الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
كانت مكتبة بغداد أكبر مكتبة في العالم لعدة قرون، أما أحد أشهر معالم الحضارة الإسلامية في هذه المكتبة بغداد هو مركز الترجمة.
تُعد مدينة بغداد من أعظم مدن الإسلام الحضارية، وقد بناها أبو الخليفة العباسي جعفر المنصور (145هـ= 762م) وعُرفت بعدة أسماء من أشهرها دار السلام، وقد كانت أكبر مدينة في العالم لمُعظم فَترة العباسيين، بِحَيث بلغَ عَدد سُكانها أكثر من مِليون نَسمة، وقد فقدت هذه المكانة منذ عام 656هـ= 1258م، وذلك عند سقوطها في يد المغول، وبعد عدة قرون صارت عاصمة الجمهورية العراقية، وتحديدًا في عام 1958م.
مكتبة بغداد:
من أحد أعظم وأشهر معالم مدينة بغداد مكتبتها الشهيرة المعروفة بمكتبة بغداد، وقد كانت أكبر مكتبة في العالم لعدة قرون، وبدأ تأسيسها الخليفة هارون الرشيد، وازدهرت في عهد ابنه المأمون، ومَنْ بعده من الخلفاء العباسيين، أما أحد أشهر معالم الحضارة الإسلامية في مكتبة بغداد هو مركز الترجمة بالمكتبة، وهذا ما نتحدث عنه.
فكرة تعلم اللغات الأجنبية ليست جديدة في عصر المأمون على المسلمين، فقد بدأها الرسول ﷺ بتوجيه زيد بن ثابت لتعلم العبرية والسريانية، وبدأت حركة الترجمة والنقل عن الآخرين في عهد الدولة الأموية على يد خالد بن يزيد الأموي[1].
أما الخليفة المأمون فقد اجتمعت لديه ثروة ضخمة من الكتب القديمة غير العربية فشَكَّل هيئة من المترجمين المهرة والشُّرَّاح والوَرَّاقين؛ للإشراف على ترميمها ونقلها إلى العربية، وعَيَّنَ مسئولاً لكل لغة يُشْرِفُ على مَنْ يترجمون تراثها، وأجرى عليهم الرواتب العظيمة؛ حيث جعل لبعضهم خمسمائة دينار في الشهر[2].[3].
كان المأمون يُقَدِّم مكافآت سخية للمترجمين إلى حدِّ وزن الترجمة بقيمتها ذهبًا[4]، وكان قسم الترجمة منوطًا به ترجمة الكتب من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، وأحيانًا من العربية إلى لغات أخرى لنفع الجاليات غير الناطقة بالعربية في الدولة، وكان من هؤلاء: يوحنا بن ماسويه[5]، وجبريل بن بختيشوع[6].
أيضًا أرسل المأمون حنين بن إسحاق في رحلة إلى بلاد الروم ليتَمَكَّنَ من اللغة اليونانية، وقد كانت الكتب الأجنبية تُجْلَبُ إلى المكتبة وتُتَرْجَم فيها، كما كان بعض النقلة يُترجم خارج المكتبة ويمدُّ المكتبة بترجماته، كذلك راسل المأمون ملوك الروم وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صِلَتَهُ بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون، وأرسطو، وأبقراط، وجالينوس، وأوقليدوس، وبطليموس، وغيرهم من الفلاسفة.
وكانت الكتب قد تترجم على مراحل تحريًا للدقة، فمثلًا كان يُوحنَّا بن مَاسُوَيْه ينقل الكتاب إلى السريانية (لغته الأصلية)، ثم يُكَلِّف غيره بنقله إلى العربية، مع الاحتفاظ بالأصل بعد صيانته، وفي معظم الأحيان لم يكن الانفتاح على الآخرين انفتاحًا أعمى؛ وإنما كان في غالبه وَفق قيمِ ومبادئ المسلمين؛ فقد انفتحوا على الحضارة الإغريقية لكنَّهم لم يأخذوا بقوانينهم ولم يُتَرْجِمُوا الإلياذة، ولا روائع الأدب اليوناني الوثني، كما انفتحوا على الحضارة الفارسية لكنهم تجنَّبُوا مذاهبها الهدَّامة فاستفادوا من الأدب الفارسي، والتراتيب الإدارية، كما انفتحوا على الحضارة الهندية لكنهم نحَّوْا فلسفتها وأديانها، وأخذوا حسابها وفلكها، وحفظوه وطوَّرُوه، وأضافوا إليه الكثير.
المسلمون ينفعون العالم كله بهذه الترجمة:
بهذه الترجمة قَدَّم المسلمون خدمة جليلة للبشرية كلها بنقلهم هذا التراث الذي كان مُهَدَّدًا بالزوال، ولولاهم ما عرف الناس في العصر الحديث شيئًا عن المصنفات اليونانية والهندية الثمينة القديمة؛ حيث كان يُحَرَّمُ الاطلاع عليها في كثير من البلدان التي جُلِبَتْ منها، وكان يُحْرَق منها ما يُعْثَرُ عليه، كما فُعِلَ بكتب أرشميدس العالم الشهير؛ إذ أَحْرَق الرومُ منها خمسة عشر حِمْلاً!
لم يقتصر دور المسلمين على الترجمة فقط، وإنما قاموا بالتعليق على هذه الكتب، وتفسير ما فيها من نظريات، ونقلها إلى حَيِّزِ التطبيق، وإكمال ما فيها من نقص، وتصويب ما فيها من خطأ؛ حيث كان عملهم يُشبه ما يُسَمَّى بالتحقيق الآن[7].[8].
[1] خالد بن يزيد الأموي: هو أبو هاشم خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي القرشي، كان من أعلم قريش بفنون العلم، وله كلام في صناعة الكيمياء والطب. توفي في دمشق سنة (90هـ/708م).
[2] ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء 2/133.
[3] 2125 جرام = 3612500 جنيه = ١١٨٣٣٢.٤٤ دولار. (بسعر الجرام 1700 عيار21).
[4] انظر: ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء ص172.
[5] يحيى بن ماسويه (يوحنا): هو أبو زكريا يوحنا بن ماسويه، طبيب خبير بصناعة الطب. سرياني الأصل، عربي المنشأ. خدم الرشيد والمأمون ومن بعدهما إلى أيام المتوكل، بمعالجتهم وتطبيب مرضاهم. توفي بسامرَّاء سنة (243هـ/ 857م).
[6] جبريل بن بختيشوع: هو جبريل أو جبرائيل بن بختيشوع الجنديسابوريّ (ت 205هـ/ 820م) طبيب حاذق، خدم الرشيد والمأمون وغيرهما. من آثاره: «رسالة إلى المأمون في المطعم والمشرب»، و«المدخل إلى صناعة المنطق».
[7] انظر: ابن النديم: الفهرست ص304 وما بعدها.
[8] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك