الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
إنَّ المشتركات الإنسانية العامة هي الأمور التي يشترك في أصولها وفروعها كلُّ الناس، والذي لا يحمل هذه المشتركات هو في الحقيقة ليس إنسانًا! وهذا يعني أنَّ
- الاحتياجات الأساسية
- العقل
- الأخلاق الأساسية
- حب التملك
- الكرامة
- الحرية
- العلم
- العمل
من المؤكد أنَّ البشر جميعًا يشتركون مع بعضهم البعض في عددٍ كبيرٍ من المشتركات تجتمع جميعًا تحت مسمى "المشترك الإنساني"، وكان أول وأهم هذه المشتركات هو المشترك الأسمى وهو العقيدة، أما المجموعة الثانية من هذه المشتركات بين البشر فهي ما أُسمِّيه: "المشتركات الإنسانية العامة"، وهي الأمور التي يشترك في أصولها وفروعها كلُّ الناس، لدرجة أنَّه من الممكن أن يُقال: إنَّ الذي لا يحمل هذا المشترك هو في الحقيقة ليس إنسانًا! وهذا يعني أنَّ هذه المشتركات ضروريَّة تمامًا للحياة، والتعرُّض لها بالأذى أو الضرر لا يعني إلَّا شيئًا واحدًا هو الحرب والصدام!
لكن في الوقت نفسه يُمكن للبشر جميعًا بسهولة أن يجتمعوا على هذه المشتركات؛ لأنَّهم جميعًا يُقدِّرونها ويحرصون عليها.
إنَّ هذه المشتركات العامَّة ميدانٌ فسيحٌ جدًّا للتعارف والتلاقي، وتحديد هذه المشتركات سيفتح لنا آفاقًا كثيرةً للتواصل بين الشعوب، وهو ما تسعى إليه هذه النظريَّة.
ولقد قمتُ بدراسةٍ موسَّعةٍ لطبائع البشر من كلِّ الأعراق والأصول، وكذلك في معظم المراحل الزمنيَّة التي مرَّ بها العالم، وقمتُ كذلك بعمل جلسات عصف ذهني كثيرة للغاية مع فرقٍ من الباحثين المتخصِّصين في التاريخ والفكر؛ لكي أخرج في النهاية بهذه المشتركات العامَّة، وما أكثر ما حذفنا مشتركًا بعد وضعه فيها، وما أكثر ما أضفنا جديدًا بعد أن كدنا نستقرُّ، حتى خرجت المشتركات الإنسانيَّة العامَّة في تصوُّري وتصوُّرهم على هذا النحو الذي سأذكره، وأحسب أنَّه لو جلسنا لعصفٍ ذهنيٍّ جديد لقُمْنَا بتعديلاتٍ كثيرة! وأنا أقول هذا الكلام لأفتح المجال لكلِّ مَنْ أراد أن يُضيف ما يراه مناسبًا، أو يحذف ما يراه غير مناسب؛ فإنَّما هذا جهدٌ بشريٌّ مُعرَّضٌ لكلِّ نقائص البشر.
وهذه المشتركات الإنسانيَّة العامَّة -في تصوُّرنا- ثمانية..
وتشمل هذه المشتركات: الاحتياجات الأساسيَّة، والعقل، والأخلاق الأساسيَّة، والتملُّك، والكرامة، والحريَّة، والعلم، والعمل.
إنَّها ثمانية مشتركاتٍ لا يُمكن للإنسان أن يعيش دونها..
وأعني بالاحتياجات الأساسيَّة؛ الاحتياجات الماديَّة للجسد الإنساني، التي إن لم تُوَفَّر له فإنَّ حياته تُعرَّض للخطر، وقد يُفْضِي الأمر إلى الوفاة؛ ولذلك فكلُّ البشر على اختلاف ثقافاتهم ومشاربهم يحتاجون إليها؛ وهي تشمل: الطعام، والمياه، والسكن، والأسرة، والأمن، والملبس، وهذه الأشياء إن لم يجدها الإنسان سعى إليها فطريًّا، وإن منعها منه أحدٌ أو تعدَّى عليها حدثت حروبٌ وصداماتٌ لا محالة، لأنَّنا لا نتصوَّر حياة بدونها.
وقد وضعتُ هذه الاحتياجات الأساسيَّة على قمَّة المشتركات العامَّة، على الرغم من أنَّ هذا قد يُغضب بعض العلماء والفلاسفة الذين يرفعون القيم الأخرى فوق الطعام والشراب، وعلى الرغم -كذلك- من أنَّ هذه المشتركات لا يشترك فيها الإنسان مع أخيه الإنسان فقط، بل يشترك فيها كذلك مع الحيوان، وهو الأدنى مرتبةً من الإنسان.. وضعتُها -كذلك- لأنَّني نظرتُ إلى عدَّة أمورٍ رجَّحت تقديمها على غيرها من المشتركات العامَّة الأخرى.
فأوَّلًا: هذه الاحتياجات حتميَّة لا يُمكن تأجيلها بحالٍ من الأحوال، ولا يُمكن الصبر على فواتها؛ ولذلك فالصراع عليها سيكون أعتى وأشدَّ، وثانيًا: شيوع هذه الاحتياجات في كلِّ البشر، بينما يُمكن أن تجد بعض الأقوام تنتكس فطرتهم فلا يهتمُّون ببقيَّة المشتركات العامَّة -على عظم أهميَّتها- لكنَّهم لن يستطيعوا إغفال حاجتهم للاحتياجات الأساسيَّة، وثالثًا: لأنَّ بقيَّة المشتركات العامَّة تحتاج إلى ذهنٍ صافٍ، وعقلٍ متَّقدٍ، وبالٍ هادئ، ولا يُمكن الوصول إلى هذه الحالة النفسيَّة في ظلِّ تهديد الاحتياجات الأساسيَّة، ورابعًا: لأنَّ الله عز وجل عندما أدخل آدم الجنة -كما حكى القرآن الكريم- طمأنه على أهمِّ ما سيشغله عند دخوله الجنة، فقال له: )إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى( [طه: 118، 119]، وقال: )وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا( [الأعراف: 19]، فقد علم الله عز وجل أنَّ هذا الخَلق الجديد سينشغل أوَّل ما ينشغل بقضايا الطعام والشراب واللباس والسكن والزوجة، فوَفَّر له كلَّ ذلك من البداية، ولتصبح هذه هي كبرى اهتمامات بني آدم بعد ذلك.
وليس في تقديم الاحتياجات الأساسيَّة على غيرها من المشتركات أيُّ نوعٍ من التدنِّي في الإنسانيَّة، فهذه غريزةٌ يفنى الجسد بدونها، وتضيع نعمة "الحياة" كلها، وقد أَمَرَت كلُّ الأديان بالحفاظ على النفس، ولم يُخالف في ذلك عالِمٌ ولا فيلسوف.
والمشترك العام الثاني هو العقل، وهو الذي يُمَيِّز الإنسان على بقيَّة المخلوقات، وبه يُصبح الإنسان مسئولًا عن تصرُّفاته وأفعاله، وغياب العقل يرفع التكليف والمسئوليَّة من على الإنسان، وهذا متعارفٌ عليه في كلِّ الأديان والأعراف والقوانين، فليس هناك جُناحٌ ولا محاسبةٌ على طفلٍ صغيرٍ لم ينضج عقله، ولا على شيخٍ كبيرٍ ذهب عقله، ولا على مجنونٍ فقد عقله؛ فالعقل هو مناط التكليف إذًا؛ ومن ثَمَّ أصبح لازمًا لإنسانيَّة الإنسان، والاعتداء عليه يُمَثِّل اعتداءً على الإنسانية في صميمها.
من هذا المنطلق فإنَّ النظرية تدعو الشعوب إلى الالتقاء على الأمور التي يقبلها العقل بشكلٍ عامٍّ، ولا داعيَ للتحاور والجدال في الأمور التي لا تقبلها عامَّة العقول، وأعني بذلك على وجهٍ خاصٍّ بعض الأمور العقائديَّة والتشريعيَّة المقبولة في عرف وعقيدة شعبٍ ما، ولا تقبلها عامَّة عقول البشر، فالأَوْلَى من هذا المنطلق أن نُؤخِّر الحديث عن هذه الأمور التي لن تُقْبَل إلَّا إذا غيَّر الآخرون عقيدتهم، وليس في هذا نهجٌ غريب، ولا فيه تهاونٌ أو تفريطٌ في مبادئ أحد، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْنَا أَنْ نُخَاطِبَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ"[1]. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "حدِّثوا الناس بما يعرفون"[2]. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلَّا كان لبعضهم فتنة"[3]. وهذه الفتنة هي ما نُريد أن نتجنَّبه، وما هذه الفتنة إلَّا صدام؛ قد يكون فكريًّا، وقد يكون دمويًّا، لكنَّه في النهاية صدام، وهو ضدُّ هدف النظريَّة.
وهذه رسالة أتقدَّم بها إلى كلِّ العلماء والمنظِّرين والفلاسفة وغيرهم ممن يُكَوِّنون حلقات اتِّصال مع الشعوب والأقوام الأخرى، أن يختاروا من الموضوعات والأطروحات التي تُتناوَل على موائد الحوار والمناظرة بحيث تكون مقبولة عقلًا عند كلِّ الأطراف، وهنا يُمكن أن نصل إلى نتيجة، ويُمكن للحوار أن يُثمر تعارفًا وتعايشًا.
وقد عرض الله عز وجل قضيَّة الألوهية ذاتها في القرآن الكريم بطرقٍ عقليَّةٍ بحتة، ليس المجال لتفصيلها الآن، لكنَّه لم يذكر للبشر أنَّ هذه حقيقةٌ مسلَّمٌ بها دون تفكير، وأنَّ هذا أمرٌ لا يُمكن فيه إعمال العقل، بل على العكس من ذلك، فقد حفل القرآن الكريم بالدعوات إلى إعمال العقول، وذلك مثل: )أَفَلاَ تَعْقِلُونَ(، ومثل: )أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ(، ومثل: )إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(, والأمر لا يُمكن حصره لكثرته.
إِذَنْ دعوتنا الأولى في مسألة العقل كمشتركٍ إنسانيٍّ عامٍّ هو أن تلتقي الشعوب على الأمور العقليَّة لا على الأمور الروحيَّة, وعلى الأدلَّة والبراهين لا على الانطباعات والغيبيَّات , وهنا يُمكن أن يحدث التواصل والتعارف.
أمَّا دعوتنا الثانية: فهي دعوةٌ تحذيريَّةٌ من أن يَحجر أحدٌ على هذا العقل، الذي تميَّز به الإنسان على سائر المخلوقات؛ لأنَّ الحجر عليه يُمَثِّل انتكاسة في البشريَّة، وضياعًا للإنسانيَّة، ولا شكَّ أنَّ هذا سيقود إلى حروبٍ وصدام.
إنَّه قد يأتي على ذهن بعض المصلحين أو القادة أنَّهم أوصياء على العالم، فيُفكِّرون هم، ويمنعون غيرهم من التفكير، ولقد ذكر الله عز وجل قصَّة واحدٍ من هؤلاء، وهو فرعون، فحكى موقفه الذي كان سببًا في هلاكه وهلاك شعبه.. قال تعالى على لسان فرعون: )مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ( [غافر: 29]، إنَّ هذه الرؤية المتسلطة غير مقبولة حتى من أحكم الحكماء، وهي تقود إلى دكتاتوريَّةٍ مهلكة، وتقود إلى تهميشٍ لعقول البشر؛ ومن ثَمَّ تكون النهاية كوارث صداميَّة داخليَّة وخارجيَّة.. داخليَّة في الوطن الواحد، وخارجيَّة مع الشعوب المختلفة.
كما أنَّ لنا دعوةٌ ثالثةٌ بخصوص العقل، وهو عدم السخرية مطلقًا من عقول الآخرين، مهما بدا رأيهم عند السامعين غريبًا، فبعض الشعوب نتيجة أمورٍ عقائديَّةٍ تربويَّةٍ معيَّنة تقبل بأشياء لا تُنكرها عقولهم بالمرَّة، بينما ترى شعوبٌ أخرى أنَّ هذا أمر منكرٌ تمامًا، فهنا يجب احترام عقول الآخرين، وعدم السخرية من أفكارهم ومعتقداتهم، ولْنَتْرُك هذه القضايا المحدودة، ولنبحثْ في الكمِّ الكبير من القضايا التي تتَّفق فيها عامَّة شعوب العالم.
ولعلِّي أضرب مثالًا في نهاية حديثي عن العقل أُوَضِّح فيه أثر عدم الاكتراث بهذا المشترك الإنساني المهم: يذكر مسلمٌ أنَّه كان يُحَدِّثُ غير مسلمٍ في بلدٍ غربيٍّ عن أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نبدأ باليمين حتى في ترجيل الشعر، فسخر غير المسلم من ذلك وقال: ما الفارق بين ترجيل الشعر من اليمين أو اليسار؟! وغضب المسلم لسخرية غير المسلم، وحدث الصدام!
مَن المخطئ في هذا الموقف؟!
الواقع أنَّ كليهما مخطئ!
فالمسلم ما كان ينبغي عليه أن يُحادث غير المسلم في أمرٍ لا يقبله عقله في المعتاد، وكان الأَوْلَى أن يُحادثه عن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بــ المرأة أو الطفل أو الحيوان، أو أمره صلى الله عليه وسلم بــ النظافة والنظام، أو حثِّه على طلب العلم، أو غير ذلك من أمورٍ تستوعبها عقول البشر جميعًا.
وأخطأ غير المسلم بسخريته من قول المسلم، إنَّما كان عليه إذا سمع ما لا يقبله عقله أن يرفضه دون سخرية، وأن يُبدي عدم القناعة دون استهزاء.
ولقد وَضَعَتْ هذه القصَّة حواجز بين الاثنين بدلًا من أن تبني جسورًا، مع أنَّه أُتيحت لهما فرصة الحوار، الذي هو من أعظم وسائل التواصل والتعارف.. ولم تكن هذه الحواجز إلَّا بسبب إهمالهما لمسألة العقل كمشتركٍ إنسانيٍّ عامٍّ بين كلِّ البشر.
أمَّا المشترك الإنساني العام الثالث فهو الأخلاق الأساسيَّة..
وهذا مصطلحٌ جديدٌ أدخلتُه في هذه النظريَّة لأُعبِّر به عن مجموعةٍ معيَّنةٍ من الأخلاق أرى أنَّها مشتركة بين عامَّة البشر، وهي في رؤيتي أساس الأخلاق، ومَنْ عُدِمَ أحد هذه الأخلاق الأساسيَّة فإنَّه سيتعذَّر عليه في الغالب أن يتَّصف بغيرها من الأخلاق.
وهذه الأخلاق الأساسيَّة من وجهة نظري ثلاثة؛ هي: الصدق، والأمانة، والعدل. ومن المؤكَّد أنَّني لا أعني تهميش الأخلاق الأخرى؛ كالكرم والشجاعة والصبر والحلم، لكن من منطلق النظريَّة أبحث عن الشيء الذي لا يختلف عليه شعبان في الدنيا؛ ومن ثَمَّ أعتبره مشتركًا إنسانيًّا عامًّا، ويُمكن عندها أن نلتقي عليه، وأن نتعارف على أساسه، ويُمكن كذلك أن نُدرِك أنَّ التعدِّي عليه لا يعني شيئًا سوى الصدام.
وسيأتي تفصيلٌ في فصلٍ قادمٍ عن هذه الأخلاق الثلاثة وسبب اختيارها، ولكنِّي في هذا المقام أقول: إنَّ كلَّ شعوب العالم تُقَدِّر هذه الأخلاق الثلاثة وتُعَظِّمها، حتى إن لم تكن تُمارسها، والشعوب التي لا تحرص على هذه القيم الأساسيَّة لا تتجرَّأ أن تُعلن أنَّها تكذب أو تخون أو تظلم، وإنَّما تبحث عن مبرِّرات لما تفعل، وقد تُدَلِّس على الناس بإعلانات ودعايات تُوهم بها السامعين أنَّها لم تُخالِف هذه الأخلاق الأساسيَّة، فهذه الأخلاق من هذا المنظور مشتركٌ إنسانيٌّ عامٌّ يُعظِّمه كلُّ البشر.
أضف إلى ذلك أنَّنا إذا كنَّا نتحدَّث عن تواصلٍ بين الشعوب، وتعارفٍ مبنيٍّ على ثقةٍ بين الأطراف المتواصلة، فإنَّنا لا نتصوَّر أن تقوم مثل هذه العلاقة وقد كذب فيها طرف أو خان أو ظلم؛ لأنَّ الطرف الآخر لن يقبل بهذه العلاقة تحت أيِّ ظرفٍ من الظروف، وبذلك فنحن نقضي بالفشل على هذه العلاقة؛ ومن ثَمَّ سيحدث الصدام.
وعمومًا فإنَّ الأُمَّة التي تفشَّت فيها أخلاق الكذب والخيانة والظلم هي أُمَّة تقترب من لحظاتها الأخيرة، وستنتهي دورتها في الحياة؛ ومن ثَمَّ لن يُصبح لها دورٌ مُؤَثِّرٌ في منظومة التواصل بين الشعوب، وإن كانت -لا شكَّ- ستُعطِّل مسيرة الإنسانيَّة نحو التعارف فترةً من الزمان حسب قوَّتها ومدى تأثيرها.
أمَّا بقيَّة الأخلاق فهي مهمَّةٌ جدًّا -كذلك- في التواصل، ولكن ليست كهذه الأخلاق الأساسيَّة، كما أنَّها ليست موجودةٌ أو مُقَدَّرةٌ عند كلِّ شعوب الأرض؛ ومن ثَمَّ فقد أَطلقتُ عليها مصطلح "الأخلاق السامية"، وضممتها إلى المشتركات الإنسانيَّة الخاصَّة، وليست العامَّة، وسيأتي الحديث عنها لاحقًا إن شاء الله.
ويأتي حُبُّ التملُّك كمشتركٍ إنسانيٍّ عامٍّ رابع يجتمع أهل الأرض جميعًا على الاهتمام به واحترامه.. وهو مشتركٌ يبدأ من الأيَّام الأولى لأيِّ طفلٍ مولود، ويستمرُّ مع الإنسان حتى آخر لحظات حياته، بل يُؤْثِر الإنسان أن يجعل ملكيَّة ما حَصَّله على مدار السنين لعقبه وأولاده من بعده، الذين هم جزءٌ منه، فكأنَّه ما زال يملك بعد موته، بل إنَّ بعض الأقوام -كالفراعنة مثلًا- كانوا يدفنون مع الميِّت المجوهرات والأشياء الخاصَّة التي كان يمتلكها الميِّت قبل وفاته؛ لتستمرَّ ملكيَّته لها حتى بعد مفارقته لحياة الناس!
إنَّها غريزةٌ عند كلِّ البشر!
غنيٌّ عن البيان إذًا أن نُشير إلى أنَّ التعدِّي على ملكيَّة الآخر -سواءٌ كان التعدِّي على مالٍ أو دارٍ أو أرض، أو شيءٍ عينيٍّ آخر- سيُؤَدِّي إلى صدامٍ حتمي؛ ومن ثَمَّ فلا يُمكن أن تقوم علاقة سلامٍ وتعارفٍ بين شعبين تعدَّى أحدهما على الآخر، وجار أحدهما على ملكيَّة الثاني، ومع بداهة هذا الأمر إلَّا أنَّ الواقع يشهد ما يُخالفه كثيرًا؛ ومن ثَمَّ ضاع السلام والوئام في هذا العالم، وكم من المرَّات نشاهد أطرافًا يجلسون على طاولة مفاوضاتٍ للوصول إلى آليَّاتٍ معيَّنةٍ لتطبيق السلام، بينما في الحقيقة نجد أنَّ أحدهم اغتصب ممتلكات الآخر، فهنا يجب أن نعلم أنَّنا نبحث عن سلامٍ وهميٍّ لا وجود له، وأن السلام الحقيقي لن يكون إلا باحترام الملكية لكل شعب، بل ولكل إنسان؛ فهي مشترك إنساني عام لن يتخلَّى عنه بشر مهما كان.
وغني عن البيان -أيضًا- أن نُشير إلى المناهج الفكرية التي تُلغي مسألة الملكيَّة وتجعل كلَّ شيءٍ ملكًا للدولة، وتُحارب غريزة حُبِّ التملُّك عند الإنسان- هي مناهج تحمل بذور الفشل مع نشأتها، وهي مناهج لا تقبلها الفطرة، وتمجُّها النفس السويَّة؛ ولذلك فما أسرع انهيارها! وما أقل دوامها! وما أكثر الصِّدَامات التي تُخَلِّفها مثل هذه الأنظمة والمناهج! وليس انهيار الاتحاد السوفيتي منَّا ببعيد، وقد ثارت شعوبه، واصطدمت صدامات مروعة مع قوادها ومع جيوشها؛ لأسبابٍ كثيرةٍ لعلَّ في مقدِّمتها أنَّهم حُرموا على مدار السنوات متعة التملُّك التي لا يستطيع إنسانٌ كائنًا مَنْ كان أن يتنازل عنها، وهي حقٌّ كفلته كلُّ الأديان، وشجَّعته كلُّ الشرائع، ولم تُنكره إلَّا بعض المناهج الشاذَّة التي أثبتت فشلها للجميع؛ مثل: المزدكيَّة، والشيوعيَّة.
فالتملُّك بهذه الرؤية مشتركٌ إنسانيٌّ عام يُمكن أن نتعارف على احترامه، ونتواصل على تقديره، ونحرص كل الحرص على عدم الاعتداء عليه.
أمَّا المشترك الإنساني العام الخامس فهو الكرامة، وهو مشتركٌ بين كلِّ البشر كذلك، ويعلو عند البعض، ويقل عند آخرين؛ نتيجة عوامل تربويَّةٍ معيَّنة، لكنَّه موجودٌ على كلِّ حالٍ في كلِّ الناس، ولقد ذكر الله عز وجل ذلك الأمر في حقِّ كلِّ الخَلْق، فقال: )وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ( [الإسراء: 70]. وكلُّ الناس بنو آدم، إذًا فالتكريم لكلِّ الناس، بصرف النظر عن دينه أو لونه أو جنسه أو وطنه أو الزمان الذي عاش فيه؛ لذلك اهتمَّ عقلاء العالم بالحفاظ على كرامة الآخرين، وهذا كان يكفل تعارفًا وثيقًا، وتواصلًا حميمًا، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص على كرامة الأسير المشرك، فعلى الرغم من أنَّه ليس على دينه، وعلى الرغم من أنَّه كان حريصًا على قتاله منذ لحظاتٍ قبل أن يُأسر، فإنه يُقَدِّر فيه إنسانيَّته، ويحترم كرامته، فيقول لـ أصحابه عن الأسير: "أَحْسِنُوا إِسَارَهُ"[4]. وكان بذلك يملك قلوب المخالفين، ويفتح الآفاق لحوار وتعارف وتواصل.
وماذا لو حدث انتهاك للكرامة؟
إنه تعدٍّ على مشترك إنساني عامٍّ، لا يُمكن أن يقبله إنسان؛ ولذلك فهذا نذير حربٍ وصدام، وقد تفنى شعوبٌ من أجل الحفاظ على كرامتها، وقد يكون سبب خدش الكرامة أمرٌ في ظاهره بسيط، لكنَّ عواقبه تكون من القوَّة بحيث يُمكن أن تستنزف إمكانيَّات أُمَّة أو أمم، ولقد رأينا الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة -مثلًا- تتعدَّى على كرامة الأُمَّة الإسلاميَّة فتقتل رسولًا من رسلها الذين كانوا يحملون رسالة إلى أحد حكَّام دمشق، فقامت من جرَّاء ذلك موقعة مؤتة، ثُمَّ مواقع أخرى وصدامات، ثُمَّ حروب ومعارك استمرَّت أكثر من ثمانية قرون!
إنَّ الكرامة لهي من أهم خصائص البشر، بل إنَّها تعلو عند بعض النفسيَّات، وعند بعض الشعوب حتى تربو على الاحتياجات الأساسيَّة من طعامٍ وشراب، وقديمًا قال العرب: "تجوع الحرَّة ولا تأكل بثدييها". فألم الجوع أهون ألف مرَّةٍ من ألم خدش الكرامة، بل الموت أحيانًا يُصبح مرغوبًا إذا كان دفاعًا عن الكرامة، وما أروع ما قاله عنترة بن شداد وهو يصف تقديره لهذا المشترك الإنساني العام:
لا تَسْقِنِي مَاءَ الْحَيَاةِ بِذِلَّةٍ |
|
بَلْ فَاسْقِنِي بِالْعِزِّ كَأْسَ الْحَنْظَلِ[5] |
فالحياة الذليلة ليست في واقع الأمر حياة، ومَنْ لم ينظر إلى هذا المشترك بعين الاعتبار، فهو يبحث عن صدام لا نهاية له!
أمَّا المشترك الإنساني العام السادس فهو الحريَّة، وهي كذلك غريزيَّة في كلِّ إنسان؛ بل يشترك فيها مع الإنسان سائر المخلوقات، وما هذا الحيوان الذي يقبل بحبسه؟ وما الطائر الذي يرضى بتقييد حريَّته؟ فكيف بالإنسان؟!
كلُّ سكَّان الأرض بلا استثناء يُقَدِّرون الحريَّة، بل ويُقَدِّرون الشعوب التي تُجاهد من أجل حريَّتها، حتى إنَّنا نرى كثيرًا من سكَّان الدول الاستعماريَّة يُنادون حكوماتهم أن يرفعوا أيديهم عن البلاد المحتلَّة، وأن يُعطوا شعوب العالم حريَّتهم.. إنَّها مطلبٌ إنسانيٌّ أصيلٌ يُمكن أن نجتمع عليه، ونتعارف على أساسه.
وجاءت الأديان كلُّها لتحرير الإنسان من العبوديَّة لغيره، وأن تجعل هذه العبوديَّة لله وحده، حتى في الأديان الوضعيَّة وعند الملاحدة لا يستطيع أحدٌ أن يُدافع عن العبوديَّة، ولا أن يُقِرَّ بتقييد الحريَّات، والشعب أو الفرد الذي تُقَيَّد حريَّته لا شكَّ أنَّه سيُناضل ويُكافح حتى ينال هذه الحريَّة، ومِنْ ثَمَّ فالعلاقات التي تقوم بين الشعوب على أساس الاستعباد والقهر هي علاقاتٌ فاسدةٌ لا يُمكن أن تستمرَّ، ولن تُورث إلَّا الكراهية والبغضاء.
ثُمَّ يأتي العلم كمشتركٍ إنسانيٍّ عامٍّ سابع..
ولا نُبالغ إن قلنا: إنَّ الإنسان يفقد سبب تكريمه إن فقد العلم! ولعلَّنا نُدرك ذلك بوضوح إذا راجعنا قصة خَلق آدم عليه السلام في القرآن الكريم وفي الكتب السماويَّة، لنرى أنَّ الله عز وجل ميَّزه بشيءٍ واحدٍ على الملائكة؛ ولذلك أسجد الملائكة له، وهذا الشيء هو العلم.. قال تعالى: )وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ( [البقرة: 31، 32]. فمن أجل هذا العلم رُفع قدر الإنسان، ومَنْ حُرم من العلم فقد حُرم أحد أهمِّ أسباب تكريمه كإنسان.
والعلم في رؤيتنا الخاصَّة بتقارب الشعوب، نوعان: علمٌ خاصٌّ وعلمٌ عام.. أمَّا العلم الخاص فهو الذي تهتمُّ به أُمَّةٌ دون غيرها من الأمم، فهو خاصٌّ بها، وليس مشتركًا عامًّا بين كلِّ الأمم، وهذا العلم هو علم العقيدة والدين في الأساس، وينضمُّ إليه علوم القانون والحقوق والأعراف والتقاليد.. وأمَّا العلم العام فهو العلم الذي يهتمُّ به كلُّ البشر على اختلاف أوطانهم وأعراقهم والزمان الذي عاشوا فيه، وهو العلم الخاصُّ بتعمير الأرض وتمهيد الحياة فيها؛ مثل علوم الطب والهندسة والفلك والكيمياء والذرَّة والفضاء، ومثل علوم الصناعة والتجارة والزراعة، فهذه أُسمِّيها "علمًا عامًّا"، وأُسمِّيها كذلك "ميراث الإنسانيَّة"، وهي علومٌ مرغوبةٌ ومطلوبةٌ عند عامَّة البشر، ولا تستقيم حياةٌ دونها، وهي تتطوَّر تبعًا للمكان والزمان والظروف البيئيَّة والحياتيَّة والاقتصاديَّة وغيرها، ولكنَّها في الوقت نفسه ليس لها وطنٌ معيَّن؛ فمصباحٌ اختُرِع في أميركا يستفيد منه أهل اليابان، وعلم الجبر اختُرِع في بلاد المسلمين ينفع الناس في أوربَّا، وورقٌ اختُرِع في الصين يستفيد منه البشر في إفريقيا.. وهكذا.
إنَّ هذا العلم لَمِنْ أروع وسائل التواصل والتعارف بين الشعوب، وهو ميدانٌ فسيحٌ جدًّا جدًّا للتلاقي؛ لأنَّه ما من أمَّة -مهما صغرت- إلَّا وعندها إتقانٌ لنوعٍ من العلوم يحتاجه بقيَّة البشر، كما أنَّ الأيَّام دول، والدولة العلميَّة الرائدة في زمانٍ قد تُعاني في زمانٍ آخر من تخلُّفٍ وتدهور، فهي في الزمان الأوَّل تُصَدِّر هذا النوع من العلوم لغيرها من البشر، وهي في الزمان الثاني تستورده، وهكذا كلُّ الأمم.
ولا شكَّ أنَّ تعمُّد حرمان أُمَّةٍ من الأمم من هذا العلم يُنذر بحربٍ ضروس؛ لأنَّ هذا العلم هو الذي يبني الأمم، والحرمان منه يعني الانهيار، ولن يقبل شعبٌ بذلك أبدًا، ومِنْ ثَمَّ سيكون الصدام..
أمَّا ثامن هذه المشتركات العامَّة فهو العمل، وهو كذلك غريزةٌ في كلِّ إنسان، والسماء لا تُمطر ذهبًا ولا فضَّة؛ ومن ثَمَّ وجب على كلِّ إنسانٍ أن يعمل حتى يُحَصِّل ما يكفل له احتياجاته الأساسيَّة من طعامٍ وشرابٍ وملبسٍ ودواءٍ وغير ذلك، وقد يسعى للعمل للحصول على ما يُرَفِّه حياته ويُجَمِّلها، فلا يكتفي حينئذٍ بالضروريَّات، بل إنَّ الإنسان ميسور الحال الذي يجد من المال ما يكفيه وأهله لعشرات السنين هذا الإنسان لا يرغب أبدًا في الجلوس دون عمل؛ فهذا يُشعره بضياع قيمته، كما يُشعره بعدم فائدته لمن حوله في المجتمع، وهذا يقتله نفسيًّا؛ ولذلك نرى حالات الاكتئاب تنتشر جدًّا في كبار السنِّ؛ الذين أُحيلوا إلى المعاش، أو الذين تركوا أعمالهم لضعف قوَّتهم، وقد يُقدم بعضهم على الانتحار؛ لأنَّ الحياة بالنسبة إليه لا تعني شيئًا دون عمل.
والعمل ليس له وطن، تمامًا كمشترك العلم، فالعلم والعمل غير مرتبطَيْنِ أبدًا بحدود دولةٍ أو أُمَّة؛ إنَّما يُمَثِّلان في الغالب أشهر الأسباب لانتقال الإنسان من وطنٍ إلى وطنٍ آخر، ولعلَّ هذا الانتقال يكون أحيانًا هجرةً بلا عودة؛ بحثًا عن تعلُّم علمٍ معيَّن، أو بحثًا عن عملٍ أو وظيفةٍ مُعَيَّنة، فهما هنا من أرحب ميادين التواصل بين الشعوب.
وما أكثر الشعوب التي تذخر بالمصانع والمناجم والمزارع وفرص العمل! وما أكثر الشعوب -كذلك- التي تذخر بالطاقات البشريَّة المعطَّلة والمفتقرة إلى فرصة عمل، ولو تعاونت هذه الشعوب مع الأخرى لتكوَّنت منظومات عالميَّة متعاونة؛ تهدف إلى حالةٍ من السلم والتعارف والتواصل.. والسعي إلى تقنين ذلك يُهَدِّئ كثيرًا من حالات الاحتقان التي نراها عندما نُشاهد أقوامًا يُعانون من البطالة في وطنٍ يسعون لدخول وطنٍ آخر بشكلٍ غير شرعي، وبطرقٍ غير قانونيَّة؛ ممَّا يُؤَثِّر على العلاقات بين الشعوب، فلو سعى المصلحون إلى تذويب الحواجز بين الشعوب، وتوسيع الأفق، واعتبار العمل أحد أهم المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، وسنِّ القوانين التي تكفل الحقوق لكلا الشعبين؛ لَتَحقَّق تواصل وتلاحم بين معظم شعوب الأرض، وَلَقَلَّت أسباب الحروب إلى حدٍّ كبير، خاصَّةً وأنَّني أعتبر الإنسان الذي يُعاني من البطالة إنسانًا قابلًا للانفجار في أيَّة لحظة، وليس بالضرورة أن يكون انفجاره في بلده، بل قد يكون في أيِّ مكانٍ في العالم، وهذا يُنذر بصدام كبيرٍ لا يُمكن توقُّع آثاره.
حقيقة المشتركات العامة
كانت هذه هي المشتركات الإنسانيَّة العامَّة في نظريَّتنا، وهي -كما ذكرنا- ثمانية، وإن كنتُ على يقينٍ أنَّ هناك تقسيماتٌ أخرى قد تقسم أحدها إلى اثنين أو ثلاثة، أو تضمُّ بعضها تحت عنوانٍ واحد، أو تأتي بمشتركٍ جديد، أو تحذف مشتركًا وضعناه.. إنَّما على كلِّ حالٍ أعتقد أنَّ الفكرة قد وضحتْ، فهذه أمورٌ لا يستطيع الإنسان بحالٍ أن يعيش بدونها؛ ومن ثَمَّ فهي ضروريَّةٌ تمامًا لأيِّ إنسان، والاعتداء عليها لا يعني إلَّا الصدام والحرب، كما أنَّها ميدان اتصالٍ واسع الأرجاء بين كلِّ البشر على اختلاف أنواعهم، فليس هناك واحدٌ من البشر لا يحترم هذه المشتركات الإنسانيَّة العامَّة؛ سواءٌ على وجه الإجمال، أو حتى في التفصيلات الداخليَّة في كلِّ مشترك، وهو ما جعلنا نُطلق عليها لفظ "العامَّة".
وإنني بعد تدبُّرٍ في القرآن الكريم وفي السُّنَّة المطهَّرة ألمح حبلًا يربط بين كلِّ هذه المشتركات الثمانية، وهذا الحبل هو "الفطرة".. فهذه المشتركات في الحقيقة هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، بمعنى أنها زُرعت في الإنسان من لحظة خلقه، واتَّصف بها منذ يوم ميلاده، وتظلُّ معه إلى آخر أيَّام حياته، وليس له إرادة في استصحابها، ولا يقدر -حتى لو رَغِب- أن يتخلَّى عنها، والإنسان الذي يتخلَّى عنها هو في واقع الأمر مريضٌ يحتاج إلى علاج، فرجلٌ يعزف عن الطعام أو الشراب، أو رجلٌ يطلب الإهانة أو العبوديَّة، ورجلٌ يسعى إلى جهلٍ أو يرضى بالبطالة.. كلُّ هؤلاء مرضى يحتاجون إلى تأهيلٍ نفسيٍّ وتربوي؛ فالأصل أنَّ جميع البشر مفطورون على تقدير هذه المشتركات واحترامها.. وقد جاء ذِكْر هذه الفطرة في القرآن الكريم مرتبطة بالناس جميعًا، وليست مرتبطة بقومٍ دون قوم، أو بشعبٍ دون شعب.. قال تعالى: )فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا( [الروم: 30]. وواضح بالطبع أنَّ الله ذَكَر هنا ارتباط الفطرة بالناس، وليس بالمؤمنين فقط، إنَّما هي شيءٌ عامٌّ يربط كلَّ البشر.
وقد يُطلق علماء النفس على هذا الرابط كلمة "الغريزة"، وهي تعني -أيضًا- الأمور اللا إراديَّة التي نجدها في كلِّ إنسان، وهي التي تُعطيه صفة الإنسانيَّة، وفاقدها مريضٌ يحتاج إلى علاج.
ممَّا سبق يُمكن القول: إنَّ هذه المشتركات الإنسانيَّة العامَّة هي من الثوابت غير القابلة للتغيير، ومع أنَّنا ذكرنا أنَّ العقيدة هي المشترك الأسمى، وأنَّها أعلى من هذه المشتركات العامَّة إلَّا إنَّ العقيدة يُمكن أن تتغيَّر، نعم لا يكون هذا إلَّا بصعوبةٍ بالغة، لكنَّها في النهاية يُمكن أن تتغيَّر، خاصَّةً إذا كان تغييرها نتيجة حوارٍ هادئٍ غير متعنِّتٍ يُبَدِّل القناعات دون إكراه.. لكن على الناحية الأخرى فإنَّ المشتركات الإنسانيَّة لا يُمكن تغييرها لا بحوارٍ هادئ ولا عنيف؛ ومن ثَمَّ فلا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يُفكِّر شعبٌ في التواصل مع شعبٍ آخر وقد هُدِّدت أحد هذه المشتركات العامَّة؛ لأنَّ هذا يعني ببساطة فقد الحياة.. ولن يقبل أحد بفقد حياته!
ومن اللطيف أن نذكر هنا أنَّ هذه المشتركات الإنسانيَّة العامَّة هي الثوابت الوحيدة في كلِّ المشتركات المذكورة في نظريَّتنا، وأنَّ كلَّ المشتركات الأخرى قابلة للتغيير الكامل، وإن كانت إمكانيَّة التغيير وسهولته أو صعوبته تختلف من مشتركٍ إلى آخر.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
التعليقات
إرسال تعليقك