التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
كان السلطان مراد الخامس في السادسة والثلاثين من العمر وقت ولايته الدولة العثمانية، وكان قد تلقى في طفولته تعليمًا راقيًا، وكان مثقفًا ثقافة واسعة.
عهد الانهيار الجلي وسلاطينه
عانت الدولة العثمانية من الانهيار الفعلي منذ هزيمتها الكبيرة أمام الروس في حرب القرن الثامن عشر (1768-1774م)، ولكن حافظت القوى الأوروبِّيَّة العظمى على بقائها متماسكة -على الأقل في الظاهر- لتمنع روسيا من ابتلاعها. بعد عقود من هذه الطريقة الأوروبِّيَّة العجيبة لحفظ موازين القوى رأى الأوروبِّيُّون أن الكيان العثماني غير قادرٍ على الصمود أكثر من ذلك، بالإضافة إلى تغيُّر الفكر السياسي عند القادة الأوروبِّيِّين؛ حيث اتِّجهوا إلى تنفيذ الإمبرياليَّة الاستعماريَّة على «كلِّ» مناطق العالم. هذا الضعف العثماني الشديد، وهذا الفكر الأوروبي الجديد، دَفَعَ قادة أوروبا إلى ترك الدولة العثمانيَّة تغرق في بحار مشاكلها المزمنة! الآن في هذا الحقبة الأخيرة من عمر الدولة (من 1876 إلى 1924م) ستسعى القوى الأوروبية الكبرى إلى تقسيم الدولة العثمانية بينهم جهارًا.
سيسعى بعض أبناء الدولة العثمانية الواقعيِّين إلى تقليل حجم الخسارة، أو على الإبقاء على أيِّ شيءٍ من الدولة، وسيسعى فريقٌ آخر من الطموحين إلى محاولة استعادة الدولة العثمانية لمكانتها القياديَّة في العالم الإسلامي، وستدور صراعاتٌ بين الفريقين، وستتفاقم هذه الصراعات نتيجة الاختلافات الأيدلوجيَّة، والمنهجيَّة، وهذا سيُسهم في تسريع وتيرة الانهيار.
ستشهد هذه المرحلة الحزينة من تاريخ الدولة ولاية خمسة سلاطين، ومن خلال دراسة تاريخهم سنعرف تفصيلات الانهيار الجلي لهذه الإمبراطوريَّة الكبرى.
السلطان مراد الخامس (1876م)
بعد خلع السلطان عبد العزيز أتي الانقلابيُّون بوليِّ العهد الأمير مراد بن عبد المجيد الأول ليصعد إلى سُدَّة الحكم تحت اسم «مراد الخامس». كان السلطان مراد الخامس في السادسة والثلاثين من العمر وقت ولايته[1]، وكان قد تلقَّى في طفولته وشبابه تعليمًا راقيًا، وكان مثقفًا ثقافةً واسعة[2]، وكان يُتقن الفرنسيَّة بشكلٍ متميِّز، وكانت أفكاره متقاربةً جدًّا مع أفكار جمعيَّة تركيا الفتاة، حتى عدَّه بعض المؤرِّخين واحدًا منهم[3]. ومع هذا، وتبعًا للعادة السلطانيَّة العثمانيَّة، حُبِسَ -هو وإخوته- في قصورٍ ملكيَّة منذ ولاية عبد العزيز للحكم[4]، أي مدَّة خمس عشرة سنة، وهذا الحبس لم يُؤثِّر فقط على اطِّلاع الأمير المحبوس على أحوال الدنيا، وعلى آليَّات السياسة، ولم ينتقص فقط من خبرة الأمير وقدراته المهاريَّة على القيادة؛ إنما أثَّر كثيرًا على صحَّته النفسيَّة، وانتقص قدرًا من قدراته العقليَّة[5]. واقع الأمر أن بعض الناس يكونون على شفا الأمراض النفسيَّة، فتأتي هذه الضغوط الشديدة والظروف غير التقليديَّة، وتدفعهم بشكلٍ حاسمٍ إلى المرض النفسي الصريح، ولقد كان مراد الخامس من هؤلاء!
هكذا دفع الانقلابيُّون رجلًا مريضًا إلى حكم الدولة الكبيرة وفي هذه الظروف الصعبة، ثم مات السلطان عبد العزيز في ظروفٍ غامضةٍ كما مرَّ بنا، فزاد هذا الضغط النفسي من مرض السلطان الجديد[6].
في 30 يونيو 1876م -بعد شهر من ولاية مراد الخامس- أعلنت صربيا الحرب على الدولة العثمانية، وبعدها بيومين -في 2 يوليو- أعلن الجبل الأسود الحرب كذلك، وكان من الواضح أن الإقليمين -بالاتفاق غالبًا مع روسيا- يريدان استغلال الظرف الحرج الذي تمرُّ به الدولة للحصول على الاستقلال التام[7]. -أيضًا- كانت الثورة لا تزال مستمرَّةً في بلغاريا والبوسنة[8]. كانت الأوضاع على المستوى الداخلي مضطربةً كذلك؛ فقد اغتيل وزير الحربيَّة حسين عوني باشا، ووزير الخارجيَّة رشيد باشا[9].
هذه الاضطرابات، بالإضافة إلى تصعيدات صربيا والجبل الأسود، وثورة بلغاريا والبوسنة، أثارت المخاوف داخل العاصمة، ووجد الوزراء وقادة الجيش أن قيادة البلاد مستحيلة في ظلِّ مرض السلطان، ولذلك -وبعد استشارة أطباء كثيرين، وبعد فتوى شيخ الإسلام، وبعد التفاوض مع أخي السلطان الأصغر ووليِّ العهد الأمير عبد الحميد- قرَّر الوزراء خلع مراد الخامس بعد ثلاثة شهورٍ فقط من ولايته، ليصعد إلى الحكم الأمير عبد الحميد، والذي صار «عبد الحميد الثاني»، وذلك في 31 أغسطس 1876م[10].
[1] كولن، صالح: سلاطين الدولة العثمانية، ترجمة: منى جمال الدين، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1435هـ=2014م. صفحة 304.
[2] كينروس، چون باتريك: القرون العثمانية قيام وسقوط الإمبراطورية التركية، ترجمة وتعليق: ناهد إبراهيم دسوقي، منشأة المعارف، الإسكندرية-مصر، 2002م. صفحة 580.
[3] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م. صفحة 423.
[4] أبو عزة، 1998 صفحة 82.
[5] Palmer, Alan Warwick: The Decline and Fall of the Ottoman Empire, Barnes & Noble Publishing, 1992., pp. 141-143.
[6] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. صفحة 585.
[7] Reid, James J.: Crisis of the Ottoman Empire: Prelude to Collapse 1839-1878, Franz Steiner Verlag, Stuttgart, Germany, 2000., p. 310.
[8] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. صفحة 725.
[9] Shaw, Stanford Jay & Shaw, Ezel Kural: History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Reform, Revolution and Republic: The Rise of Modern Turkey, 1808-1975, Volume II, Cambridge University Press, New York, USA, 1977., vol. 2, p. 164.
[10] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 423.
انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 1115- 1117.
لشراء كتاب قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط يرجى الاتصال على الرقم التالي: 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك