التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يُعتبر السلطان عبد الحميد الثاني من أشهر السلاطين العثمانيِّين بشكلٍ عام، وترجع شهرته لأمور كثيرة ميَّزت فترة حكمه الطويلة.
السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909م)
يُعتبر السلطان عبد الحميد الثاني من أشهر السلاطين العثمانيِّين بشكلٍ عام، ولا ترجع شهرته إلى كثرة الإنجازات؛ بل لأمورٍ أخرى كثيرة ميَّزت فترة حكمه الطويلة، التي امتدَّت ثلاثًا وثلاثين سنةً كاملة؛ فقد كان السلطان عبد الحميد الثاني هو آخر الحكام الفعليِّين للدولة العثمانية، وفي عهده فقدت الدولة أراضي كثيرةً للغاية، كما شهدت صراعاتٍ داخليَّةً كبرى، وشهدت -أيضًا- نموًّا ملحوظًا للتيَّار القومي الذي أسَّس جمهوريَّة تركيا لاحقًا. شهدت فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني -أيضًا- مناداته وأنصاره بفكرة «الخلافة الإسلاميَّة»، والتي لم تكن مطروحةً بشكلٍ جدِّيٍّ في كلِّ تاريخ الدولة العثمانية قبل ذلك، و-أيضًا- شهدت صراعًا كبيرًا بين السلطان واليهود من أجل السيطرة على فلسطين، وبين السلطان والأرمن من أجل الحصول على استقلال دولتهم.
لا يتَّفق المؤرِّخون أبدًا على توصيف شخصيَّة السلطان عبد الحميد الثاني؛ فبعضهم يُدافع عنه بكلِّ سبيل، ويجعله من أعظم المصلحين، ويُطلق عليه «السلطان المظلوم»، وبعضهم يُهاجمه بكلِّ طاقته، ويجعله سببًا رئيسًا للخسائر الضخمة التي عانت منها الدولة في زمانه، ويُطلق عليه «السلطان الأحمر»، لاتهامه بالدمويَّة الشديدة، وقليلٌ من المؤرِّخين مَنْ يتوازن بين هذا وذاك[1]! إنها من أكبر الشخصيَّات الجدليَّة في تاريخ المسلمين، وعادةً عندما يوجد فريقان من المؤرِّخين متباعدان بهذه الصورة فإن الحقَّ على الأغلب يكون بينهما! لقد كان السلطان عبد الحميد الثاني رجلًا نزيهًا يريد الخير لدولته والمسلمين، ويعيش حياةً جادَّةً يصرف وقته فيها لصالح أمَّته، ولكنه كان في الوقت نفسه منفردًا في آرائه، لا يرى للشورى أهميَّة، ويحكم بطريقةٍ أوتوقراطيَّةٍ صِرْفة غير مناسبةٍ للعصر الذي يعيش فيه، كما أنه لم يكن سياسيًّا محترفًا، وكانت له أخطاءٌ جسيمة نتيجة قلَّة الخبرة، وعدم الأخذ بآراء الآخرين. في المجمل هو رجلٌ اجتهد -بطريقته- لإصلاح الدولة، ولكنَّه كان يحكم دولةً منهارةً لا سبيل البتَّة لإنقاذها، وكان عليه أن يُشْرِك العقلاء معه في إدارتها كي يخرج بأقلِّ الخسائر الممكنة، ولكنَّه لم يفعل، فحَمَلَ أمام التاريخ أوزار العقود والقرون الضعيفة التي سبقته!
يمكن تقسيم فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني إلى أربع مراحل كبرى، ويندرج في الواقع تحت كلِّ مرحلةٍ أحداثٌ كثيرة. المرحلة الأولى تمتدُّ عبر تسع سنوات، من 1876 إلى 1885م، وهي المرحلة التي شهدت ضغوطًا خارجيَّةً كارثيَّة، وذلك في شكل حروبٍ ضدَّ روسيا، وبريطانيا، وفرنسا، وفَقَدَت فيها الدولة من الأقطار ما لم تفقده في كلِّ تاريخها! المرحلة الثانية كانت تتميَّز بالهدوء النسبي، وهي تسع سنواتٍ أخرى، من 1885م إلى 1894م، وأبرز فيها السلطان اهتمامًا بالشأن الداخلي، كما شهدت هذه المرحلة تأسيس جماعة الاتحاد والترقي المشهورة. ثم تأتي المرحلة الثالثة، وهي ثلاث عشرة سنةً كاملة، من 1894 إلى 1907م، وفيها تعرَّضت الدولة لفتنٍ داخليَّةٍ كبيرة واضطرابات، ومحاولات انفصالٍ غير ناجحة، كما أنَّها شهدت نشاطًا سياسيًّا بارزًا ضدَّ السلطان، ثم تأتي المرحلة الرابعة والأخيرة، وهي سنتان فقط، ولكنَّهما عصيبتان، من 1907 إلى 1909م، وتفاقمت فيهما الاضطرابات، حتى انتهى الأمر بعزل السلطان من منصبه. وفي هذه المقال سوف نتحدث عن المرحلة الأولى:
المرحلة الأولى: الضغوط الخارجيَّة الكبرى، من روسيا، وبريطانيا، وفرنسا (1876-1885م)
لم يشهد السلطان عبد الحميد الثاني يومًا مريحًا سعيدًا في مدَّة حكمه كلِّها! ومع ذلك فأشدُّ فترات حياته صعوبةً كانت هذه الفترة الأولى التي استلم فيها الحكم دون توقُّعٍ منه! كان السلطان المخلوع عبد العزيز في السادسة والأربعين من عمره يوم خُلِع[2]، وكانت صحَّته جيِّدة، ولم يتوقَّع له أحدٌ ترك المـُلْكِ في هذا الوقت، وكان وليُّ عهده هو الأمير مراد، فحتى إذا خُلِع السلطان عبد العزيز أو مات فإن السلطان لن يكون عبد الحميد، لذلك عاش السلطان عبد الحميد الثاني طفولته وشبابه بعيدًا عن السياسة. كان محبوسًا في قصره الملكي[3] يتلقَّى العلوم، والفنون، واللغات، ويمارس الهوايات المحبَّبة له؛ كالنجارة، والموسيقى، والشعر، ويدرس الصوفيَّة ويتعمَّق فيها[4]، ثم فجأةً صار وليَّ العهد بعد خلع عمِّه عبد العزيز، ثم بعد ثلاثة شهورٍ فقط صار سلطان البلاد! ولَيْتَه صار سلطانًا على بلدٍ مستقرٍّ فيتمكَّن من اكتساب الخبرة على مرِّ الأيَّام، ولكنَّه تولَّى إمبراطوريَّةً تغلي داخليًّا وخارجيًّا، كأنَّه على شفا جُرُفٍ هارٍ!
من الأفضل أن نرفع الواقع الذي استلمه السلطان عبد الحميد الثاني في آخر أغسطس 1876م في شكل نقاط مختصرة لنفهم الأولويَّات التي تواجهها الدولة آنذاك:
· الدولة في حالة حربٍ فعليَّةٍ مع صربيا والجبل الأسود منذ شهرين[5]. كان كلا الإقليمين يتمتعان بالحكم الذاتي تحت التبعيَّة العثمانية، وهما الآن يسعيان للانفصال التام.
· الثورة البلغارية مستمرَّةٌ من أبريل 1876م، وأخبارها تملأ الصحف الأوروبِّيَّة، والمبالغات الإعلاميَّة في تصوير المجازر جعلت الشعوب في كامل أوروبا تهتمُّ بالحدث، خاصَّةً في بريطانيا[6].
· الثورة ما زالت مستمرَّةً كذلك في البوسنة والهرسك، وذلك منذ العام الماضي[7].
· الدول الأوروبِّيَّة انتهجت نهجًا جديدًا في تعاملها مع الدولة العثمانية؛ فبدلًا من سياسة المساعدة ضدَّ الروس كما كان في عهد محمود الثاني وعبد المجيد الأول، صار إغراق الدولة في الديون، والوقوف موقف المتفرِّج، هو السياسة الجديدة، وذلك استعدادًا لاحتلال البلاد بشكلٍ كامل، ولهذا فلا يوجد صديقٌ للدولة في هذه المرحلة!
· الدولة في حالة إفلاسٍ حقيقيَّة، وديون الدولة وصلت إلى أكثر من مائتين وخمسين مليون ليرة عثمانيَّة ذهبيَّة[8]، وهو رقمٌ ضخمٌ بمعايير ذلك الزمن.
· الوضع في ولاية مصر مؤسفٌ كذلك. كانت الدولة العثمانية تقترض من الدول الأوروبية -كما مرَّ بنا- بضمان الضريبة السنويَّة التي تدفعها مصر للدولة، ولكن للأسف وقعت مصر فيما وقعت فيه الدولة العثمانية من احتياجها للاقتراض من الخارج، ووصل الأمر إلى اضطرار الخديوي إسماعيل إلى بيع حصَّة مصر في قناة السويس لبريطانيا لسداد جانبٍ من الديون[9]، وبالتالي فالعون المصري صار منقطعًا، والتسلُّط البريطاني على الدولة العثمانية عن طريق الديون صار مزدوجًا؛ في الدولة الأم، وكذلك في مصر.
· حالة الجيش ضعيفةٌ للغاية، والفجوة بينه والجيوش المعاصرة كبيرة.
· الوضع الداخلي ملتهب، والتيارات الفكريَّة المتعارضة تمزِّق الدولة. هناك فريقٌ يُنادي بوضع الدستور، وتفعيل مجلس الشورى، والاتجاه نحو الدولة البرلمانيَّة على النمط الأوروبي الحديث، وعلى رأس هؤلاء مدحت باشا، ولفيفٌ من الوزراء، وكثيرٌ من المفكرين والمثقَّفين، وكلُّ المنتمين لجمعيَّة تركيا الفتاة، وفريقٌ آخر يلتزم بالسياسة العثمانية القديمة، ولا يرى داعيًا للبرلمان أو الدستور، بل يراهما تقليدًا للغرب، ويعتقد أنهما لا يناسبان مجتمعاتنا التي اعتادت القيادة الأوتوقراطيَّة؛ حيث الكلمة الأولى والأخيرة والوحيدة للسلطان. من الجدير بالذكر أن السلطان عبد الحميد الثاني كان من أنصار الفريق الثاني[10]، وأن الوزراء الذين خلعوا السلطانين عبد العزيز، ومراد الخامس، وأتوا بعبد الحميد الثاني سلطانًا كانوا من الفريق الأول، وهذا يُنذر بصدام فكري داخلي قريب!
· كانت الدولة العثمانية وقت استلام عبد الحميد الثاني للحكم تُعاني من تصادمٍ فكريٍّ آخر، وهو الصراع بين دعاة «القوميَّة»، ودعاة «الإسلاميَّة»؛ فقد ظهر دعاة يدعون «الأتراك» في الدولة العثمانية إلى التوحُّد حول عرقيَّتهم، وهم في ذلك متأثِّرون بأفكار القوميَّة التي انتشرت في أوروبا أعقاب الثورة الفرنسية، والتي انتشرت في الدولة العثمانية ذاتها، ونتج عنها الحركات الانفصاليَّة المتكرِّرة التي شهدها البلقان، وقد كان الأتراك معذورين في هذا التوجُّه في هذه الفترة لعدم وقوف أيِّ عرقيَّةٍ معهم -على الأقل في العقود الأخيرة- في أزماتهم المتكرِّرة مع الأعداء الخارجيِّين. كان هناك فريقٌ آخر -منهم السلطان عبد الحميد الثاني- يرى وجوب الاجتماع حول الجامعة الإسلاميَّة، والجامعة الإسلاميَّة Pan-Islamism هي رباطٌ فكريٌّ فقط وليست كيانًا معيَّنًا، وهي تعني أن يتكاتف المسلمون سويًّا في مواجهة الأزمات التي تواجههم، ومِنْ ثَمَّ كان إحياء الكلام حول «الخلافة الإسلامية» كنواةٍ يتجمَّع حولها المسلمون كلُّهم[11]. في رأيي أن الحديث عن الجامعة الإسلاميَّة لن يُرْضِي الشعوب النصرانية الكثيرة المندرجة تحت الدولة العثمانية، وسيستفزُّها للخروج من تبعيَّة الدولة المسلمة، كما أنه سيستعدي القوى الغربيَّة وروسيا بشكلٍ واضحٍ وسريع، والواقع أن الحديث عن إسلاميَّة الدولة في هذه الظروف التي تشهد ضعفًا ظاهرًا للدولة العثمانية قد لا يُناسب الواقع الذي تعيشه، وسيقود إلى الفرقة لا الاجتماع. عمومًا كان التعارض بين المدرستين الفكريَّتين واضحًا، وكانت محاولات التقريب التي بذلها بعضهم غير ناجحة، والحقُّ أن الظروف التي كانت تعيشها الأمَّة في هذه الفترة كانت تجعل كلَّ الرؤى مضطربة؛ فقد كانت الفتن كقطع الليل المظلم!
في ظلِّ هذه الأجواء الملتهبة كان توجُّه الدولة الاضطراري هو المواجهة العسكريَّة مع صربيا والجبل الأسود، على الرغم من إدراك الدولة أن هذا سيُثير روسيا!
حرب صربيا والجبل الأسود، وتدخل روسيا والدول الأوروبية، ومؤتمر إسطنبول، وإعلان الدستور:
كانت الحرب ضدَّ الجبل الأسود محدودةً بسبب وعورة الجبال، لكن في صربيا كان الوضع مختلفًا؛ إذ حقَّق الجيش العثماني عدَّة انتصارات، واكتسح الجنوب كلَّه، حتى صار الطريق إلى بلجراد مفتوحًا[12]! كانت هذه مفاجأةً غير متوقَّعةٍ في ظلِّ الظروف الصعبة التي تمرُّ بها الدولة العثمانية، واضطرَّ الصربيون إلى الاستغاثة بالروس الذين أرسلوا إنذارًا إلى السلطان بعقد هدنةٍ وإلا ستتدخل روسيا بالقوَّة[13]. رضخ السلطان، وأوقف القتال، وأعلن هدنةً لمدَّة شهرين[14] تبدأ في أول نوفمبر 1876م[15]. لم تطمئن القوى الأوروبِّيَّة لتدخل روسيا، فطلب وزير خارجيَّة بريطانيا اللورد إدوارد ستانلي Lord Edward Stanley من الأوروبِّيِّين وروسيا والدولة العثمانيَّة، عقد مؤتمرٍ في إسطنبول لبحث تحسين أوضاع النصارى في الدولة العثمانية، ولمنع الحرب المرتقبة بين روسيا والدولة العثمانية[16]. وافقت روسيا مضطرَّة، ووافقت كذلك كلٌّ من فرنسا، والنمسا، وألمانيا، وإيطاليا، بالإضافة إلى الدولة العثمانية[17]، وتقرَّر عقد المؤتمر في 23 ديسمبر 1876م[18]، أي في خلال فترة الهدنة.
في لقاءٍ بين السلطان عبد الحميد الثاني ومدحت باشا قبيل المؤتمر أقنع مدحت باشا السلطانَ بوجوب إعلان الدستور العثماني -الذي كان مُعَدًّا من أيام السلطان عبد العزيز- في هذا المؤتمر[19]؛ لأن الدستور يُعطي الحقوق متساويةً لكلِّ أبناء الدولة العثمانية، ويفرض تكوين مجلس نوَّابٍ من الشعب[20]، وهذا المجلس العام سيكون له القرار في قضايا الدولة، وستصير قوَّة السلطان محدودةً ومراقبةً من الشعب، كما هي في الدول الأوروبية الحديثة. هذا الإعلان للدستور سيُفَوِّت على الدول الأوروبية -كما يرى مدحت باشا- فرصة التدخل في الشأن العثماني؛ لأن ما يطلبونه صار متحقَّقًا، ولأن الأمر لم يعد بيد السلطان، إنَّما بيد الشعب! وافق السلطان على اقتراح مدحت باشا مضطرًّا؛ فهو في الواقع لا يريد الدستور، ولا يريد البرلمان كذلك، ولكن أمام خشيته من التدخل الأجنبي اضطرَّ إلى الموافقة[21]. -أيضًا- عيَّن السلطانُ مدحت باشا صدرًا أعظم في 19 ديسمبر 1876م[22] قبل المؤتمر بأربعة أيَّامٍ فقط.
بدأ المؤتمر في موعده، وكانت الدول الأوروبية قد أعدَّت مسبقًا قائمةً بطلباتها من الدولة العثمانية، والتي شملت أمورًا مجحفة؛ منها تقسيم بلغاريا إلى ولايتين، ووضع حاكم مسيحي على كلِّ ولاية، على أن تبقى الحاميات العثمانية في القلاع وبعض المدن الكبيرة، ومنها تشكيل قوَّةٍ من المسيحيِّين لحفظ الأمن في بلغاريا، ومنها تشكيل لجنةٍ دوليَّةٍ لمراقبة الإصلاحات في الدولة العثمانية لمدَّة سنة، ومنها توحيد ولايتي البوسنة والهرسك، مع تعيين الدولة العثمانية حاكمًا عليها بموافقة الدول الأوروبية، ومنها تنازل الدولة العثمانية عن بعض الأراضي لصربيا والجبل الأسود! -أيضًا- هدَّدت الدول الأوروبية أنه في حال عدم قبول هذه الاقتراحات فإن الدول الأوروبية ستقطع علاقاتها بالدولة العثمانية[23][24]!
كان من الواضح أن الدول الأوروبية لا تتفاوض إنما تملي شروطًا، وقد أزعجت هذه الطلبات الجانب العثماني فاتَّجه للرفض المباشر، غير أن فرنسا توسَّطت لتخفيف الشروط، ولكن هذا التخفيف لم يكن ملائمًا كذلك. أعرض الوفد العثماني عن كلِّ ذلك، وأعلن مندوبُه الدستورَ على الحضور، وأعلم الجميع أن السلطان بموجب هذا الدستور لا يأخذ القرارات بشكلٍ فردي، وأن حقوق الشعب كلَّها متساوية، ويشمل هذا المسلمين والنصارى، وبالتالي اختفت الغاية من وراء انعقاد المؤتمر[25]!
انفضَّ المؤتمر على إثر ذلك، وذلك في 20 يناير 1877م[26]، وغادرت الوفود الأوروبِّيَّة إسطنبول غاضبة؛ حيث لم يؤخَذ في المؤتمر قرارٌ يخصُّ الوضع المتأجِّج في الدولة العثمانية، سواءٌ في صربيا والجبل الأسود، أم في بلغاريا والبوسنة، واعتقد الدبلوماسيُّون العثمانيُّون وكذلك بعض المؤرِّخين، أن هذه خطوةٌ ذكيَّةٌ من السلطان عبد الحميد الثاني والحكومة العثمانية[27]، والواقع أنَّني أراها عكس ذلك تمامًا!
إن الدول الأوروبية لم تأتِ إلى إسطنبول لتطمئنَّ على أحوال النصارى، ولكن لتبحث عن مصالحها، وكلهم يريد تقطيع الدولة العثمانية لا بقائها وحدةً واحدة، ومِنْ ثَمَّ فهم لا يكترثون بدستور أو برلمان؛ إنما لا مانع عندهم من دعم طاغيةٍ أو دكتاتور لو كان يجلب لهم المصالح، ولا مانع عندهم كذلك من حربِ دولةٍ تقف أمام مصالحهم، ولو كانت هذه الدولة دستوريَّةً ديموقراطيَّة، لذلك كانت هذه الخطوة العثمانية لا تعني عندهم إلا تجاهل العثمانيِّين للحلِّ الدبلوماسي، وإقبالهم على الحلِّ العسكري، وهذا في الواقع تهوُّرٌ غير محسوب، خاصَّةً مع الظروف الاستثنائيَّة الصعبة التي تمرُّ بها الدولة. لقد فَوَّت السلطان بهذه الخطوة فرصة الحلول الدبلوماسيَّة، حتى لو كانت سيِّئة، وسيدفع بلاده إلى هاويةٍ عسكريَّةٍ سيكون التفاوض بعدها أصعب ألف مرَّةٍ من الآن. الواقع أن الخطأ يقع كذلك على مدحت باشا الذي أراد استغلال الموقف لدفع السلطان عنوةً إلى إقرار الدستور، مضيِّعًا فرصة التفاوض مع الأوروبيين، ولكن لكونه متأكدًا من عدم حماسة السلطان للدستور والبرلمان، فإنه أراد استغلال الموقف لأخذ خطوةٍ لا يستطيع السلطان بعدها التراجع. هذا التخبُّط ناتجٌ عن عدم التناسق في الحكومة، والاختلافات الفكريَّة الكبرى بين أعضائها، وغياب الشورى الحقيقيَّة، وعدم النضج في تطبيقها إن وُجِدَت.
هكذا وُضِع الدستور، وتكوَّن البرلمان، وقطعت الدول الأوروبية علاقاتها بالدولة العثمانية[28]، التي كان عليها أن تنتظر ردَّ فعلهم على فشل مؤتمر إسطنبول.
ويبدو أن السلطان أدرك أنه دُفِعَ بسذاجةٍ إلى إقرار ما لا يٌريده في مقابل لا شيء، بل قد تقع البلاد في حربٍ كبيرةٍ قريبًا دون استعداد. عرف السلطان أن التعامل مع مدحت باشا سيكون صعبًا؛ لأن كليهما -السلطان ومدحت باشا- يحبُّ أن يقود بطريقةٍ فرديَّة، وهما مختلفان فكريًّا بشكلٍ كبير، لذلك أعلن السلطان عبد الحميد الثاني اكتشاف مؤامرة انقلابٍ ضدَّه يقودها مدحت باشا، وعزله بسببها من الصدارة العظمى بعد سبعةٍ وأربعين يومًا فقط من ولايته، في 5 فبراير 1877م[29]، ونفاه إلى إيطاليا[30]! من الواضح أن مدحت باشا لم يكن يُدبِّر انقلابًا لأنَّ السلطان سيُعيده بعد ذلك بأقلَّ من سنتين -في سبتمبر 1878م- من أوروبا واليًا على الشام[31]، ولو كان مشتركًا في انقلابٍ ضدَّ السلطان ما أعاده قط.
على كلِّ حالٍ كان الموقف متأزِّمًا للغاية، فإن الدول الأوروبِّيَّة وروسيا لم يتركوا إسطنبول إلا للاستعداد للخطوة القادمة، وهي في كلِّ الأحوال لن تكون في صالح الدولة العثمانية!
الحرب الروسيَّة العثمانيَّة (1877-1878م):
عقدت القوى العظمى مؤتمرًا في لندن في 31 مارس 1877م، واتَّفقوا على صياغة إنذار فيه الطلبات نفسها التي طلبوها قبل ذلك في إسطنبول، ووجهوها إلى الدولة العثمانية[32]. عرض وزيرُ الخارجيَّة العثماني الانذارَ على مجلس النواب، وأفهمهم أن ردَّ الانذار معناه إعلان روسيا للحرب، وأن الخزينة لا يوجد بها نقود لمثل هذه الحرب، كما أن الدول الأوروبية لن تُساعدهم مثلما ساعدتهم في حرب القرم[33]. كان السلطان يرى الموافقة على الطلبات لتجنُّب الحرب[34]، وهو رأيٌ صائبٌ فيما أعتقد لضعف الجيش العثماني، ولنضوب خزينة الدولة، ولكن البرلمان اجتمع على رفض الطلب الأوروبي، فاضطرَّ السلطان إلى قبول رأي البرلمان[35]، وأُعْلِن رفض المجلس الإنذار الأوروبي في 9 أبريل 1877م[36].
كانت هذه المعارضة البرلمانيَّة صادمةً للسلطان؛ حيث إن التاريخ العثماني لا يحمل مثل هذه الصورة أبدًا، وللمرَّة الأولى تكون هناك تجربةٌ برلمانيَّة، وللمرَّة الأولى يُعارض الوزراء ونوَّاب الولايات رأيَ السلطان صراحةً، فهذا أغضب السلطان، وأضمر في نفسه كراهيَّةً لهذا الكيان الجديد الذي يُقَلِّص من صلاحيَّاتٍ اعتاد آباؤه وأجداده أن يُمارسوها!
كانت ولايتا الإفلاق والبغدان قد توحَّدتا سويًّا في 1861م، وصدر لهما دستورٌ واحد، وأعطى هذا الدستور للكيان الجديد الموحَّد اسمَ رومانيا، وكان هذا الكيان تابعًا للدولة العثمانية. الآن -في 16 أبريل 1877م[37]- اتَّفقت روسيا مع أمير رومانيا كارول الأول Carol I على عبور أرضه دون قتال، مع احترام الروس لسيادة الرومانيين على أرضهم[38]، ومع أن الرومانيين تابعون للعثمانيين إلا أنهم اتفقوا مع الروس لسعيهم لدعم رومانيا في الانفصال عن الدولة العثمانية.
في 24 أبريل 1877م أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية[39]، ولم تضيع وقتًا بل اجتازت جيوشها رومانيا بسرعةٍ في اتِّجاه الجنوب. في 21 مايو 1877م أعلنت رومانيا (الإفلاق والبغدان) استقلالها عن الدولة العثمانية[40]، وانضمَّ جيشها إلى الجيش الروسي في الحرب[41]. عبرت الجيوش الروسيَّة والرومانيَّة الدانوب في 27 يونيو، وأحرزت انتصارات خاطفة؛ فقد سقطت في أيديهم مدن شمال بلغاريا، مثل ترنوڤو Tarnovo، ونيكوبوليس Nikopolis[42]، وحاصروا مدينة بليڤن Pleven الاستراتيجيَّة[43]، ثم ما لبثت الجبل الأسود وصربيا أن أعلنتا دخولهما الحرب إلى جانب الروس[44]. شهدت الشهور القليلة التالية اكتساحَ روسيا وحلفائها للأراضي العثمانية في أكثر من جبهة؛ في بلغاريا سقطت صوفيا، وڤيدين، وبليڤن، وعلى الأدرياتيكي سقطت أنتيڤاري Antivari (الآن بار Bar في الجبل الأسود)، وفي صربيا هُزِم العثمانيون في نيش[45]، وفي الأناضول سقطت أرضروم، وأرداهان، وبايزيد[46]. توَّج الروس انتصاراتهم بدخول إدرنة في 20 يناير 1878م[47]، وأضحى الطريق إلى إسطنبول مفتوحًا! فوق كلِّ ما سبق أعلن اليونانيون في فبراير 1878م في إبيروس Epirus، وتراقيا، وكريت -وكلها أقاليم تابعة للعثمانيِّين- الثورةَ على الحكم العثماني مستغلِّين الحرب الروسيَّة الكاسحة[48]! لم تكن بريطانيا -وكذلك بقيَّة الدول الأوروبية- قادرةً على التدخل هذه المرَّة لمساعدة العثمانيِّين ضدَّ الروس لأن الرأي العام الإنجليزي كان ضدَّ الدولة العثمانية بقوَّة، وذلك بعد الهجمة الإعلاميَّة الكبرى عليها إثر الثورة البلغارية[49].
في هذا الوضع المذري اضطرَّ السلطان عبد الحميد الثاني أن يطلب من روسيا هدنة! وافقت روسيا في 31 يناير 1878م على الهدنة والجلوس للتفاوض، على أساس عدَّة مبادئ كلِّها مؤسف؛ كان منها قبول الاستقلال التام لصربيا، والجبل الأسود، ورومانيا، والتنازل عن بعض الأراضي لروسيا، ودفع غرامات حربيَّة، وغير ذلك، وعلى الرغم من شناعة الشروط وافق السلطان مضطرًّا[50][51].
وجدت بريطانيا أن هزيمة العثمانيين كارثيَّة، وأن التقدُّم الروسي زاد عن التوقُّعات، وخشيت من النتائج الوخيمة لتغيُّر موازين القوى لصالح الروس، فتقدَّمت الحكومة بعرض المساعدة العسكريَّة على الدولة العثمانية[52]. حمل السلطان العرض الإنجليزي أمام البرلمان في 13 فبراير 1878م، ودارت مناقشاتٌ حامية، واختلف النوَّاب في الرؤى، ووجَّه بعضهم النقد للسلطان[53] وهذا الاختلاف في الواقع أمرٌ طبيعيٌّ في ظلِّ هذا الموقف المعقَّد!
سئم السلطان من فكرة الشورى، والديموقراطية، وآراء الشعب! ظنَّ أن انفراده بالرأي سيكون أفضل، ومِنْ ثَمَّ أخذ في اليوم نفسه الذي اعترض فيه النوَّاب عليه -13 فبراير 1878م- القرارَ بحلِّ البرلمان، وتعطيل الدستور[54] [55]!! بل أمر شرطته بمطاردة الكثير من أعضائه، ونفى عددًا منهم[56]!
هل هكذا يُفْعَل بنوَّاب الشعب وممثِّليه؟! إنه خطأٌ فادحٌ في حقِّ النوَّاب والمستشارين، بل هو خطأٌ فادحٌ في حقِّ الشعب الذي انتخب هؤلاء النوَّاب، واختارهم ليصلوا بصوته إلى الحاكم والحكومة!
هذا -في رأيي- من أكبر الأخطاء التاريخيَّة في حياة السلطان عبد الحميد الثاني، وهو يُعبِّر عن انفعاليَّةٍ في القرارات، وعدم نضوجٍ في الرؤية. كان من الممكن أن نعتذر عنه بأنه قليل الخبرة، وفي مرحلة الشباب العصبيَّة التي لا يتروَّى فيها القادة تمامًا، ولكن للأسف كان الأمر أكبر من ذلك؛ إذ ظلَّ الدستور معطَّلًا، والبرلمان محلولًا، لأكثر من ثلاثين سنةً كاملةً بعد هذا اليوم! إنها سياسةٌ مطردةٌ إذن، ومنهجٌ فكريٌّ ثابتٌ لم ينتج عن موقفٍ عابر! والحقُّ أن الأعذار التي يتعلَّل بها المحبُّون للسلطان عبد الحميد من أجل تبرير هذا الفعل منه كلَّها -في رأيي- واهيةٌ وغير مقبولة؛ فليس الظرف السياسي، ولا عدم نضج الشعوب، ولا المكائد التي تُحاك بالدولة، ولا الأعداء الذين يتربَّصون بالسلطان في الداخل والخارج، ولا المخاوف التي تُسيطر على السلطان من تكرار ما حدث مع السلطانَيْن عبد العزيز ومراد الخامس؛ ليس كل ذلك مبرِّرًا لإهمال الشورى، والاستغناء عن رأي الشعب بكامله، والانفراد بالحكم بشكلٍ مطلق، واعتبار كلِّ معارضٍ هدفًا ينبغي أن يُتَتبَّع؛ ليُغَيَّب في غياهب السجون، أو يُنْفَى من البلاد!
عمومًا لم تقم الدولة العثمانية بإعدادٍ دبلوماسيٍّ مناسبٍ قبل الجلوس مع الروس، وضغطت روسيا للإسراع بالتفاوض قبل قدوم القوى الأوروبية، ومِنْ ثَمَّ كانت المعاهدة المشينة؛ معاهدة سان ستيفانو، وذلك في 3 مارس 1878م[57]!
معاهدة سان ستيفانو San Stefano (1878م):
هذه أسوأ معاهدةٍ في تاريخ الدولة العثمانية حتى هذه اللحظة! جاءت المعاهدة في تسعةٍ وعشرين بندًا[58] جلِّها ضدَّ الدولة العثمانية (خريطة رقم 38). أعطت هذه المعاهدة الاستقلال للجبل الأسود، ورومانيا، وصربيا، مع إعطاء الأخيرة بعض الأراضي الجديدة. -أيضًا- اتُّفِق على تكوين دولةٍ بلغاريَّةٍ كبيرة؛ فيما عُرِفَ آنذاك ببلغاريا الكبرى Greater Bulgaria[59]، التي ستشمل بالإضافة إلى بلغاريا الأصليَّة؛ شرق الرومللي، وكذلك معظم مقدونيا، وبذلك تصل حدود بلغاريا إلى البحر الأبيض المتوسط، مع الموافقة على حصول بلغاريا الكبرى على استقلال ذاتي إداري، مع دفعها لمبلغٍ من المال كجزيةٍ للدولة العثمانية، ويكون موظفو الدولة في بلغاريا والجند من النصارى فقط، ويُخلي العثمانيون جنودهم منها نهائيًّا، أمَّا روسيا فلن تُخْرِج جنودها إلا بعد عامين. هذا التوصيف لبلغاريا الكبرى يعني إمكانيَّة أن تبني روسيا -المهيمِنة في الواقع على بلغاريا- قواعدَ عسكريَّةً على البحر المتوسط، وهذا تطوُّرٌ استراتيجيٌّ غير مسبوقٍ تاريخيًّا.
نصَّت المعاهدة -أيضًا- على إعطاء البوسنة، والهرسك، حكمًا ذاتيَّا. سيأخذ الروس بموجب هذه المعاهدة عدَّة مدنٍ في آسيا والأناضول؛ مثل قارص، وأرداهان، وباطوم، وبايزيد، وستُعْطَى عدَّة مناطق في اليونان حكمًا ذاتيًّا، كمنطقتي إبيروس، وتراقيا، بالإضافة إلى كريت. تعهَّد العثمانيون كذلك في المعاهدة بحماية الأرمن والنصارى من الأكراد والشركس، وكذلك بإصلاح أوضاع النصارى في جزيرة كريت. -أيضًا- ستدفع الدولة العثمانية بموجب هذه المعاهدة غرامةً حربيَّةً تقترب من 250 مليون ليرة ذهبيَّة إلى روسيا، ويمكن لروسيا أن تتسلَّم أراضي بدلًا من هذه الغرامة. فوق ذلك ستبقى مضايق البوسفور والدردنيل مفتوحةً للسفن التجاريَّة التي تقصد روسيا، وستُغْلَق هذه المضايق أمام السفن التابعة لدولٍ محارِبةٍ لروسيا. -أيضًا- ستُعْطَى عدَّة امتيازات؛ إلى القساوسة، والسفير، والقناصل الروس، وكذلك إلى التجَّار[60][61][62]!
إنها معاهدةٌ كارثيَّةٌ بمعنى الكلمة!
فقدت الدولة العثمانيَّة في هذه المعاهدة ثمانية أقطارٍ جملةً واحدة؛ أربعة بشكلٍ مباشر، هي الجبل الأسود، وصربيا، والإفلاق، والبغدان (الأخيرتان صارتا رومانيا)، وأربعة بشكلٍ غير مباشر، هي بلغاريا، والبوسنة، والهرسك، وشمال اليونان؛ هذا بالإضافة إلى وقوع عدَّة مدنٍ في الأناضول في القبضة الروسيَّة، فضلًا عن الخسائر الاقتصاديَّة والسياسيَّة الأخرى.
كانت المعاهدة ضربةً مميتةً للدولة العثمانية، كما أنها كانت ضربةً قويَّةً للمصالح الغربيَّة، ولئن كانت الدولة العثمانية لا تقوى على الاعتراض في ظلِّ هزيمتها المشينة، فإن الدول الغربيَّة تستطيع أن تفعل ذلك! اهتزَّت بريطانيا للمعاهدة، وشعرت أن روسيا -التي ستُهيمن على كل هذه الأقطار المستقلَّة عن الدولة العثمانية- ستصير وحشًا لا يمكن ترويضه بعد ذلك، وهذا لن يُهدِّد شرق أوروبا فقط، ولكن سيُهدِّد طرق التجارة إلى الهند، كما أن روسيا باقتحامها الأناضول ستكون قريبةً من العراق والشام، ممَّا يعني احتلالات جديدة مؤثِّرة[63]. -أيضًا- اعترضت النمسا بشدَّة[64]. كان من الواضح أن اعتراضها بسبب أطماعها في البوسنة والهرسك، بالإضافة إلى خوفها من الحجم الضخم الذي صار لبلغاريا الكبرى، الذي يمكن أن يُهدِّد أملاك النمسا في المجر. كانت فرنسا على الحياد لضعفها بعد هزيمتها حديثًا من بروسيا[65]، أمَّا ألمانيا فظهرت بدور المنقذ لأوروبا؛ حيث سعت لاحتواء الأزمة المرتقبة بين روسيا من جهة، وبين الدول الأوروبِّيَّة الأخرى من جهة، فدعا زعيمها الشهير بسمارك Bismarck إلى عقد مؤتمرٍ في برلين للتباحث في شأن معاهدة سان ستيفانو، ولمناقشة الاعتراضات الأوروبِّيَّة[66]. وافقت روسيا تحت الضغط على عقد المؤتمر[67]، ودُعِيَت الدولة العثمانية كذلك، فكان مؤتمر برلين الذي تحدَّد موعد بدايته في 13 يونيو 1878م[68]!
مؤتمر برلين (1878م):
أعطت الدبلوماسيَّة الإنجليزيَّة في مؤتمر برلين دروسًا للعالم في كيفيَّة التحضير للمؤتمرات للحصول على أفضل النتائج! عقدت بريطانيا عدَّة اجتماعات «سرِّيَّة» قبل المؤتمر مع عدَّة أطرافٍ لكي ترفع من قيمة مكاسبها في المؤتمر. الاجتماع الأول كان مع الروس، واتَّفقت فيه معهم على تقليص مساحة بلغاريا في مقابل موافقتها على السماح لروسيا باحتلال مدنٍ عثمانيَّةٍ آسيويَّة[69]. الاجتماع الثاني كان مع الدولة العثمانية -في 4 يونيو 1878م[70]- قبل بداية المؤتمر بتسعة أيَّام، واتَّفقت فيه معها السماح باحتلال قبرص -التابعة للعثمانيِّين- في مقابل الدفاع العسكري عن شرق الأناضول[71]! أمَّا الاجتماع الثالث فكان مع النمسا، وفيه اتَّفقت معها على السماح لها بفرض الحماية على البوسنة والهرسك تمهيدًا لاحتلالها في مقابل قبولها تقسيم بلغاريا بالطريقة التي تراها بريطانيا[72]! هكذا صارت بريطانيا تملك مفاتيح المؤتمر قبل أن يبدأ!
لم يكن مؤتمر برلين نجدةً للدولة العثمانية؛ إنما كان الغرض منه فقط تقليص المكاسب الروسيَّة لصالح بريطانيا والنمسا. في هذا المؤتمر -وفي 13 يوليو- بعد شهرٍ كاملٍ من المفاوضات، أقرَّت الدول جميعًا باستقلال صربيا، والجبل الأسود، ورومانيا[73]، ولكن مع زياداتٍ طفيفةٍ في مساحة صربيا، كما أقرُّوا بضمِّ روسيا لأرداهان وقارص وباطوم، مع إعادة مدينة بايزيد للدولة العثمانية[74]. أُلغيت في هذه المعاهدة بلغاريا الكبرى، وأعادوا تقسيمها إلى ثلاثة أقسام؛ الأوَّل مملكة بلغاريا، وهي مملكةٌ شبه مستقلَّة بأميرٍ نصراني، مع دفع جزيةٍ إلى الدولة العثمانية، ولا يوجد بها أيُّ تواجدٍ عسكريٍّ عثماني، والثاني ولاية الرومللي الشرقيَّة (جنوب بلغاريا الآن)، وهي ذات حكمٍ ذاتيٍّ كذلك بقيادةٍ نصرانيَّةٍ تحت السيادة العثمانية، وبها حاكمٌ عسكريٌّ عثماني، وحاميةٌ عثمانيَّة[75]، أمَّا القسم الثالث فيشمل مقدونيا، وسيُعاد إلى الدولة العثمانية[76]. كان الغرض من هذا التقسيم إضعاف بلغاريا التي ستدين بالولاء فعليًّا لروسيا، وتقوية الدولة العثمانية نسبيًّا لتقدر على حماية إسطنبول، ولتُحقِّق شيئًا من التوازن ضدَّ الروس. أعطت المعاهدة -أيضًا- إلى النمسا حقَّ الحماية على البوسنة والهرسك، مع احتلال إقليم نوڤي بازار Novi Pazar عسكريًّا للفصل بين صربيا والجبل الأسود. هذا الفصل سيمنع اتحادهما تحت هيمنة الروس، فتكون النمسا ضامنة لعدم توحُّش روسيا في المنطقة! أضافت المعاهدة -أيضًا- عدَّة أجزاء من البلقان العثماني لليونان[77]، مع أنها لم تشترك في الحرب، وذلك لولائها لأوروبا!
تُعتبر معاهدة برلين بذلك أشدَّ ضررًا على الدولة العثمانية من معاهدة سان ستيفانو؛ فقد استعادت الدولة فقط مدينةَ بايزيد في الأناضول، ومقدونيا في البلقان، ولكنَّها خسرت في المقابل إقليمَي البوسنة والهرسك لصالح النمسا، وأجزاء من وسط وشمال اليونان لصالح مملكة اليونان، بالإضافة إلى موافقتها على احتلال قبرص مقابل دفاعٍ إنجليزيٍّ وهميٍّ عن الأناضول! عندما شعر المندوبون العثمانيُّون بخيبة الأمل، وناقشوا الإمبراطور الألماني بسمارك في وقوع الظلم على الدولة العثمانية بهذه القرارات، أجابهم بهدوء: «إن هدف المؤتمر هو رعاية مصالح الدول الأوروبِّيَّة، وليس رعاية مصالح الدولة العثمانيَّة»[78]!
هكذا كان بسمارك صريحًا!
الدولة العثمانية بعد مؤتمر برلين (خريطة رقم 39):
كانت الأحداث الدامية التي شهدتها الدولة العثمانيَّة في أوَّل سنتين من حكم السلطان عبد الحميد الثاني أكثر من أن تُستوعَب! نحتاج أن نقف وقفةً سريعةً لمعرفة ما آلت إليه الأمور بعد مؤتمر برلين:
أولًا: ضاعت في هاتين السنتين من حُكْمِ السلطان عبد الحميد الثاني معظم ممتلكات الدولة العثمانية في البلقان. الآن لا يحكم العثمانيون بشكلٍ مباشرٍ في أوروبا سوى المنطقة من إسطنبول إلى إدرنة، ومدينة سالونيك اليونانية وما حولها، وقطاع مقدونيا وألبانيا في الغرب. -أيضًا- -على الورق- تتبع بلغاريا والرومللي الشرقيَّة، الدولةَ العثمانية، وتدفعان جزية، ولكن الولاء الحقيقي لروسيا.
ثانيًا: صار العداء ظاهرًا وكاملًا من الدول الأوروبِّيَّة، ولكن تُحاول بريطانيا أن تظهر بشكل الصديق، كذلك ألمانيا، ولكن كلاهما في الحقيقة لا يبحث إلا عن مصالحه.
ثالثًا: هذا الضعف الظاهر للدولة العثمانية، وهذا التحرُّر الجماعي للأقطار الأوروبِّيَّة، سيبعث الأمل في نفوس العرقيَّات الأخرى التي ما زالت تحت الحكم «التركي» للخروج من التبعيَّة كما خرجت عرقيَّات البلقان المختلفة. تشمل هذه العرقيَّات والطوائف الأرمن، والمقدونيين، والألبان، واليهود، و-أيضًا- العرب، وإن كان العرب قد ينقسمون حسب أوطانهم إلى قوميَّاتٍ أخرى؛ مصريَّة، وشاميَّة، ويمنيَّة، وعراقيَّة، وحجازيَّة، وليبيَّة. في هذه الأجواء الانهزاميَّة من المتوقَّع أن نجد من هذه الطوائف المتعدِّدة رغبةً في الخروج من التبعيَّة العثمانيَّة.
رابعًا: كانت هذه الأحداث دافعةً إلى نموِّ «القومية التركية» بين الأتراك؛ لأنهم في غضون السنتين الماضيتين وجدوا تعاونًا بين العرقيَّات الأخرى المندرجة تحت ظلِّ دولتهم مع الأعداء الخارجيِّين، ولم يبقَ على الولاء للدولة سوى الأتراك.
خامسًا، وأخيرًا: وضحت السياسة الانفراديَّة التي سينتهجها السلطان عبد الحميد الثاني في إدارة الدولة خلال السنوات القادمة. سيأخذ «بمفرده» القرارات السياسيَّة والعسكريَّة، وكذلك التشريعيَّة والقانونيَّة، و-أيضًا- الاقتصاديَّة والدينيَّة! كانت هذه الطريقة مناسبةً نسبيًّا في القرون الوسطى، لكن في العصر الحديث، ومع تعدُّد العلوم والمعارف، ومع نموِّ إدراك الناس وانتشار التعليم، ومع التخلُّف الذي تعيشه الدولة، والحضارة التي يعيشها الآخرون، صارت هذه الطريقة الفرديَّة البالية غير مجدية. ستنتقل البلاد من سيِّء إلى أسوأ، وستخسر البلاد في خطواتٍ متسارعةٍ أضعافَ ما كانت تخسره في المعتاد، وستخلق هذه الطريقة للسلطان عبد الحميد الثاني الآلاف من الأعداء، ومن شتَّى الاتجاهات، ولن يقف إلى جواره أحد. نقول هذا الكلام مع إدراكنا لنزاهته الماليَّة، ولعاطفته الإسلاميَّة، ولكن مؤهِّلات الحكم أشمل من هذه الصفات بكثير!
احتلال بريطانيا لقبرص (1878م):
استغلَّت بريطانيا حداثة عهد السلطان عبد الحميد الثاني بالسياسة، وضعف موقفه بعد حرب روسيا، واستجداءه للمساعدة من أوروبا، فأقنعته -سرًّا- بالموافقة على احتلال قبرص عسكريًّا في مقابل الدفاع عن الأناضول لو هاجمته روسيا. وافق السلطان على هذا العرض في 4 يونيو 1878م. بعد المؤتمر احتلَّ الأسطول الإنجليزي قبرص. كان الاتفاق يقضي فقط باستخدام الإنجليز لقبرص كقاعدةٍ عسكريَّةٍ في غرب البحر المتوسط، بينما ستتَّجه الجزية القبرصيَّة إلى الدولة العثمانية[79]. واقع الأمر أن هذا لم يحدث مطلقًا! كانت الجزية القبرصيَّة، والتي كانت تُقَدَّر بأكثر من اثنين وتسعين ألف جنيه إسترليني سنويًّا (92,799 جنيه إسترليني)[80]، تتَّجه إلى «بنك إنجلترا» Bank of England لتدفع شيئًا من الديون العثمانية إلى بريطانيا، وبالإضافة إلى ذلك زيدت ضريبة على شعب قبرص اليوناني لتغطية نفقات الجيش الإنجليزي المعسكِر في الجزيرة! هذا خَلَق أجواءً من الغضب عند الشعب الذي وجد نفسه يدفع ديون العثمانيين، ومصاريف الإنجليز[81]، وبالتالي زادت عنده الرغبة في الانضمام لمملكة اليونان كوسيلةٍ للخلاص من هذه الأعباء[82].
هكذا خسرت الدولة العثمانية قبرص بلا ثمن، وبلا طلقةٍ ناريَّةٍ واحدة! وكسبت بريطانيا موقعًا استراتيجيًّا متميِّزًا، ولقد وصف بنچامين دزرائيلي Benjamin Disraeli رئيس وزراء بريطانيا آنذاك هذه الجزيرة بقوله: «هذه مفتاح غرب آسيا»[83]!
اعترضت فرنسا على احتلال الإنجليز لقبرص، خاصَّةً أن المباحثات التي دارت بين السلطان عبد الحميد الثاني والمسئولين الإنجليز كانت سرِّيَّة، وقد تفاجئ العالم بنزول القوَّات البريطانيَّة في قبرص دون مقاومة. كان من الممكن أن تحدث أزمةٌ سياسيَّةٌ في أوروبا، خاصَّةً من جانب الفرنسيين، لولا أن بريطانيا أوعزت لفرنسا أنها -أي بريطانيا- ستغضُّ الطرف عن احتلال فرنسا لتونس العثمانية لو أرادت! سال لعاب فرنسا، وسكتت عن قبرص، وتجهَّزت لاحتلال تونس[84]! أمَّا بريطانيا فستستخدم قبرص لتكون قاعدةً عسكريَّةً متقدِّمةً تمكنها من احتلال مصر العثمانية قريبًا!
إنه عالمٌ من الخداع والتضليل، ولكن ليس اللوم على أولئك الماكرين؛ إنما على مَنْ أوقع نفسه في هذه الحبائل! قال تعالى على لسان الشيطان: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [إبراهيم: 22]!
عزل الخديوي إسماعيل عن مصر وولاية الخديوي توفيق (1879م):
صار التنافس الإنجليزي الفرنسي على أملاك الدولة العثمانية صريحًا وسافرًا، وكان الميدان الجديد للتنافس هو مصر. كانت مصر بالنسبة إلى الإنجليز ذات أهميَّةٍ قصوى، خاصَّةً بعد حفر قناة السويس؛ لأنها تقع على الطريق لأهمِّ مستعمرات بريطانيا قاطبةً، وهي مستعمرة الهند. كانت السيطرة على مصر تُمثِّل ضرورةً أمنيَّةً قوميَّة للإنجليز. في الوقت نفسه كان النفوذ الفرنسي في مصر قويًّا، وكانت علاقات مصر من أيَّام محمد علي باشا متميِّزةً مع فرنسا، وهي صاحبة فكرة حفر قناة السويس، والداعمة لعدَّة مشاريع علميَّة، واقتصاديَّة في مصر[85]. في ظلِّ الانهيار العثماني اشتدَّ التنافس الإنجليزي الفرنسي على مصر لعلمهما بعدم قدرة الدولة العثمانية على نجدتها. ومع أن كلَّ طرفٍ من الغريمين الأوروبِّيَّين، بريطانيا وفرنسا، كان يريد مصر خالصةً له، إلا أنهما اتفقا في مؤتمر برلين على أن يتساوى نفوذهما فيها منعًا للخلاف الأوروبي، وذلك دون اعتبار لسلطة الخديوي إسماعيل، ولا السلطان عبد الحميد الثاني[86]. فطن الخديوي القوي إسماعيل لهذه المؤامرة الأوروبية ورفضها، فسعت بريطانيا وفرنسا عند السلطان عبد الحميد الثاني ليقوم بخلعه، وتولية ابنه الأضعف توفيق، الذي سيكون ألعوبةً في أيديهما[87][88]! للأسف، ولأسبابٍ غير مفهومةٍ تمامًا، وافق السلطان عبد الحميد الثاني بسذاجةٍ على عزل الخديوي إسماعيل وتولية ابنه توفيق، وكان هذا في 26 يونيو 1879م[89][90].
كانت خطوتا عزل الخديوي إسماعيل واحتلال قبرص، هما التمهيد الفعلي لاحتلال الإنجليز لمصر بعد أقلَّ من سنتين، فكانت الدولة العثمانية المتخبِّطة وكأنها تحفر قبرها بيدها!
احتلال فرنسا لتونس (1881م):
كانت أطماع فرنسا في تونس كبيرة، خاصَّةً مع عدم استقرارها في الجزائر، في ظلِّ المقاومة الشعبيَّة من جهة، ووجود بلدين مسلمين حولها من جهةٍ أخرى؛ تونس في الشرق، والمغرب في الغرب. ومع ذلك كانت فرنسا متردِّدةً في مسألة الاحتلال خوفًا من ردود الفعل الأوروبِّيَّة، خاصَّةً مع وجود أطماعٍ إيطاليَّةٍ في تونس كذلك[91]. جاء التصريح الإنجليزي لفرنسا بإطلاق يدها في تونس في مقابل سكوت فرنسا عن احتلال بريطانيا لقبرص مشجعًا لفرنسا على الإقدام على الخطوة المؤجَّلة. كانت الأسباب القانونيَّة سهلة التدبير، مثل ادِّعاء وجود تعدِّيَات تونسيَّة على مستعمرة الجزائر[92]، أو زيادة النفوذ الإيطالي في تونس[93].
في 12 أبريل 1881م اجتازت القوَّات الفرنسيَّة الحدود الجزائريَّة التونسيَّة[94]، وفي أول مايو وصل الأسطول الفرنسي إلى ميناء بنزرت التونسي، وفي 11 مايو دخل الفرنسيون قصر حاكم تونس الباي محمد الصادق، ليُعْلِنوا احتلال تونس رسميًّا. في 12 مايو أُجْبِر الباي على توقيع معاهدة استسلام لفرنسا عُرِفت بمعاهدة باردو Treaty of Bardo (نسبة إلى مدينة باردو التونسية التي وُقِّعت فيها المعاهدة، وهذه المدينة هي مقرُّ الحاكم التونسي، وتعتبر من ضواحي مدينة تونس العاصمة). نصَّت هذه المعاهدة على أن الاحتلال الفرنسي لتونس مؤقتٌ[95][96]. دام هذا الاحتلال «المؤقت» خمسًا وسبعين سنة! (إلى 20 مارس 1956)[97]. اكتفى السلطان عبد الحميد الثاني بتقديم المذكرات الاحتجاجيَّة إلى فرنسا والدول الأوروبية، ولم يأخذ قرارًا بشأن مواجهةٍ عسكريَّة، لا من ناحيته، ولا من خلال المسلمين المتعاطفين مع الدولة العثمانية في شمال إفريقيا[98]، وهكذا ضاعت تونس!
فَقْد الدولة العثمانية لوسط اليونان (1881م):
كانت مملكة اليونان القائمة على شبه جزيرة المورة تطمع في زيادة مساحتها على حساب الدولة العثمانية بعد التداعيات الأخيرة التي أصابتها. دارت المفاوضات الدبلوماسيَّة بين الدولة العثمانية واليونان في خلال عامي 1879، و1880م، ولكن دون الوصول إلى نتيجة[99]. قرَّرت اليونان أخذ ما تريد بالقوَّة، وخشيت الدول الأوروبية من التصعيد العسكري غير المدروس في البلقان، فسعت إلى عقد مؤتمر برعايتها يحسم الخلاف بين الدولتين. عُقِد المؤتمر في إسطنبول في 24 مايو 1881م، بعد أقلَّ من أسبوعين من احتلال تونس، وفيه أعطت الدول الأوروبية لليونان إقليم تساليا Thessaly كلَّه، بالإضافة إلى الجزء الجنوبي من إقليم إبيروس Epirus (حتى نهر آرتا Arta)[100].
احتلال بريطانيا لمصر (1882م):
كان لا بُدَّ للإنجليز من وضع قدم في مصر! حاولوا قبل ذلك أيام محمد علي باشا في عام 1807م لكنهم فشلوا. الآن وجد الإنجليز الفرصة سانحةً بعد الضعف الذي اعترى كلًّا من الدولة العثمانية ومصر معًا. لقد وافق السلطان عبد المجيد الأول سابقًا على الشرط الإنجليزي بتحديد الجيش المصري بثمانية عشر ألف جنديٍّ على الأكثر، والآن تدفع الدولة ثمن هذه الاستجابة للمطالب الإنجليزيَّة، خاصَّةً في ظلِّ حكم الخديوي توفيق الموالي للإنجليز الذين أمروا السلطان عبد الحميد الثاني بوضعه على حكم مصر!
كانت مصر في هذا الوقت تشهد أحداثًا ساخنة. ثار الجيش المصري بزعامة أحد كبار قادته -وهو أحمد عرابي باشا- على الخديوي توفيق يُطالبه فيها بإقالة رئيس الوزراء مصطفى رياض باشا، وتحسين أوضاع الجيش، ورفع عدده إلى الرقم المتَّفق عليه قبل ذلك مع الحكومة العثمانية -وهو ثمانية عشر ألفًا- وكان قد نقص عن ذلك، وتقليل النفوذ الأجنبي في الدولة، وتشكيل مجلس نوَّاب[101]، وقد تعاطف الشعب مع الثورة، وبلغت ذروتها في مظاهرةٍ حاشدةٍ أمام قصر عابدين بالقاهرة 9 سبتمبر عام 1881م[102]. بعد سجالاتٍ كثيرةٍ رضخ الخديوي لمطالب الشعب، وتغيَّرت الحكومة، وجاء على رأسها شريف باشا المشهور بوطنيَّته ونزاهته، وقد اختار أحد الرجال الداعمين للثورة، وهو محمود سامي البارودي، وزيرًا للحربيَّة في الحكومة الجديدة[103].
لم يرضَ الإنجليز والفرنسيون عن هذا التطوُّر[104]، خاصَّةً أن الحكومة الجديدة صاغت دستورًا جديدًا لمصر، وأقرَّت تكوين البرلمان، وكان هذا الدستور يُقَلِّص من صلاحيَّات الخديوي، وكذلك من التدخُّل الأجنبي، ويجعل الحكومة مسئولةً أمام البرلمان[105]. أرسلت بريطانيا وفرنسا مذكرةَ تأييدٍ للخديوي، وأكَّدا له بقاءه في منصبه بدعمهما! قد يكون تأييد الإنجليز للخديوي توفيق مفهومًا لكون بريطانيا راغبةً في احتلال مصر، ولا تريد فيها دستورًا حقيقيًّا، أو برلمانًا حرًّا، أو جيشًا قويًّا، أو نضوجًا شعبيًّا، ولكن بعضهم يستغرب تعاون فرنسا مع الإنجليز -وهم في الأصل أعداء- في هذا الأمر. واقع الأمر أن فرنسا كانت تخشى أن تقوم الدولة العثمانية بتشجيع ثورةٍ في مصر ضدَّ التدخل الأجنبي، وقد تمتدُّ هذه الثورة إلى تونس التي احتلها الفرنسيون حديثًا ولم يأخذ فيها السلطان عبد الحميد الثاني موقفًا جادًّا[106]. الحقُّ أن توقعات فرنسا لم تكن في محلِّها، ولم يكن هناك ردُّ فعلٍ مناسبٍ من السلطان العثماني، ممَّا جعل الدولتان تتصرَّفان في مصر كيفما شاءا!
اطمأنَّ الخديوي توفيق لدعم الأوروبيين فرفض الدستور، فاستقالت حكومة شريف باشا في 2 فبراير 1882م، وتأزَّم الموقف، فاضطرَّ الخديوي إلى تكوين حكومةٍ جديدةٍ في اليوم التالي مباشرة -3 فبراير 1882م- جعل على رأسها محمود سامي البارودي الذي اختار أحمد عرابي وزيرًا للحربية[107]. أقرَّت الحكومة الجديدة الدستور[108]، وبدا أن الجيش صار يسيطر على الأمور في الدولة، وهذا أقلق الأوروبيين في مصر، ومِنْ ثَمَّ بريطانيا وفرنسا[109]. تطوَّر الأمر إلى انفلاتٍ أمنيٍّ في البلاد، ونتيجة الشحن المعنوي ضدَّ الأجانب حدثت عدَّة مواجهات بين بعض الأوروبيين والمصريين، خاصَّةً في الإسكندرية[110]، وكان من نتيجتها حدوث عدَّة حوادث قتل بين الفريقين، وحينها أدركت بريطانيا أن الأمور قد تخرج من يدها إذا آلت الأمور للجيش المصري فحرَّكت أسطولها إلى مصر، واتجه الخديوي توفيق إلى الإسكندرية خوفًا من تطوُّر الموقف ضدَّه[111].
انتهى الأمر بوصول الأسطول الإنجليزي إلى الإسكندرية، وقصفه إيَّاها في 11 يوليو 1882م، ثم احتلال المدينة[112]. توجَّه الجيش الإنجليزي بعد ذلك جنوبًا في اتجاه القاهرة[113]، ولكنه وجد مقاومةً شديدة عند كفر الدوار، ولم يستطع إكمال الغزو من هذه الجهة[114]. قرَّر الجيش الإنجليزي اقتحام مصر من جهةٍ أخرى، فاحتلَّ بورسعيد، ودخل قناة السويس، ومن الإسماعيلية قرَّر الوصول إلى القاهرة[115]. التقى الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي والإنجليز في التل الكبير في 13 سبتمبر 1882م، وانتصر الإنجليز انتصارًا حاسمًا[116].
من الجدير بالذكر أن السلطان عبد الحميد الثاني أصدر في هذا الوقت الدقيق فرمانًا أعلن فيه عصيان أحمد عرابي، وحذَّر فيه من الانضمام لجيشه، أو قتال الإنجليز، أصدقاء الدولة العثمانية، ولم يكتفِ السلطان بإرسال الفرمان عبر الوسائل الرسميَّة؛ إنما نشره في جريدة الجوائب العثمانية في 6 سبتمبر 1882م[117]، وذلك لكي يُرْسَل صورةً منه عن طريق البرق إلى مصر، فيتناوله العامَّة، فيتكاسلون عن حرب الإنجليز مع أحمد عرابي! كان الفرمان شديد اللهجة، وكان ممَّا جاء فيه: «إن الدولة العليَّة السلطانيَّة تُعلن أن وكيلها الشرعي بمصر هو حضرة فخامتلو دولتلو محمد توفيق باشا، وأن أعمال عرابي باشا كانت مخالفةً لإرادة الدولة العليَّة، ثم التمس من جناب الخديوي العفو فعفا عنه، ونال -أيضًا- من الحضرة السلطانيَّة العفو العام، وأن الشرف الذي ناله أخيرًا من الحضرة العليَّة السلطانيَّة، إنما كان من تصريحه بالطاعة لأوامر السلطان المعظَّم الخليفة الأعظم. وقد تحقَّق الآن رسميًّا أن عرابي باشا رجع إلى زلَّاته السابقة واستبدَّ برئاسة العساكر دون حق، فيكون قد عرَّض نفسه لمسئوليَّةٍ عظيمةٍ لا سيَّما أنه تَهَدَّد أساطيل دولةٍ حليفةٍ للدولة العليَّة السلطانيَّة...
وبناءً على ما تقدَّم يُحْسَب عرابي باشا وأعوانه عصاةً ليسوا على طاعة الدولة العليَّة السلطانيَّة، وأن تصرُّف الدولة العليَّة السلطانيَّة بالنظر إلى عرابي باشا ورفقائه وأعوانه يكون بصفة أنهم عصاة، ويتعيَّن على سكان الأقطار المصريَّة حالة كونهم رعيَّة مولانا وسيِّدنا الخليفة الأعظم أن يُطيعوا أوامر الخديوي المعظَّم، الذي هو في مصر وكيل الخليفة، وكل من خالف هذه الأوامر يُعرِّض نفسه لمسئوليَّةٍ عظيمة، وأن معاملة عرابي باشا وحركاته وأطواره مع حضرة السادات الأشراف هي مخالفةٌ للشريعة الإسلاميَّة الغرَّاء ومضادَّةٌ لها بالكلِّيَّة»[118]!
كان هذا الفرمان نجدةً قويَّةً للإنجليز الذين قاموا بتوزيع نسخٍ منه على جيش أحمد عرابي قبيل موقعة التل الكبير، ممَّا جعل الكثير من الجند ينفضُّون عن أحمد عرابي، وكان ذلك من أسباب الهزيمة[119]. يقول الأميرالاي المؤرخ إسماعيل سرهنك -وهو من المعاصرين لهذه الفترة- تعليقًا على توزيع الإنجليز لفرمان السلطان: «وزَّع الإنجليز على معسكر عرابي جريدة الجوائب التي بها منشور الباب العالي بعصيان عرابي، فارتخت المفاصل، وانحلَّت العزائم، وانقطع الرجاء، وجهر الناس بالمخالفة كما سبق، فكان ذلك من أكبر أسباب نجاح الإنجليز في جهات التل إن لم يكن هو السبب الوحيد»[120].
لا أدري كيف كان يُفكِّر السلطان عبد الحميد الثاني في هذه المسألة؟! هل هو مطمئنٌّ إلى الإنجليز أكثر من اطمئنانه للجيش المصري وقادته؟! ألم يُلْدَغ من الإنجليز عشرات المرَّات؟ لُدغ منها في مؤتمر برلين، ولُدِغ في قبرص، ولُدِغ في تونس عندما شجَّعت بريطانيا الفرنسيين على احتلال البلد في مقابل احتلال الإنجليز لقبرص، والآن يُلْدَغ بشدَّة في مصر، وسيُلْدغ قريبًا من الإنجليز -كما سيأتي- في شرق إفريقيا، ثم في بلغاريا! إن هذه ألغازٌ تاريخيَّةٌ لا نفهم على وجه الحقيقة تفسيرها، ولا نعرف إن كان مردُّها إلى الجهل بالسياسة، أم إلى ضعف الشخصيَّة، أم إلى السذاجة المفرطة أمام المكر الإنجليزي الكبير، أم كنتيجةٍ طبيعيَّةٍ لإهمال رأي المستشارين والاعتماد على الرأي الفردي المطلق، أم إلى كلِّ ذلك معًا؟!
على كلِّ حال دخل الإنجليز القاهرة في 15 سبتمبر، وانتظر الخديوي توفيق عشرة أيَّامٍ في الإسكندرية حيث كان هاربًا، حتى تُأمَّن العاصمة، حتى تُزيَّن كذلك لاستقباله! في يوم 25 سبتمبر دخل الخديوي توفيق القاهرةَ دخول الفاتحين، محاطًا بخمسة آلاف جندي إنجليزي، ومُسْتَقْبَلًا من قائد جيش الاحتلال الإنجليزي جارنت وُلسلي Garnet Wolseley، وابن الملكة الإنجليزية فكتوريا Queen Victoria الأمير آرثر دوق كونوت Prince Arthur, Duke of Connaught[121]!
تعجز الكلمات عن تصوير حجم السخف والإسفاف في مثل هذه الأحداث، ولولا أنها حدثت لقلنا إنها مبالغات القصَّاصين وكُتَّاب الروايات الخياليَّة! حُوكِم قادة الجيش المصري في 3 ديسمبر[122]، وانتهى الأمر بنفي محمود سامي البارودي، وأحمد عرابي، وغيرهما، إلى جزيرة سيلان (سيريلانكا) بآسيا[123]، ليبدأ الاحتلال الإنجليزي لمصر، وبالتبعيَّة للسودان كذلك، والذي سيبقى إلى عام 1956م[124].
كما رأينا لم يكن ردُّ فعل السلطان عبد الحميد الثاني يوازي الحدث، ولا قريبًا منه[125]. كانت وعود بريطانيا بمغادرة مصر سريعًا لا معنى لها[126]؛ لأن الجميع يعلم أن كلامهم مجرَّد تسكين، ولا تخرج مثل هذه الجيوش إلا بالقوَّة، ولا قوَّة يومئذٍ عند المسلمين!
إعدام مدحت باشا (1883م):
عزل السلطانُ عبد الحميد الثاني مدحت باشا من منصب الصدارة العظمى، ثم نفاه إلى أوروبا في فبراير 1877م. كان مدحت باشا هو المدافع الأوَّل عن الدستور والبرلمان، وبذلك تخلَّص السلطان من أشدِّ معارضيه فكريًّا. بعدها حلَّ السلطان البرلمان وعطَّل الدستور في أبريل 1878م. نتيجة ضغوط أوروبِّيَّة وشعبيَّة أعاد السلطان غريمه مدحت باشا إلى البلاد في سبتمبر 1878م[127]، لعلَّه لتهدئة الأجواء المضطربة نتيجة تحطيم آمال الدستور والبرلمان. تولى مدحت باشا ولاية الشام في 22 نوفمبر 1878م، وقام فيها بإصلاحاتٍ ملموسةٍ في مجالات التعليم، والإدارة، والأوقاف[128]، ثم تولى ولاية آيدن في الأناضول، ولكن بعد قليل من ولايته -في 17 مايو 1881م- أُلقي القبض عليه فجأةً بتهمة الاشتراك في اغتيال السلطان الراحل عبد العزيز[129][130]! هكذا، بعد خمس سنواتٍ من الحدث! بعد المحاكمة صدر ضدَّه الحكم بالإعدام، ولكنَّه خُفِّف إلى الحبس[131]، وأُرسِل إلى قلعةٍ بالطائف[132]. ومع ذلك، في 6 مايو 1884م، أرسل إليه السلطان مَنْ يقتله في السجن[133][134]!
كانت هذه رسالةً إلى كلِّ مَنْ يُطالب بالدستور، أو البرلمان، وكذلك إلى كلِّ مَنْ يُفَكِّر في الاعتراض على السلطة المطلقة للسلطان، أو يظهر كمنافسٍ له!
مؤتمر برلين 1884م لتقسيم إفريقيا:
يعتبر هذا المؤتمر من أعجب المؤتمرات في التاريخ! لقد اجتمعت الدول الأوروبية «المتحضِّرة!» لتتَّفق على وضع أسسِ تقسيم إفريقيا[135] بينهم دون أن يُريقوا دماء بعضهم البعض! كان من المؤكَّد أنهم سيُريقون دماء الأفارقة عند احتلال بلادهم، ولكن كانت غاية المؤتمر هو تجنُّب دخول الأوروبيين في حروبٍ داخل أوروبا، أو حتى بين الجيوش الأوروبِّيَّة على الأرض الإفريقيَّة. هذا الهدف يعتبره بعض المؤرِّخين نضجًا في السياسة الأوروبِّيَّة[136]؛ حيث تجنَّبت الصراعات التي قامت بينهم قبل ذلك عند احتلال الأميركتين. غنيٌّ عن البيان أنَّه لم يحضر إفريقيٌّ واحدٌ هذا المؤتمر[137]!
في أقلَّ من ثلاثة عقود بعد هذا المؤتمر وقعت إفريقيا بالكامل تقريبًا (باستثناء إثيوبيا، وليبيريا فقط) تحت الاحتلال الأوروبي[138]. كانت فرنسا صاحبة النصيب الأكبر من الأملاك؛ حيث سيطرت على 33.8% من القارَّة، ثم تأتي بريطانيا باحتلالها 32.8%، ثم ألمانيا 8%، وبلچيكا 8%، ثم البرتغال 6.9%، فإيطاليا 5%، وأخيرًا إسبانيا 0.7%[139].
ذكرنا هذا المؤتمر في سياق التاريخ العثماني لأنَّ في أعقابه سقطت عدَّة ولايات عثمانيَّة إفريقيَّة في أيدي الأوروبيين، فضلًا عن الجزائر، وتونس، ومصر، والسودان. كانت إيطاليا قد أسَّست أوَّل مستعمراتها في شرق إفريقيا في ميناء عصب بإريتريا عام 1882م[140]، وبعد مؤتمر برلين بعام، في 1885م، احتلَّ الإنجليز والإيطاليون ميناء مصوع العثماني في إريتريا[141]، ودخلت چيبوتي تحت الحماية الفرنسيَّة[142]، وبذلك لم يبقَ من أملاك الدولة العثمانية في إفريقيا حتى هذه اللحظة سوى ليبيا فقط!
توسُّع بلغاريا وضم الرومللي الشرقيَّة (1885-1886م):
كان المتَّفق عليه في معاهدة برلين 1878م أن تبقى إمارة الرومللي الشرقيَّة منفصلةً عن إمارة بلغاريا، وتدفع كلٌّ منهما الجزية إلى الدولة العثمانية. كان وضع الانفصال هذا مفيدًا للدولة العثمانية؛ لأنه من جهة سيُضعف كلَّ إمارةٍ منهما، ومن جهةٍ أخرى فإن فرصة الدولة العثمانية للتمكن من السيطرة على الرومللي الشرقيَّة ستكون أكبر، وذلك لتواجد حاميةٍ عسكريَّةٍ عثمانيَّةٍ بها، على عكس إمارة بلغاريا الخالية -بحكم مؤتمر برلين- من الجنود العثمانيِّين. -أيضًا- كان التواجد الإسلامي كبيرًا في الرومللي الشرقيَّة بسبب قربها من إسطنبول وإدرنة، وإن كانت السنوات الأخيرة شهدت تغيُّرًا ديموجرافيًّا ملحوظًا في تركيبة السكان؛ حيث نقص المسلمون بشدَّة نتيجة هجراتهم إلى إسطنبول والأناضول في ظلِّ المعاملة السيِّئة من الحكومة النصرانية[143]، وسلبيَّة الدولة العثمانية في الدفاع عن حقوق المسلمين هناك، كما شهدت السنوات نفسها هجرةً من البلغاريين من كافَّة أنحاء الدولة العثمانية إلى الرومللي الشرقيَّة بعد حصولها على الحكم الذاتي بعد معاهدة برلين 1878م[144].
في سبتمبر 1885م اقتحم البلغاريون قصر الحاكم العسكري العثماني قرب عاصمة الرومللي الشرقيَّة بلوڤيديڤ Plovdiv، وطردوا الحامية العثمانية، وأعلنوا ضمَّ الإمارتين؛ بلغاريا، والرومللي الشرقيَّة، تحت إمرة أمير بلغاريا إسكندر باتنبرج Alexander of Battenberg (أمير ألماني اختارته روسيا لولاية بلغاريا، ولكنه غيَّر ولاءه للإنجليز)[145]!
كان التصرُّف خطرًا، وكان من المتوقَّع للدولة العثمانية أن تتعامل عسكريًّا مع الموقف، لكن السلطان عبد الحميد الثاني تعامل بالسلبيَّة نفسها التي تعامل بها مع سقوط الولايات الأخرى في دولته تباعًا، واكتفى بالاحتجاج لدى الدول الكبرى، فأمره رئيس وزراء بريطانيا سالزبوري Salisbury بعدم التدخل العسكري فرضخ السلطان[146]! ومِنْ ثَمَّ قرَّرت الدول الكبرى عقد مؤتمر لبحث هذه القضيَّة في إسطنبول في نوفمبر 1885م.
بعد مداولاتٍ استمرَّت أكثر من أربعة شهور، استقرَّت القوى الكبرى على بقاء الوضع على ما هو عليه؛ أي انضمام الرومللي الشرقية إلى بلغاريا، مع دفع جزيةٍ واحدةٍ إلى الدولة العثمانية عن الإقليمين المتَّحدين سويًّا، وكانت بريطانيا هي الداعم الرئيس لهذه النتيجة، بعد أن استطاعت استمالة أمير بلغاريا لصفِّها بدلًا من توجُّهه للروس[147]، واضطرَّ السلطان عبد الحميد الثاني إلى قبول الأمر الواقع، وأقرَّ بذلك في 5 أبريل 1886م، فيما عُرِفَ باتفاق توفين Tophane Agreement[148]، نسبة إلى حي توفين بإسطنبول الذي عُقِدَ فيه الاتفاق.
هكذا كانت بريطانيا وراء أغلب الشرور التي أصابت الدولة العثمانية في هذه الحقبة!
نظرة إجماليَّة على المرحلة الأولى من حياة السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1885م):
هكذا مرَّت تسع سنواتٍ كئيبة على الدولة العثمانية، وهي تُمثِّل المرحلة الأولى من حياة السلطان عبد الحميد الثاني، ولنا عليها تعليقاتٌ ثلاثة:
أولًا: فقدت الدولة في هذه السنوات التسع ما لم تفقده في كلِّ تاريخها! في الفترة من 1877م إلى 1885م ضاعت من الدولة العثمانية ولايات البغدان، والإفلاق، والجبل الأسود، وصربيا، والبوسنة، والهرسك، وقبرص، وتونس، ومصر، والسودان، وإريتريا، وچيبوتي، وأجزاء من اليونان، وأرمينيا، وكذلك أجزاء من شرق الأناضول! من المؤكد أن الحالة المتردِّية التي وصلت إليها الدولة في هذه الحقبة هي نتيجة الأخطاء المتراكمة عبر قرنين وأكثر من الزمن، ومع ذلك فلا يمكن إعفاء
السلطان عبد الحميد الثاني من الإسهام في هذا التدهور السريع جدًّا؛ وذلك بسبب عدم درايته السياسيَّة، وضعفه الظاهر أمام أعدائه، وسلبيَّته الكبيرة تجاه أحداثٍ عظيمةٍ تُصيب دولته، وعدم تعاونه مع المخلصين من أبناء أمَّته. لقد كان أداؤه في الواقع مخيِّبًا للآمال، ومهما اجتهد المؤرِّخون في التماس الأعذار له فإن هذا لن يكفي لإعفائه من المسئوليَّة، خاصَّةً أنه بحلِّ البرلمان، وتسريح النواب، وإلغاء الشورى، قرَّر أن يتحمَّل هو «وحده»، ووحده فقط، مسئوليَّة الدولة كلِّها!
ثانيًا: نجح السلطان عبد الحميد الثاني في هذه المرحلة الأولى في إسكات كلِّ معارضة، ولم يكن مسموحًا بنقد أيِّ شيءٍ في الدولة، وانتشرت الأعمال المخابراتيَّة التي تُراقب الناس عن طريق تشكيلاتٍ سرِّيَّةٍ عُرِفت «بالمنظَّمة الخفيَّة»[149]، وبالتركيَّة: «خافيه»[150] في الواقع نجحت هذه الإجراءات في حفظ الهدوء ظاهريًّا في الدولة، لكن في الحقيقة كانت هناك نيرانٌ تغلي تحت الرماد، واضطُرَّ المعارضون إلى العمل في الخفاء، وتكوين الجماعات السرِّيَّة، وهذا سيجرُّ على البلاد الويلات. يشهد المؤرِّخ التركي أوزتونا -على الرغم من أنه من أشدِّ المدافعين عن السلطان عبد الحميد- أن هذه التشكيلات البوليسيَّة أقلقت راحة الشعب بشكلٍ كبيرٍ لمدَّة ثلاثين سنة، وحدَّدت من حريَّاتهم الطبيعيَّة[151]! كان من الأولى إطلاق حرِّيَّة الناس في النقد والتعبير؛ لأن مواجهة الحُجَّة بالحُجَّة أقوى عشرات المرَّات من القمع القسري. لقد خلقت هذه السياسة أعداءً كثيرين للسلطان عبد الحميد الثاني، وكلهم سيتعاون مستقبلًا -على اختلاف توجُّهاتهم- لإسقاطه.
ثالثًا: برزت بريطانيا كقوَّةٍ أولى في العالم، ترسم سياساته، وتتحكَّم في خطواته، وتفرض على الجميع مسارات إجباريَّة لا بُدَّ لهم من السير فيها. لم تستطع الدولة العثمانية أن تخرج من مسارات بريطانيا، ولكنَّها للأسف لم تقاوم بالمرَّة، فكانت النتائج أسوأ من توقعات الجميع! أحسب أن الإنجليز أنفسهم كانوا مندهشين من طاعة السلطان عبد الحميد الثاني لهم! يمكن مراجعة أحداث تسليم قبرص، وعزل الخديوي إسماعيل، وفرمان عصيان أحمد عرابي، والسكوت عن احتلال مصر والسودان، وقبول ضياع مصوع بالحبشة، وقبول ضمِّ الرومللي الشرقيَّة إلى بلغاريا، لمعرفة أن الانصياع العثماني للإنجليز كان مبالغًا فيه! هذا كلُّه سيخلق أجواءً عدائيَّةً لبريطانيا، ولكنَّه -من جديد- سيخلق أجواءً عدائيَّةً للسلطان كذلك[152].
[1] العزاوي، قيس جواد: التباسات الكتابات العربية عن التاريخ العثماني: المستور في «محافظة» عبد الحميد الثاني و«حداثة» مدحت باشا، دار بدائل للطبع والنشر والتوزيع، الجيزة-مصر، الطبعة الأولى، 2018م.صفحة 43.
[2] أوزتونا، يلماز: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: عدنان محمود سلمان، مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري، مؤسسة فيصل للتمويل، إستانبول، صفحة 2/87.
[3] McMeekin, Sean: The Ottoman Endgame: War, Revolution, and the Making of the Modern Middle East, 1908-1923, Penguin Books, New York, USA, 2015, p. 4.
[4] آق كوندز، أحمد؛ وأوزتورك، سعيد: الدولة العثمانية المجهولة، وقف البحوث العثمانية، إسطنبول، 2008م، 2008 صفحة 427.
[5] بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م.الصفحات 584، 585.
[6] Gladstone, William Ewart: Bulgarian Horrors and the Question of the East, John Murray, London, UK, First Edition, 1876., p. 13.
[7] Ćirković, Sima M.: The Serbs, Translated: Vuk Tošić, Malden Blackwell Publishing, Malden, Massachusetts, USA, 2004., pp. 221-226.
[8] طوران، مصطفى: أسرار الانقلاب العثماني، ترجمة: كمال خوجة، دار السلام، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1405هـ=1985م. صفحة 35.
[9] روجان، يوجين: العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر، ترجمة: محمد إبراهيم الجندي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2011م. صفحة 138.
[10] مصطفى، أحمد عبد الرحيم: في أصول التاريخ العثماني، دار الشروق، بيروت-القاهرة، الطبعة الثانية، 1406هـ=1986م.صفحة 241.
[11]عبد الحميد الثاني: مذكرات السلطان عبد الحميد، ترجمة: محمد حرب، دار القلم، دمشق، 1412هـ=1991م. صفحة 147.
[12] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م. الصفحات 612–614.
[13] صفوت، محمد مصطفى: مؤتمر برلين 1878 وأثره في البلاد العربية، معهد الدراسات العربية العالية-جامعة الدول العربية، القاهرة، 1957م. صفحة 24.
[14] شاروبيم، ميخائيل: الكافي في تاريخ مصر الحديث والقديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1425هـ=2004م. صفحة 4/228.
[15] فريد، 1981 صفحة 615.
[16] شاروبيم، 2004 صفحة 4/228.
[17] أوزتونا، 1990 صفحة 2/102.
[18] آصاف، عزتلو يوسف: تاريخ سلاطين بني عثمان من أول نشأتهم حتى الآن، تقديم: محمد زينهم محمد عزب، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1415هـ=1995م. صفحة 129.
[19] طقوش، محمد سهيل: تاريخ العثمانيين من قيام الدولة إلى الانقلاب على الخلافة، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة، 1434هـ=2013م. صفحة 497.
[20] بروكلمان، 1968 الصفحات 585، 586.
[21] باتريك، ماري ملز: سلاطين بني عثمان، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ=1986م. الصفحات 112، 113.
[22] أوزتونا، 1990 صفحة 2/101.
[23] فريد، 1981 صفحة 616.
[24] حليم، إبراهيم: التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية، مطبعة ديوان عموم الاوقاف، القاهرة، الطبعة الأولى، 1323هـ=1905م. الصفحات 244-246.
[25] كامل، مصطفى: المسألة الشرقية، مطبعة الآداب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1898م.الصفحات 155-157.
[26]Davison, Roderic H.: Reform in the Ottoman Empire, 1856-1876, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, USA, 2015., p. 394.
[27] طقوش، 2013 الصفحات 427، 428.
[28] Davison, Roderic H.: Reform in the Ottoman Empire, 1856-1876, Princeton University Press, Princeton, New Jersey, USA, 2015., p. 394.
[29] بروكلمان، 1968 صفحة 589.
[30] الخالدي، محمد روحي: أسباب الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة، عني بتصحيحها: السيد حسين وصفي رضا، مكتبة المنار، القاهرة، 1326هـ=1908م. صفحة 72.
[31] Dūrī, Abd al-ʻAzīz: The Historical Formation of the Arab Nation: A Study in Identity and Consciousness, Translated: Lawrence I. Conrad, Taylor & Francis, Milton Park, Abingdon-on-Thames, Oxfordshire, UK, 1987., pp. 165–166.
[32] فريد، 1981 الصفحات 620، 621.
[33] الخالدي، 1908 الصفحات 80–82.
[34] نوري، عثمان: عبد الحميد الثاني ودور سلطنتي، حيات خصوصية وسياسة سي، الآستانة، 1909م. صفحة 1/218.
[35] آصاف، 1995 صفحة 131.
[36] الخالدي، 1908 الصفحات 80–82.
[37] فريد، 1981 صفحة 627.
[38] Hitchins, Keith: A Concise History of Romania, Cambridge University Press, New York, USA, 2014., p. 117.
[39] الخالدي، 1908 صفحة 83.
[40] بروكلمان، 1968 صفحة 587.
[41] Hitchins, 2014, p. 117.
[42] لبيب، حسين: تاريخ المسألة الشرقية، مطبعة الهلال، القاهرة، 1921م.
238. مبارك، علي: الخطط التوفيقية الجديدة لمصر والقاهرة ومدنها وبلادها القديمة والشهيرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008م. صفحة 81.
[43] شاروبيم، 2004 صفحة 4/230.
[44] فريد، 1981 الصفحات 637، 638.
[45] أوزتونا، 1990 الصفحات 2/112، 113.
[46] فريد، 1981 صفحة 635.
[47] Somel, Selçuk Akşin: The A to Z of the Ottoman Empire, the Scarecrow press, Lanham, MD, USA, 2010., p. lxvii.
[48] Zelepos, Ioannis: Die Ethnisierung griechischer Identität, 1870-1912 (in German), Oldenbourg Wissenschaftsverlag, 2002., p. 119.
[49] روجان، يوجين: العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر، ترجمة: محمد إبراهيم الجندي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2011م. الصفحات 153، 154.
[50] كامل، 1898 صفحة 172.
[51] فريد، 1981 الصفحات 640، 641.
[52] صفوت، 1957 صفحة 41.
[53] نوري، 1909 الصفحات 1/343، 344.
[54] Somel, 2010, p. lxvii.
[55] ﭼورﭼو، فرانسوا: النزاع الأخير (1878 - 1908)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م. صفحة 2/164.
[56] نوري، 1909 صفحة 1/345، 346.
[57] Somel, 2010, p. lxvii.
[58] Stråth, Bo.: Europe's Utopias of Peace: 1815, 1919, 1951, Bloomsbury Publishing, New York, USA, 2016., p. 202.
[59] Zhelyazkova, Antonina: Bulgaria, In: Kaplan, David H. & Herb, Guntram Henrik: Nations and Nationalism: A Global Historical Overview, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2008., vol. 2, p. 574.
[60] شاروبيم، 2004 الصفحات 4/235–246.
[61] فريد، 1981 الصفحات 652-664.
[62] Holland, Thomas Erskine: The European Concert in the Eastern Question: A Collection of Treaties and Other Public Acts, The Clarendon Press, Oxford, UK, 1885., pp. 335–348.
[63] صفوت، 1957 صفحة 42.
[64] كامل، 1898 الصفحات 172، 173.
[65] طقوش، 2013 صفحة 439.
[66] فريد، 1981 الصفحات 674، 675.
[67] فشر، هربرت. أ. ل.: تاريخ أوروبا في العصر الحديث (1789-1950)، ترجمة: أحمد نجيب هاشم، وديع الضبع، دار المعارف، القاهرة، الطبعة السادسة، 1972م. صفحة 371.
[68] بروكلمان، 1968 صفحة 589.
[69] جرانت، أ. ج.؛ وتمبرلي، هارولد: أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين 1789 - 1950، ترجمة: محمد علي أبو درة، لويس إسكندر، مؤسسة سجل العرب، القاهرة، 1967م. الصفحات 2/22، 23.
[70] Hurewitz, J. C. (Editor): The Middle East and North Africa in World Politics: A Documentary Record, Compiled and Translated: J. C. Hurewitz, D. Van Nostrand Company, New York, USA, 1956., vol. 1, pp. 187-189.
[71] روجان، 2011 صفحة 155.
[72] طقوش، 2013 صفحة 441.
[73] لبيب، 1921 صفحة 83.
[74] أوزتونا، 1990 الصفحات 2/123، 124.
[75] فريد، 1981 الصفحات 479-684.
[76] الشناوي، عبد العزيز محمد: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1986م. صفحة 2/1103.
[77] أوزتونا، 1990 الصفحات 2/123، 124.
[78] كامل، 1898 صفحة 180.
[79] فريد، 1981 الصفحات 670–673.
[80] Ioannides, Christos P.: Cyprus under British Colonial Rule: Culture, Politics, and the Movement toward Union with Greece, 1878–1954, Lexington Books, 2018., p. 34.
[81] Keefe, Eugene K.: Area Handbook for Cyprus, U.S. Government Printing Office, Washington, D.C., USA, 1971., p. 30.
[82] Bryant, Rebecca: On the Condition of Postcoloniality in Cyprus, In: Papadakis, Yiannis; Peristianis, Nicos & Welz, Gisela: Divided Cyprus: Modernity, History, and an Island in Conflict, Indiana University Press, Bloomington, Indianapolis, USA, 2006., p. 51.
[83] جرانت، وتمبرلي، 1967 صفحة 2/23.
[84] الشناوي، 1986 الصفحات 2/1110-1112.
[85] روجان، 2011 صفحة 168.
[86] صفوت، 1957 صفحة 55.
[87] صبري، محمد: تاريخ مصر الحديث من محمد علي إلى اليوم، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1926م. الصفحات 179، 180.
[88] سرهنك، إسماعيل: حقائق الأخبار عن دول البحار، المطابع الأميرية، بولاق، مصر، الطبعة الأولى، 1312هـ=1895م. الصفحات 2/364، 365.
[89] كرومر، اللورد: مصر الحديثة، مراجعة وتقديم: أحمد زكريا الشلق، ترجمة: صبري محمد حسن، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2014م، الصفحات 1/208، 209.
[90] صبري، 1926 صفحة 177.
[91] ساﭬلييف، ي .؛ وفاسلييف، ج .: موجز تاريخ افريقيا، تعريب: أمين الشريف، دار الطباعة الحديثة، القاهرة، (دون سنة طبع). صفحة 58.
[92] روجان، 2011 الصفحات 155، 156.
[93] Abun-Nasr, Jamil M.: A History of the Maghrib in the Islamic period, Cambridge University Press, New York, USA, 1987., pp. 276-278.
[94] لوتسكي: تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة: عفيفة البستاني، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الثامنة، 1985م. صفحة 332.
[95] العقاد، صلاح: المغرب العربي في التاريخ الحديث والمعاصر، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة السادسة، 1993م. الصفحات 189، 190.
[96] بيرنارد، أوغستان: العهد العثماني الثاني من سنة 1879م إلى سنة 1912م، ضمن كتاب: فيرو، شارل: الحوليات الليبية منذ الفتح العربي حتى الغزو الإيطالي، نقلها عن الفرنسية وحققها بمصادرها العربية ووضع مقدمتها النقدية: محمد عبد الكريم الوافي، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي–ليبيا، الطبعة الثالثة، 1994م. صفحة 524.
[97] الطائي، حنان علي إبراهيم؛ ووهاب، فؤاد علي: قضايا ودراسات في الشأن السياسي لدول المغرب العربي: المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، موريتانيا، الأكاديميون للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، 2015م.صفحة 27.
[98] الحمداني، نهاية محمد صالح: الحركة الوطنية التونسية 1881 – 1920، دار المعتز للنشر والتوزيع، عمان-الأردن، 2016م . الصفحات 60، 61.
[99] الشناوي، 1986 صفحة 4/1925.
[100] Miller, William: The Ottoman Empire and its Successors 1801 – 1927, Frank Cass & Co. LTD, London, UK, 1966., pp. 407-410.
[101] الرافعي، عبد الرحمن: الزعيم الثائر أحمد عرابى، دار ومطابع الشعب، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1968م. الصفحات 55-58.
[102] جودت، صالح: مصر في القرن التاسع عشر، مكتبة الشعب، القاهرة، (دون سنة طبع). صفحة 36.
[103] سرهنك، 1895 صفحة 2/379.
[104] رتشتين، تيودور: تاريخ المسألة المصرية 1875 – 1910، ترجمه إلى العربية: عبد الحميد العبادي، محمد بدران، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1355هـ=1936م. الصفحات 152، 153.
[105] Brown, Nathan J.: Constitutions in a Nonconstitutional World: Arab Basic Laws and the Prospects for Accountable Government, State University of New York Press, Albany, New York, USA, 2002., p. 27.
[106] 686. Madden, Frederick & Fieldhouse, David (Editors): The Dependent Empire and Ireland, 1840-1900, Advance and Retreat in Representative Self-Government, Select Documents on the Constitutional History of the British Empire and Commonwealth, Volume 5, Greenwood Press, Westport, CT, USA, 1991., vol. 5, p. 709.
[107] Roper, Geoffrey: Barudi, Mahmud Sami aL- (1839-1904), In: Akyeampong, Emmanuel Kwaku & Gates, Henry Louis: Dictionary of African Biography, Oxford University Press, New York, USA, 2012., vol. 1, p. 393.
[108] رتشتين، 1936 الصفحات 165، 166.
[109] الشريف، عمر: أعلام منسية: دراسة تاريخية، ببلومانيا للنشر والتوزيع، القاهرة، 2015م. الصفحات 44، 45.
[110] جيمس، لورانس: شروق الإمبراطورية البريطانية وغروبها، مراجعة: شوقي عطا الله الجمل، ترجمة وتقديم: عبد الله عبد الرازق إبراهيم، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2016م. صفحة 1/423.
[111] جودت، (دون سنة طبع) صفحة 37.
[112] روذستين، 1927 الصفحات 347، 348.
[113] روجان، 2011 صفحة 166.
[114] بلنت، ولفريد سكاون: التاريخ السري للاحتلال الإنجليزي لمصر: رواية شخصية للأحداث، مراجعة وتقديم: أحمد زكريا الشلق، ترجمة: صبري محمد حسن، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010م. صفحة 447.
[115] جيمس، 2016 صفحة 1/424.
[116] بروكلمان، 1968 الصفحات 591، 592.
[117] الرافعي، 1968 صفحة 184.
[118] الخفيف، محمود: أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه، مؤسسة هنداوي، القاهرة، (دون سنة طبع). الصفحات 384، 385.
[119] السعيد، رفعت: الأساس الاجتماعي للثورة العرابية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1966م. صفحة 108.
[120] سرهنك، 1895 الصفحات 1/408، 409.
[121] الخفيف، (دون سنة طبع) الصفحات 407، 408.
[122] جودت، (دون سنة طبع) الصفحات 40، 41.
[123] أحمد عرابي: مذكرات أحمد عرابي: كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية، دراسة وتحقيق: عبد المنعم إبراهيم الجميعي، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 1426هـ=2005م. صفحة 3/1165.
[124] Goldschmidt Jr., Arthur: Historical Dictionary of Egypt, The Scarecrow Press, Lanham, Maryland, USA, Fourth Edition, 2013., p. 47.
[125] روذستين، 1927 الصفحات 355، 356.
[126] روذستين، 1927 الصفحات 16–27، 27–40.
[127] Masters, Bruce Alan: Midhat Pasha (Ahmet Şefik Midhat Pasha, Ahmed Şefik Midhat Pasha) (b. 1822–d. 1884), In: Ágoston, Gábor & Masters, Bruce Alan: Encyclopedia of the Ottoman Empire, Infobase Publishing, New York, USA, 2009 (C).p. 379.
[128] Dūrī, 1987, pp. 165–166.
[129] ﭼورﭼو، فرانسوا: النزاع الأخير (1878 - 1908)، ضمن كتاب: مانتران، روبير: تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: بشير السباعي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة–باريس، الطبعة الأولى، 1993م. صفحة 2/164.
[130] Finkel, Caroline: Osman's Dream: The Story of the Ottoman Empire 1300-1923, John Murray, London, 2012., pp. 6–7.
[131] أوزتونا، 1990 صفحة 2/127.
[132] حليم، 1905 صفحة 211.
[133] أوزتونا، 1990 صفحة 2/128.
[134] Masters, 2009 (C), p. 379.
[135] Asiwaju, A. I.: The Conceptual Framework, In: Asiwaju, A. I.: Partitioned Africans: Ethnic Relations Across Africa's International Boundaries, 1884-1984, C. Hurst & Co. Publishers, London, UK, 1985., p. 1.
[136] Robinson, Ronald; Gallagher, John & Denny, Alice: Africa and the Victorians: The Official Mind of the Imperialism, Macmillan Publishers Ltd, London, UK, 1965., p. 175.
[137] Asiwaju, 1985, p. 1.
[138] Turpie, David: Ethiopian Peace Movement, In: Alexander, Leslie M. & Rucker, Walter C.: Encyclopedia of African American History, ABC-CLIO, Santa Barbara, California, USA, 2010., vol. 3, p. 759.
[139] White, Leslie A.: Modern Capitalist Culture, Left Coast Press, Walnut Creek, California, USA, 2008., p. 141.
[140] Vestal, Theodore M.: Reflections on the Battle of Adwa and Its Significance for Today, In: Milkias, Paulos & Metaferia, Getachew: The Battle of Adwa: Reflections on Ethiopia's Historic Victory Against European Colonialism, Algora Publishing, New York, USA, 2005., p. 22.
[141] Chisholm, Hugh & Garvin, James Louis: The Encyclopædia Britannica: A Dictionary of Arts, Sciences, Literature & General Information, Cambridge University Press, Cambridge, UK, Eleventh Edition, 1911., vol. 17, pp. 864-865.
[142] Institut Colonial International: Le régime des protectorats: Protectorats franca̧is en Afrique et en Océanie (in French), Institut Colonial International, Bruxelles (Brussels), Belgium, 1899., p. 383.
[143] الشناوي، 1986 الصفحات 4/1893، 1894.
[144] Karpat, Kemal H.: Studies on Ottoman Social and Political History: Selected Articles and Essays, Brill, Leiden, Netherlands, 2002., pp. 377-378.
[145] Zhelyazkova, 2008, vol. 2, p. 578.
[146] جرانت، وتمبرلي، 1950 الصفحات 2/28، 29.
[147] Chisholm & Garvin, 1911, vol. 1, pp. 544-545.
[148] Detrez, Raymond: Historical Dictionary of Bulgaria, Rowman & Littlefield Publishing Group, Lanham, Maryland, USA, Third Edition, 2015.p. 483.
[149] آق كوندز، وأوزتورك، 2008 صفحة 429.
[150] أوزتونا، 1990 صفحة 2/120.
[151] أوزتونا، 1990 صفحة 2/120.
[152] انظر: دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 2/ 1118- 1149.
التعليقات
إرسال تعليقك