د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
نظرية هرم الخشوع نظرية للدكتور راغب السرجاني تُبَيِّن لنا درجات الخشوع في الصلاة بشكل مبتكر وواضح، فما هي هذه النظرية؟ وكيف يمكن تطبيقها؟
كثيرًا ما نقرأ عن خشوع النبي صلى الله عليه وسلم، أو خشوع الصحابة والتابعين والسلف الصالح فنشعر أننا نقرأ عن عالم خيالي غير قابل للتحقيق في زماننا! أو أن ما نقرؤه عن خشوعهم قد شَابَهُ شيءٌ من المبالغة؛ حتى صار غير مقبول لعقولنا؛ لكن عند التحقيق نرتطم بصحَّة كثيرٍ من الأحاديث والآثار التي نقلت لنا صفة خشوع هؤلاء الأخيار، وهذا يزيد من حيرتنا وارتباكنا! وقد تتعدَّد الأسباب وراء هذه الحيرة؛ لكن يبقى السبب الأكبر -في رأيي- وراء ذلك أننا نُريد أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون في مسألة الخشوع! والبداية من حيث انتهى الآخرون تصلح -بل تُفضَّل- في تجارب الحياة المادية؛ مثل: الطب والهندسة، والإدارة والقيادة، وفنون الحوار أو القتال.. لكن في الأمور القلبية والإيمانية نجد أن الأمر مختلف أشدَّ الاختلاف! فالتدرُّج في هذه الأمور مطلوب، والرفق محمود.. بل إنَّ محاولة الوصول إلى القمَّة بشكل سريع ومفاجئ قد تُؤَدِّي إلى سقوط وانهيار؛ لذا أقول: إنه إذا كانت البداية من حيث انتهى الآخرون أمر محمود في أمور الدنيا، فإن البداية من حيث «بدأ» الآخرون أمر لازم في أمور الآخرة! ولهذا يُحَذِّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا السلوك، فيقول -فيما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه-: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ»[1]. وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ؛ فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلجَةِ[2]»[3]. وأمثال هذا المبدأ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كثير، وهذا كلُّه يعني أن الناس تتفاوت في خشوعها، وأنه ليس من الصواب أن تحاول أن تخشع خشوع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من أول محاولات خشوعك؛ إذ إن النتيجة في الغالب ستكون الفشل! أو على الأقلِّ عدم القدرة على الاستمرار والمداومة، وهذا قد يُورث إحباطًا؛ ومن ثَمَّ ترك العمل بالكلية! وهنا ينتكس الفرد من حيث كان يُريد النجاح!
وتفاوُتُ الناس في درجة خشوعها يعني أن هناك درجاتٍ للخشوع، فليس خشوع الرسول صلى الله عليه وسلم أو إخوانه من الأنبياء المعصومين كخشوع بقية البشر.. نعم جُعِل الرسول صلى الله عليه وسلم قدوةً لنا، وأمرنا الله باتِّباعه، لكنَّ ارتقاءنا إلى درجته مستحيل؛ خاصَّة في الأمور القلبية والإيمانية، حتى لو قلَّدنا الظاهر تمامًا فإنَّ بواطننا ليس كباطنه، وقلوبنا ليست كقلبه، كما أن المداومة على الحالة التي كان عليها ضرب من المستحيل كذلك! ولا نقول هذا الكلام لنمنع الناس من تقليده واتِّباعه.. حاش لله.. إنما أقصد أن المؤمن يجتهد ليُحَقِّق أقصى ما يستطيعه من المثال «الكامل» الذي ضُرِب له، وقد ينجح أحدنا في الارتقاء جدًّا في أحد المجالات، وينجح آخر في الارتقاء في مجالٍ ثانٍ، وهكذا يُحَقِّق كلُّ واحد منَّا القدوة «شبه الكاملة» في مجال من المجالات؛ بينما لا يستطيع في مجال آخر إلَّا تحقيق الحدِّ الأدنى المطلوب، وتبقى العصمة للأنبياء فقط صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
حتى الأمثلة التي نطَّلع عليها من حياة الصحابة والتابعين والعلماء والمجاهدين تعرض لنا صورًا متفاوتة من الخشوع في الصلاة؛ فليسوا جميعًا صورة واحدة، إنما يَفْضُل بعضُهم بعضًا، وكان بعضهم يبرز بقوَّة في مجال الصلاة، وآخر في مجال الصيام، وثالث في مجال الجهاد، ورابع في مجال الإنفاق، وهكذا.. ونحن نتَّخذ بعضهم قدوة في مجال، ونتَّخذ آخرين قدوة في مجال آخر، لكن يبقى هناك حدٌّ أدنى في كل العبادات والمعاملات يقوم به الجميع، وهو أقلُّ ما يُطلب من المؤمن، كما يبقى هناك حدٌّ أعلى في بعض الأمور ينبغي للمسلم ألَّا يتعدَّاه، وإلَّا بلغ الشطط والإسراف، وكلا الحدَّيْن الأدنى والأعلى تُحَدِّدهما السُّنَّة المطهَّرة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُراعي الفوارق بين الناس ومدى استعدادهم، ودرجة إيمانهم، وتدرُّجهم في سُلَّم الإسلام، ولنأخذ مثالًا على ذلك في مسألة الصلاة؛ فنرى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل من أحد الصحابة شيئًا بسيطًا من العبادة؛ بينما لا يقبل من آخر إلَّا الأعلى والأجود، فعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل[4] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نَجْدٍ، ثَائِرَ الرأس، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ[5]، ولا يُفْقَهُ ما يقول، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ». قال: هل عليَّ غيره؟ قال: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قال: وَذَكَرَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ». قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله! لا أزيد على هذا ولا أَنْقُصُ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»[6]. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقبل من هذا الأعرابي مجرَّد أداء الفرائض؛ بل ويُبَشِّره بالفلاح، وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الجَنَّةَ»[7]. ولكنه صلى الله عليه وسلم في موقف آخر يُحَذِّر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مِنْ تَرْك قيام الليل مع كونه نافلة! فيقول له: «يَا عَبْدَ اللهِ؛ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ»[8]. فالرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم يُفَرِّق في المطلوب من المسلم بين الأعرابي حديث الإسلام، وبين عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي قطع شوطًا طويلًا في طريق الإيمان، وتمرَّس على الصلاة والقيام والقرآن، ولعلَّه بعد ذلك يطلب من الأعرابي ترقِّيًا في العبادة، وطولًا في الصلاة إذا رأى منه اجتهادًا وتفوُّقًا.
كلُّ هذا يُؤَكِّد أن الخشوع في الصلاة درجات، وإن كُنَّا جميعًا مطالبين بالخشوع لكنَّ درجاتنا فيه ستتفاوت حتمًا، ويبقى الدور الأعظم الذي نحرص عليه في هذا الطرح أن نُبَيِّن الحدَّ الأدنى الذي ينبغي للمسلم أن يُحَقِّقَه حتى يُسَمَّى خاشعًا، الذي إن فاته صار مُقَصِّرًا محاسَبًا، ثم نطَّلع بعد ذلك على الدرجات الأعلى؛ حتى نتمكَّن من تحقيق التدرُّج المسنون، الذي يضمن لنا استمرارية ودوامًا.
وهناك تصنيفات كثيرة لدرجات الخشوع؛ ولكني وجدتُ أن هذه التصنيفات لم تستوعب كل الحالات النفسية التي يمرُّ بها المُصَلِّي في صلاته عندما يتنامى خشوعه مع الوقت، كما وجدتُ أن هذه التصنيفات لا تجمع كلَّ صور الخشوع التي نراها عند المُصَلِّين، كما أنها -للأسف- لم تُوَضِّح طريقًا جليًّا ثابتًا للانتقال من مرحلة إلى مرحلة؛ ومن ثَمَّ عَكَفْتُ على دراسة الآيات والأحاديث المتعلِّقَة بموضوع الخشوع خاصَّةً والصلاة عامَّةً، ودرست كذلك صور الخاشعين في مسيرة الأُمَّة الإسلامية؛ بداية من القدوة الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، ومرورًا بالصحابة رضي الله عنهم، والتابعين والعلماء والعبَّاد رحمهم الله جميعًا، وأضفت تجاربي الشخصية، وما مررتُ به من مواقف، وما تعرَّضْتُ له من أسئلة واستفسارات من المسلمين بخصوص هذه المسألة المهمَّة، وفي النهاية خَرَجْتُ بهذه النظرية التي تُبَيِّن لنا درجات الخشوع بشكل مبتكر وواضح، كما أنها تضع اليد بسهولة على الوسيلة العملية للانتقال من درجة إلى درجة دون تكلُّف أو تعنُّت.. وقد وجدتُ أن وصف الأمر بالهرم أقرب إلى الحقيقة، ليس فقط لأن المُصَلِّي يصعد من درجة إلى درجة بالترتيب؛ ولكن لأن عدد المُصَلِّين في الدرجة الدنيا كثير جدًّا؛ بينما يقلُّ عددهم تدريجيًّا كلما صعدنا إلى أعلى، وهذه طبيعة الهرم، والواقع أن الذي يصل إلى الدرجة الأخيرة في هرم الخشوع قليل للغاية!
وكملخَّص للنظرية؛ فإنها تُرتِّب الخشوع في الصلاة في شكل هرمي، له خمس درجات: الأولى هي درجة «الوعي»؛ وتتحقَّق عن طريق العلم والدراسة، والثانية هي درجة «الطمع»؛ وتتحقَّق عن طريق معرفة ثواب الفعل أو القول في الصلاة، والثالثة هي درجة «الوجل»؛ وتتحقَّق بتذكُّر الذنوب، والرابعة هي درجة «الخشية»؛ وتتحقق بالتدبُّر في حياة القبر ويوم القيامة والآخرة، أمَّا الدرجة الخامسة والأخيرة فهي درجة «الاطمئنان»، وهذه هبة من الله يهبها للمجتهدين الذين صبروا وصابروا، وخلصت قلوبهم تمامًا لله سبحانه، فما عادوا يَرَوْنَ غيره، فكانت هذه الدرجة مكافأة دنيوية لهم، تمهيدًا للمكافأة الأعظم يوم القيامة.
ويبقى في نهاية النظرية أن أُؤكد أن التدرُّج في صعود الهرم أمر ضروري، ولو سعينا للوصول إلى الدرجة الثالثة أو الرابعة فجأة فإنَّ هذا قد يضرُّ أكثر مما يفيد؛ فالدرجة الثانية تُورِث حبَّ الله -عز وجل- في القلب، والدرجة الثالثة والرابعة تُورِث الخشية والخوف منه، وليس من المصلحة أن يسبق الخوفُ الحبَّ، فإن هذا يُفقِد العبد لذَّة الطاعة، وهذا يُؤَثِّر على خشوعه؛ بل على إيمانه بالكامل، أمَّا الدرجة الأولى فهي تسبق الجميع بلا جدال؛ فهي درجة الوعي والعلم والإدراك، ومحال أن يُبنى خشوع على جهل أو إبهام؛ لذا وجب على المؤمن أن يمرَّ بها أولًا، ثم يتجاوزها إلى ما بعدها. وسنفصل القول عن كل درجة من درجات الهرم في المقالات التالية بإذن الله. وهي:
الوعي.. الدرجة الأولى من هرم الخشوع
الطمع.. الدرجة الثانية من هرم الخشوع
الوجل.. الدرجة الثالثة من هرم الخشوع
الخشية.. الدرجة الرابعة من هرم الخشوع
والله ولي التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أحمد (13074)، وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله موثقون إلا أن خلف بن مهران لم يُدرك أنسًا والله أعلم. انظر: مجمع الزوائد، 1/229، وحسنه الألباني، انظر: صحيح الجامع (2246).
[2] واستعينوا بِالْغَدْوَةِ؛ أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المُنَشِّطَة، والغَدْوَة: سَيْرُ أوَّل النهار. وقيل: ما بين صلاة الْغَدَاةِ وطلوع الشمس. والرَّوْحَة: السَّيْرُ بعد الزوال. وَالدُّلْجَة: سَيْرُ آخر الليل. وقيل: سَيْرُ الليل كله؛ ولهذا عبَّر فيه بالتبعيض، ولأن عمل الليل أشقُّ من عمل النهار. ابن حجر: فتح الباري 1/95.
[3] البخاري: كتاب الإيمان، باب الدين يسر، (39)، والنسائي (11765)، وابن حبان (351)، والبيهقي: السنن الكبرى، (4518).
[4] هو: ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه وَافِدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. انظر: ابن حجر: فتح الباري 1/106.
[5] قال بدر الدين العيني: قال الخطابي: الدوي: صوت مرتفع متكرِّر لا يُفهم، وإنما كان كذلك لأنه نادى من بُعد، ويُقال الدَّوِيُّ: بُعد الصوت في الهواء وعُلُوُّه، ومعناه: صوتٌ شديدٌ لا يُفهم منه شيء كدَوِيِّ النحل. انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري 1/266.
[6] البخاري: كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، (46)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، (11).
[7] مسلم: كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الإسلام، (12)، والنسائي (2401)، وأحمد (12479)، والدارمي (652)، وابن حبان (155).
[8] البخاري: أبواب التهجد، باب ما يُكره من ترك قيام الليل لمَنْ كان يقومه، (1101)، ومسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمَنْ تضرَّر به أو فوَّت به حقًّا أو لم يُفطر، (1159).
◄◄ هذا المقال من كتاب كيف تخشع في صلاتك للدكتور راغب السرجاني
يمكنك شراء الكتاب من خلال صفحة دار أقلام أو الاتصال برقم 01116500111
التعليقات
إرسال تعليقك