صفحة 129.
[116] أوزتونا، 1990 صفحة 2/16.
[117] لوتسكي، 1985 صفحة 129.
[118] الرافعي، 2001 صفحة 253.
[119] كامل، 1898 صفحة 90.
[120] دودويل، 2017 صفحة 114.
[121] دولينا، 1999 صفحة 33.
[122] يانج، جورج: تاريخ مصر من عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل، ترجمة: علي أحمد شكري، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1416هـ=1996م.صفحة 130.
[123] سرهنك، 1895 صفحة 2/246.
[124] بكديللي، كمال: الدولة العثمانية من معاهدة قينارجه الصغرى حتى الانهيار، ضمن كتاب: إحسان أوغلي، أكمل الدين: الدولة العثمانية تاريخ وحضارة، ترجمة: صالح سعداوي، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إستانبول، 1999م. صفحة 1/96.
[125] انظر الخريطة ص PAGEREF خريطة37 \h 1051.
[126] دولينا، 1999 صفحة 33.
[127] لوتسكي، 1985 صفحة 129.
[128] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، صفحة 2/17.
[129] بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م.صفحة 548.
[130] يانج، 1996 صفحة 130.
[131] دولينا، 1999 صفحة 34.
[132] كينروس، 2002 صفحة 528.
[133] لوتسكي، 1985 صفحة 130.
[134] صبري، 1926 صفحة 70.
[135] صفوت، محمد مصطفى: محاضرات في المسألة الشرقية ومؤتمر باريس، معهد الدراسات العربية العالية-جامعة الدول العربية، القاهرة، 1958م.الصفحات 18، 19.
[136] Bailey, Frank Edgar: British Policy and the Turkish Reform Movement: A Study in Anglo-Turkish Relations, 1826-1853, Harvard University Press, Cambridge, UK, 1942., p. 49.
[137] كينروس، 2002 صفحة 528.
[138] McGregor, 2006, p. 109.
[139] لبيب، حسين: تاريخ المسألة الشرقية، مطبعة الهلال، القاهرة، 1921م.صفحة 71.
[140] يانج، 1996 صفحة 144.
[141] Shaw, Stanford Jay & Shaw, Ezel Kural: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Reform, Revolution and Republic: The Rise of Modern Turkey, 1808-1975, Volume II, Cambridge University Press, New York, USA, 1977., vol. 2, p. 25.
[142] Şiviloğlu, Murat R.: The Emergence of Public Opinion: State and Society in the Late Ottoman Empire, Cambridge University Press, Cambridge, UK, 2018., p. 137.
[143] Hill, Fred James & Awde, Nicholas: A History of the Islamic World, Hippocrene Books, New York, USA, 2003., p. 143.
[144] Shaw, Stanford Jay & Shaw, Ezel Kural: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Reform, Revolution and Republic: The Rise of Modern Turkey, 1808-1975, Volume II, Cambridge University Press, New York, USA, 1988., vol. 2, pp. 29-30.
[145] كينروس، 2002 صفحة 517.
[146] Dönmez, Rasim Özgür: The Relationship between Nation-Building, Islam, and Islamism in Turkey, In: Dönmez, Rasim Özgür & Yaman, Ali: Nation-Building and Turkish Modernization: Islam, Islamism, and Nationalism in Turkey, Rowman & Littlefield Publishing Group, Lanham, Maryland, USA, 2019., p. 14.
[147] بروكلمان، 1968 صفحة 557.
[148] أوزتونا، 1990 صفحة 2/20.
[149] Sondhaus, Lawrence: Naval Warfare, 1815–1914, Routledge, London, UK, 2001., p. 17.
[150] Özdeniz, Halûk: İstanbul Deniz Müzesi, English translation by: Adair Mill, Ak Yayınları Sanat, Istanbul, Turkey, 1978., p. 57.
[151] كينروس، 2002 صفحة 522.
[152] عمر، عمر عبد العزيز: تاريخ المشرق العربي (1516 - 1922)، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، (دون سنة طبع) (أ).صفحة 271.
[153] مانتران، روبير: بدايات المسألة الشرقية (1839-1774)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م (د).صفحة 2/56.
[154] كينروس، 2002 صفحة 524.
[155] مانتران، 1993 (د) صفحة 2/55.
[156] كينروس، 2002 الصفحات 522، 523.
[157] صفوت، 1958 صفحة 4.
[158] بروكلمان، 1968 صفحة 558.
[159] Lewis, Bernard: The Emergence of Modern Turkey, Oxford University Press, London, UK, 1962., pp. 88-90.
[160] بكديللي، 1999 صفحة 1/98.
[161] مصطفى، أحمد عبد الرحيم: في أصول التاريخ العثماني، دار الشروق، بيروت-القاهرة، الطبعة الثانية، 1406هـ=1986م.صفحة 191.
[162] أوزتونا، 1990 صفحة 2/21.
[163] مانتران، 1993 (د) صفحة 2/54.
[164] Georgeon, François: Ottomans and Drinkers: the Consumption of Alcohol in Istanbul in the Nineteenth Century, In: Rogan, Eugene L.: Outside In: Marginality in the Modern Middle East, I.B.Tauris, London, UK, 2002., p. 15.
[165] أوزتونا، 1990 صفحة 2/25.
[166] كينروس، 2002 صفحة 525.
[167] أوزتونا، 1990 صفحة 2/20.
[168] كينروس، 2002 صفحة 520.
[169] دولينا، 1999 صفحة 54.
[170] مانتران، 1993 (د) صفحة 2/54.
[171] رافق، عبد الكريم: العرب والعثمانيون 1516 – 1916م، دمشق، الطبعة الأولى، 1974م.صفحة 379.
[172] كينروس، 2002 صفحة 520.
[173] عمر، (دون سنة طبع) (أ) صفحة 272.
[174] بكديللي، 1999 صفحة 1/100.
[175] كينروس، 2002 الصفحات 525، 526.
[176] Isom-Verhaaren, Christine & Schull, Kent F: Living in the Ottoman Realm: Empire and Identity, 13th to 20th Centuries, Indiana University Press, Bloomington, Indianapolis, USA, 2016., p. 261.
[177] Dabrowski, Patrice M. & Troebst, Stefan: Uses and abuses of the past, In: Livezeanu, Irina & von Klimó, Árpád: The Routledge History of East Central Europe Since 1700, Routledge Taylor & Francis, London, UK, 2017., p. 479.
[178] Vernoit, Stephen: The Visual Arts in Nineteenth-Century Muslim Thought, In: Behrens-Abouseif, Doris & Vernoit, Stephen: Islamic Art in the 19th Century: Tradition, Innovation, and Eclecticism, Brill, Leiden, Netherlands, 2006., p. 23.
[179] كينروس، 2002 صفحة 525.
[180] بكديللي، 1999 صفحة 1/101.
[181] Shaw & Shaw, 1977, vol. 2, p. 49.
[182] ياغي، إسماعيل أحمد: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الرياض، 1995م.صفحة 133.
[183] أوزتونا، 1990 صفحة 2/23.
[184] Creasy, Sir Edward Shepherd: Turkey, P.F. Collier & Son Corporation, 1939., p. 408.
[185] Ahmad, Feroz: The Making of Modern Turkey, Routledge, London, UK, 1993., pp. 25-27.
[186] أوزتونا، 1990 صفحة 2/19.
[187] كينروس، 2002 صفحة 519.
[188] Özdalge, Elisabeth: Secularism, In: Heper, Metin & Sayarı, Sabri: The Routledge Handbook of Modern Turkey, Routledge, London, UK, 2012., p. 207.
[189] لوتسكي، 1985 صفحة 137.
[190] دولينا، 1999 صفحة 93.
[191] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م.صفحة 388.
[192] لوتسكي، 1985 صفحة 137.
[193] Udal, John O.: The Nile in Darkness: Conquest and Exploration, 1504-1862, Michael Russell, Norwich, UK, 1998., p. 292.
[194] Ahmad, 1993, p. 27.
[195] Badem, Candan: The Ottoman Crimean War: (1853–1856), Brill, Leiden, Netherlands, 2010., pp. 59-61.
[196] بازيلي، قسطنطين ميخالوفيتش: سوريا ولبنان وفلسطين تحت الحكم التركي من الناحيتين السياسية والتاريخية، مراجعة: منذر جابر، ترجمة: يسر جابر، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1988م.الصفحات 213، 214.
[197] جوان، 1921 صفحة 789.
[198] دولينا، 1999 صفحة 91.
[199] مشاقة، 1908 صفحة 111.
[200] لوتسكي، 1985 الصفحات 134، 135.
[201] أوبنهايم، ماكس فرايهير فون؛ وكاسكل، ورنر؛ وبرونيلش، آرش: البدو، تحقيق وتقديم: ماجد شبر، ترجمة: محمود كبيبو، شركة دار الوراق للنشر المحدودة، لندن، الطبعة الثانية، 2007م.صفحة 1/420.
[202] فريد، 1981 صفحة 453.
[203] مبارك، 2008 الصفحات 1/190، 191.
[204] قاسم، وحسني، 1929 صفحة 190.
[205] بكديللي، 1999 صفحة 1/101.
[206] الرافعي، 2001 الصفحات 274، 275.
[207] بالسَّنَة؛ أي: بالقَحْط العامِّ.
[208] مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (2890)، عن سعد بن أبي وقاص t، وابن ماجه (3951)، وأحمد (1516)، وابن حبان (7237)، والحاكم (8579).
[209] الرافعي، 2001 الصفحات 277-281.
[210] فريد، 1981 صفحة 453.
[211] قاسم، وحسني، 1929 صفحة 190.
[212] بروكلمان، 1968 صفحة 560.
[213] أوزتونا، 1990 صفحة 2/23.
[214] إبراهيم، 1856 صفحة 279.
[215] البخاري: كتاب الاعتصام بالله، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (6919)، عن عمرو بن العاص t، ومسلم: كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (15).
[216] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 1026- 1063.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك