التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يا لها من سنواتٍ عصيبةٍ لم يغمض فيها جفنٌ للسلطان محمد الفاتح، ولم تهدأ فيها فِرْقةٌ من فرق الجيش العثماني.
بعد الأحداث الساخنة التي حدثت في ألبانيا والبغدان كان الجميع متوقِّعًا أن يقوم الفاتح بعملية عسكرية قريبة في إحداهما، فإذا به يأخذ قرارًا بفتح جبهة جديدة للقتال في مكان بعيد عنهما تمامًا، بل هو مكان لم يقم فيه بعمليات عسكرية ذات قيمة قبل ذلك!
لقد قرَّر أن يفتح شبه جزيرة القرم شمال البحر الأسود، وذلك في صيف العام الحالي، أي في صيف 1475م، والحقُّ أنَّ القرار كان رائعًا، وكانت آثاره مجيدة، ويحتاج منَّا إلى وقفةٍ مهمَّةٍ لتحليله، ودراسة الفوائد المتحقَّقة من أخذه..
أوَّلًا: لماذا غزو القرم وليس التوجُّه إلى البغدان نفسها؟!
إنَّ سيطرة الدولة العثمانية على هذه المنطقة تُحقِّق فوائد لا حصر لها، بينما يُحتمل أن تتعرَّض الدولة لبعض المشكلات في حال غزوها للبغدان، كما يتبيَّن من النقاط التالية:
1. سيلتقي العثمانيُّون في القرم مع جيشٍ فرعي، وليس الجيش الرئيس للبغدان، فإمكانيَّة تحقيق النصر عليه كبيرة، بل قد ينسحب الجيش البغداني لتجنُّب الصدام مع الجيش العثماني بعيدًا عن القواعد البغدانيَّة الرئيسة.
2. سيُتخلَّص في هذه الحملة من الخطر الچنوي تمامًا؛ فالجمهورية في أضعف حالاتها، وتحقيق النصر على مستعمراتها متوقَّعٌ جدًّا، خاصَّةً أنَّ المدد بينها وبين الدولة الأم مقطوع، لكون الدولة العثمانيَّة تُسيطر على المضايق، وبالتالي لن تتمكَّن سفن إيطاليا من دخول البحر الأسود، فضلًا عن أنَّ الدولة الأم في چنوة مشغولة باحتلالها من ميلانو وفرنسا، وهكذا إذا سيطر العثمانيُّون على هذه المستعمرات ستُصبح سيطرتهم على الملاحة في البحر الأسود شبه كاملة، ولن تتبقَّى هناك إلَّا بعض الموانئ القليلة التي يُسيطر عليها الچورچيُّون في الشرق، أو البغدان في الغرب.
3. إذا أُحْكِمَت السيطرة على القرم فإنَّ هذا سيُوَفِّر نقطة انطلاق مهمَّة جدًّا للشمال، الذي يشمل مملكة بولندا المتَّحدة مع ليتوانيا، ويشمل كذلك الإمارات الروسيَّة، فهذا سيُعطي الدولة العثمانيَّة مساحة تمدُّدٍ كبيرةٍ في حال حدث صدام مع هذه القوى الشماليَّة.
4. السيطرة على القرم ستُمَكِّن الفاتح من دخول البغدان من شرقها وشمالها، وهذا سيضعف من قدرة استيفين على المقاومة؛ حيث إنَّه في حال دخول السلطان الفاتح بجيشٍ برِّيٍّ من الجنوب (أي من الإفلاق) سيكون على استيفين أن يُواجه جيشين قادمين من اتِّجاهين مختلفين، وهذا لا شَكَّ سيكون في صالح الدولة العثمانيَّة.
5. غزو القرم سيُتيح فرصةً للسيطرة على إمارة تيودورو البيزنطيَّة، وهي إمارةٌ ضعيفةٌ والسيطرة عليها سهلة، ولكنَّها مهمَّةٌ للغاية؛ حيث إنَّ ضمَّ هذه الإمارة سيُغلِق ملفَّ الدولة البيزنطيَّة تمامًا، ولن يبقى مُطالِبٌ بميراثها، سواءٌ من أهلها، أم من استيفين الثالث زوج ماريا البيزنطيَّة.
6. إمكانات القرم العسكريَّة ضعيفة نسبيًّا؛ سواءٌ إمكانات چنوة، أو تيودورو، أو خانات القرم المغول، ولهذا فإنَّ احتمال نصر الدولة العثمانيَّة كبير، وهذا سيُحقِّق فوائد معنويَّة كبيرة، ستكون الدولة في أمسِّ الحاجة إليها، خاصَّةً بعد مشكلتي البغدان وألبانيا في الشهور الماضية، بينما غزو البغدان يحمل مغامرةً قد لا تتحمَّل الدولة خسارتها في هذا الوقت القريب.
7. أهمُّ من كلِّ ما سبق أنَّ هذا الغزو سيفتح باب التعاون مع مغول القرم المسلمين، وبالتالي يُمكن الاستعانة بهم في غزو البغدان من شمالها وشرقها، وكان الفاتح يشعر أنَّ فرصة التعاون مع مسلمي القرم تكاد تكون مضمونة لعدَّة عوامل؛ منها أنَّهم في حالة ضعفٍ ظاهر، ولن تكون عندهم نوايا مقاومة العثمانيِّين الأقوياء، خاصَّةً مع الفرق الظاهر في التسليح؛ حيث كان المغول يعتمدون في حروبهم على الوسائل التقليديَّة المتعارف عليها في القرون الوسطى، كالخيول والسيوف والسهام، بينما كان الجيش العثماني يعتمد على المدافع والبنادق والتسليح الحديث بشكلٍ عامٍّ. يُضاف إلى هذا أنَّ مغول القرم كانوا مهدَّدين من روسيا بشكلٍ كبير، خاصَّةً في وجود أميرٍ روسيٍّ قويٍّ هو إيڤان الثالث، الذي له ميولٌ توسُّعيَّةٌ واضحة، وقد تكون هذه التوسُّعات في أرض الخانات، ومن المؤكَّد أنَّ تبعيَّة المغول المسلمين للدولة العثمانيَّة ستكون أفضل من تبعيَّتهم للروس، ولهذا فمن المتوقَّع أن يُرحِّب المغول بالتبعيَّة للعثمانيِّين.
8. يبقى هناك سببٌ مهمٌّ للسيطرة على القرم، وكذلك على سواحل البحر الأسود الشرقيَّة، وهو استباق الروس في هذا العمل؛ فإمارة روسيا كانت في حالةٍ توسُّعيَّةٍ ملحوظة، وكان على رأسها في ذلك التوقيت الأمير إيڤان الثالث الملقَّب بالعظيم Ivan III the Great، ولا شَكَّ أنَّ الفاتح -وهو أحد أكبر القوى العسكريَّة في العالم آنذاك- كان يُتابع نموَّ قدرات القوى الأخرى الموازية، ومنها إيڤان الثالث، وكان يُريد أن يضمن تأمين مستقبل الدولة العثمانيَّة في مواجهة الروس، إذا ما حدث وزادت قوَّتهم إلى الدرجة التي تضرُّ بمصالح العثمانيِّين. والحقُّ أنَّ إيڤان الثالث هو أوَّل من جمع الأراضي الروسيَّة المختلفة تحت حكم إمارة موسكو، في عمليَّةٍ يُطْلِق عليها المؤرِّخون: «تجميع الأراضي الروسيَّة» (Gathering of the Russian lands)، ويُعَدُّ من ناحيةٍ عمليَّة السببَ في تكوين روسيا القيصريَّة[1]، وإن كانت القيصريَّة لم تُعْلَن بشكلٍ رسميٍّ إلَّا في عهد إيڤان الرابع الملقَّب بالرهيب Ivan IV the Terrible؛ وذلك في عام 1547م[2].
والواقع أنَّه لولا تفكير محمد الفاتح في السيطرة على شبه جزيرة القرم في ذلك التوقيت لَمَا أمكن للدولة العثمانيَّة أن تُسيطر على هذه المناطق في العقود التالية؛ وذلك للنموِّ الرهيب للقوَّة الروسيَّة، وبهذا كانت هذه الخطوة من محمد الفاتح من أهمِّ الخطوات في تاريخه، بل في تاريخ الدولة العثمانيَّة كلِّها، وكان أثرها باقيًا بلا مبالغةٍ لعدَّة قرون!
لهذه الأسباب كانت رغبة الفاتح واضحةً في غزو شبه جزيرة القرم وضمِّها للدولة العثمانيَّة.
ثانيًا: تأجيل العمليَّة إلى الصيف المقبل..
كان هذا التأجيل ضروريًّا حتى يتحسَّن الطقس، وتُصبح العمليَّة أكثر نجاحًا، كما أنَّها فرصةٌ لكي يسترجع الجيش العثماني عافيته، ويُؤهَّل نفسيًّا لهذا الصدام الجديد، مع احتمال أن يشفى السلطان من مرضه الذي ألمَّ به في هذا الشتاء، وتُصبح عنده القدرة على متابعة الأمور بشكلٍ أفضل.
ثالثًا: كديك أحمد باشا على رأس الجيش..
فضَّل الفاتح أن يُرسل كديك أحمد باشا إلى هذه الحملة ولم يخرج هو بنفسه؛ لكون هذه الحملة جانبيَّة وليست أساسيَّة، فالقتال المتوقَّع فيها يسيرٌ نسبيًّا، وهناك احتمالٌ لتفاقم الأوضاع في الإفلاق، أو البغدان، أو ألبانيا، أو بحر إيجة؛ ولذلك آثر الفاتح أن يبقى في إسطنبول للقيادة المركزيَّة، بينما يتحرَّك القائد النشط كديك أحمد باشا بالأسطول البحري إلى شبه جزيرة القرم، ولم يُرِدِ الفاتح أن يُرسل والي الروملي سليمان باشا مرَّةً أخرى لأنَّه تعرَّض لفشلين متتاليَين، أحدهما في ألبانيا، والثاني في البغدان، ممَّا قد يُؤثِّر في نجاح العمليَّة القادمة، على العكس من كديك أحمد باشا الذي حقَّق نجاحات ملحوظة في إقليم قرمان منذ ثلاثة أعوام فقط.
لم يكن الفاتح يرغب في الدخول في حربٍ مع خانات القرم المسلمين، وكان يعلم أنَّ حربه في الحقيقة هي مع القوى الاستعماريَّة الچنويَّة والبيزنطيَّة، بالإضافة إلى المتمرِّد استيفين الثالث؛ ولذلك جرت بينه وبين القرم سفارات وحوارات، وكانت النتيجة هي ترحيب مغول القرم بقدوم الفاتح إلى بلادهم، بل مساعدته على قتال چنوة، وسبب ترحيب مغول القرم بالفاتح يحتاج إلى وقفةٍ لفهمه؛ لأنَّ آثار هذا التفاهم (العثماني- المغولي) ستكون مهمَّةً وبعيدة المدى..
لقد حدث صراعٌ بين أبناء حاچي كيراي Hacı I Giray مؤسِّس خانية القرم بعد وفاته عام (871هـ= 1466م)، وبعد أن تولَّى الحكم ابنه الأكبر نور دولت Nur Devlet نازعه أخوه منكلي كراي Meñli I Giray، فسيطر على الحكم عدَّة أشهر، ثم عاد الحكم إلى نور دولت، فلجأ منكلي إلى الچنويِّين فساعدوه على الوصول إلى الحكم مرَّةً ثانية، وكان ذلك في عام 1469م، وقد استمرَّ في الحكم حتى عام (880هـ= 1475م)[3].
وعلى الرغم من أنَّ النبلاء والشعب كانوا لا يكرهون منكلي بشكلٍ شخصيٍّ فإنَّهم كانوا رافضين للهيمنة الچنويَّة على خان القرم، فهم لا يقبلون وصاية نصرانيَّة على دولةٍ مسلمةٍ من ناحية، وهم ينظرون إلى چنوة على أنَّها عدوٌّ يحتلُّ سواحل بلادهم من ناحيةٍ أخرى[4]، وهذا ما دعا النبلاء والشعب إلى القيام بثورةٍ على منكلي في (مارس 1475م=880هـ)[5].
هذا هو التوقيت الذي تواصل فيه مغول القرم مع السلطان محمد الفاتح..
لقد طلب نبلاء القرم من السلطان الفاتح أن يُرسل جيشًا لخلع منكلي، وحرب چنوة، وتولية نور دولت من جديد على قمَّة خانية القرم[6][7][8]، وهكذا توافقت رغبة نبلاء القرم مع رغبة السلطان الفاتح. كانت كلُّ المعطيات تصبُّ في مصلحة الدولة العثمانيَّة إذا قامت بغزو القرم، ولم يكن يبقى إلَّا أن يتقدَّم مغول القرم بهذا الطلب للفاتح؛ لأنَّ هذا سيُعطيه صبغةً قانونيَّةً من ناحية، وفي الوقت نفسه سيُقلِّل من الصدام المحتمل، فيُصبح تركيز الجيش العثماني على قتال الچنويِّين، وإمارة تيودورو، والبغدانيين في حال وجودهم، ولن يكون هناك قتالٌ يُذكر في خانية القرم، بالإضافة إلى أنَّ تقدُّم القرم للفاتح بطلب المساعدة والنجدة سيُعطي الفاتح الفرصة لكي يُملي الشروط التي تُفيد الدولة العثمانيَّة، وهذا ما حدث..
وافق الفاتح على الذهاب إلى القرم في مقابل عدَّة شروطٍ كلِّها تُحقِّق مصالح كبرى للدولة العثمانيَّة..
كان أوَّل هذه الشروط أن تخضع خانية القرم للسيادة العثمانيَّة؛ بمعنى أنَّها لا تستطيع التعامل في سياساتها الخارجيَّة دون الرجوع إلى الدولة العثمانيَّة، كما أنَّ السلطان العثماني لا بُدَّ أن يُوافق على الخان الذي يُرشِّحه النبلاء لقيادة خانية القرم، بشرط أن يكون من نسل چنكيز خان، كما ينبغي أن يُذكر اسم السلطان العثماني بعد اسم الخليفة العباسي في خطبة الجمعة، ثم بعد ذلك يُذكر اسم الخان المغولي، وكذلك يُطبع اسم السلطان العثماني مع اسم الخان المغولي على العملات النقديَّة، فهذه هي علامات السيادة العثمانيَّة على الخانيَّة.
الشرط الثاني مهمٌّ للغاية، وهو أن يأخذ العثمانيُّون كلَّ الموانئ المحتلَّة من چنوة بشكلٍ نهائيٍّ وكامل، بمعنى أنَّ السيادة المباشرة على هذه الموانئ ستكون عثمانيَّة، ولن يكون هناك شأنٌ لمغول القرم بها، وستُدار بواسطة قائد عثماني، وجيش عثماني، وبهذا سيتحوَّل البحر الأسود إلى بحيرة عثمانيَّة خالصة، لا يُتَّخذ فيه قرارٌ إلا بالرجوع إلى رجلٍ واحدٍ هو السلطان العثماني.
والشرط الثالث كان مهمًّا كذلك، وهو دعم الجيش العثماني بقوَّات وفرسان من القرم في حال احتياج العثمانيِّين لذلك[9].
كانت هذه شروط تعني أنَّ خانية القرم ستصير تابعةً للدولة العثمانيَّة، وهذا يُضيف إلى الدولة مساحاتٍ شاسعةً سنتحدَّث عنها لاحقًا، كما أنَّه سيُحقِّق مصالح استراتيجيَّةً كبيرةً للغاية، بالإضافة إلى الطاقة البشريَّة المسلمة التي يحتاجها العثمانيُّون لإدارة هذه الدولة الضخمة.
وافق السلطان الفاتح دون تردُّدٍ على مساعدة القرم، ووافق مغول القرم كذلك دون تردُّدٍ على شروط السلطان؛ ومِنْ ثَمَّ بدأ الإعداد للحملة العسكريَّة التي ستُنجِزُ المهمَّة.
تحرَّك أسطولٌ عثمانيٌّ كبيرٌ من إسطنبول بقيادة كديك أحمد باشا، وكان قد صار صدرًا أعظم للدولة[10]، وهذا أعطى الحملةَ أهميَّةً كبرى، وكان الأسطول العثماني هو أكبر أسطولٍ بحريٍّ سار في البحر الأسود في كلِّ تاريخه؛ إذ بلغت عدد سفنه 473 سفينةً (183 سفينة حربيَّة + 290 سفينة نقل)[11][12]، وبلغ عدد أفراده 20 ألف مقاتل[13]، وهو رقمٌ كبيرٌ بالقياس إلى المهمَّة الموكلة إلى الجيش؛ لأنَّ القوَّات الچنويَّة في هذه المستعمرات قوَّاتٌ رمزيَّةٌ يسيرة، وكذلك قوَّات إمارة تيودورو، بالإضافة إلى تعهُّد نبلاء القرم المسلمين في المساعدة على المهمَّة.
رسى الأسطول العثماني في ميناء كَفَّة في (25 المحرم 880هـ الموافق 1 يونيو 1475م)، وقامت المدفعيَّة العثمانيَّة بقصف الأسوار والمدينة، وفي اليوم الخامس من يونيو سقطت المدينة في يد الجيش العثماني، وكان أحد أيسر الفتوح في تاريخ الدولة، وعلى الفور تحرَّك الأسطول إلى المدن الأخرى في الساحل، فسيطر على كلِّ المرافئ الچنويَّة، بل سقطت إمارة تيودورو بسهولةٍ بعد حصار عاصمتها منكب، وهكذا تمكَّن العثمانيُّون من تحقيق النصر في غضون أيَّامٍ قليلة[14]، وقد ساعد المغول القرميُّون العثمانيِّين على العمليَّات البرِّيَّة[15].
هكذا تحوَّل ساحل القرم إلى لواءٍ عثمانيٍّ مركزه مدينة كفَّة، ولم يكتفِ العثمانيُّون بذلك؛ إنَّما تحرَّكت جيوشهم فورًا إلى بقيَّة المستعمرات الچنويَّة الموجودة في سواحل البحر الأسود الشرقيَّة، والشماليَّة الشرقيَّة، فسيطرت على ميناء آزاك (روستوڤ حاليًّا Rostov)، في بحر أزوڤ Azov شمال شرق البحر الأسود، كما أحكمت السيطرة على شبه جزيرة تامان Taman في مدخل بحر أزوڤ، ولاحقًا بُنيت قلعة على ميناء أنابا (Anapa)؛ وذلك لإحكام القبضة على بحر أزوڤ[16]، ولم يكن لچنوة طاقة بردِّ الضربة، ولهذا أُغلِق ملفها بِشكلٍ كاملٍ بعد هذه العمليَّات العسكريَّة.
لم يطمئن الفاتح إلى بقاء الجالية الچنوية في مدينة كفة وغيرها من المستعمرات الچنوية، فقام بترحيل كل السكان الچنويين إلى إسطنبول؛ ثم بعد ذلك تحوَّلوا إلى مدينة جالاتا، والتي تقطنها جالية چنوية منذ زمن، ولكنهم عاشوا هناك في أحياء خاصة بهم[17]، وهكذا انتهى الوجود الچنوي بشكل كامل من البحر الأسود.
لم تكن السيطرة على الملاحة في البحر الأسود وعلى عمليَّات التجارة فيه هي المصلحة الوحيدة التي حقَّقها العثمانيُّون في هذه الحملة العسكريَّة الناجحة؛ إنَّما كانت هناك فوائد كثيرة متحقَّقة يُمكن ذكر بعضٍ منها من خلال النقاط التالية:
أوَّلًا: أدخلت هذه العمليَّات خانية القرم في تبعيَّة الدولة العثمانيَّة، ممَّا يعني اتِّساع مساحة الدولة العثمانيَّة بشكلٍ كبيرٍ جدًّا؛ فقد دخلت فيها عدَّة مقاطعات دفعةً واحدة، وهذه المقاطعات موجودةٌ الآن في روسيا وأوكرانيا؛ أمَّا المقاطعات الروسيَّة فهي: ڤولجوجراد Volgograd، ورستوڤ Rostov، وكيرسك Kursk، وبيلجورود Belgorod، وڤورونيج Voronezh، وكراسنودار كراي Krasnodar Krai[18]، وتبلغ مساحة هذه المقاطعات مجتمعة حوالي 400 ألف كم2. وأمَّا المقاطعات الواقعة الآن في أوكرانيا فهي: القرم Crimean، وخيرسون Kherson، وزابوريچيا Zaporizhia، ودونيتسك Donetsk، ولوهانسك Luhansk، وأوديسا Odessa، وميكولايڤ Mykolaiv[19]، وهذه المقاطعات تُغطِّي مساحة تقترب من 200 ألف كم2.
هذا يعني أنَّ تبعيَّة خانية القرم أضافت إلى الدولة العثمانيَّة 600 ألف كم2 دفعةً واحدة، بل يُقدِّرها بعضهم بمليون كم2[20]؛ حيث إنَّ المساحات لم تكن محدودة بحدود المقاطعات الحاليَّة، كما أنَّ أجزاءً كثيرةً من هذه المساحات -وخاصة في أوكرانيا- كانت من السهوب Steppe، أو البراري Prairie، وهي أرضٌ ذات عشبٍ ومراعٍ دون وجود أشجار، ولذا فهي غالبًا ما تكون غير مأهولة، وغير معروفة الحدود، ولكنَّها تصلح أن تكون مراعيَ للخيول، ولهذا اشتهر مغول القرم بالفروسيَّة والمهارة في ترويض الخيول، وقيادتها أثناء الحروب، وبالمناسبة فإنَّ هناك الكثير من الدراسات تُؤكِّد أنَّ هذه المناطق الأوكرانيَّة هي أوَّل مناطق في الدنيا تُروَّض فيها الخيول[21]!
الشاهد من هذه الحسابات أنَّ الدولة العثمانيَّة تمدَّدت بشكلٍ لافتٍ في هذه الاتجاه الشمالي الشرقي منها، وضمَّت إليها هذه المساحات بكلِّ ما فيها من خيرات، وخيول، ومزارع.
ثانيًا: لم تكن استفادة العثمانيِّين من ضمِّ خانية القرم مقصورة على استغلال المناطق الواسعة التي امتدَّ إليها حكمهم، بل كانت هيمنتهم السياسيَّة على قوَّةٍ كبيرةٍ مثل قوَّة خانية القرم سببًا في تأمين حدود الدولة العثمانيَّة الشرقيَّة لمدَّةٍ طويلةٍ من الزمن.
لقد بدأ العثمانيُّون أمرهم عام (880هـ= 1475م) في خانية القرم بعزل الخان منكلي كراي، الذي قامت عليه الثورة الشعبيَّة، وأخذوه أسيرًا في إسطنبول[22]، ووضعوا مكانه أخاه نور دولت، وسوف تكون لهم أحقيَّة تولية أو عزل الخانات، وهذا سيضمن أمانًا كبيرًا للدولة العثمانيَّة، حتى إنَّ السلطان محمدًا الفاتح سيُعيد بعد ذلك -عام 1478م- الخان منكلي كراي إلى منصبه مرَّةً ثانيةً بعد أن يضمن ولاءه[23]، ومع ذلك فالذي يبدو أنَّ العثمانيِّين لم يُعاملوا مغول القرم كأتباع؛ ولكن كحلفاء، وظهر هذا في عدَّة أمور، منها علاقات المصاهرة بين الفريقين، فعلى سبيل المثال فإنَّ منكلي كراي خان القرم زوَّج ابنتيه لحفيدين من حفدة السلطان محمد الفاتح، وهما الأمير سليم، والأمير محمد أولاد بايزيد بن محمد الفاتح[24]، ومنها أنَّ خانية القرم كانت تأخذ بعض القرارات المنفردة، التي قد تصل إلى معارك عسكريَّة مع الروس دون الرجوع إلى الدولة العثمانيَّة، ودون أن تعترض الدولة العثمانيَّة على هذا الأمر، مما يُعطي الانطباع أنَّ لهم قسطًا من الحريَّة الحركيَّة لا يتوفَّر لغيرهم من التَّابعين، وقد يكون هذا الأمر بسبب أنَّهم مسلمون، أو بسبب سيطرتهم على مساحاتٍ من الأرض الآسيويَّة خارج الاهتمام العثماني آنذاك، الذي كان مُنْصبًّا على القطاع الأوروبي من الدولة.
ثالثًا: لم تكن مصالح الدولة العثمانيَّة في القرم استراتيجيَّة واقتصاديَّة فقط؛ بل حقَّقت القرم فائدةً كبرى للدولة العثمانيَّة، وهي توفير المخزون البشري الكبير الذي يُمكن أن يُشارك في العمليَّات العسكريَّة العثمانيَّة الكثيرة، والأهم من العدد الكبير للجنود هو نوعيَّتهم؛ فهم في البداية مسلمون، ومن السهل أن يُقاتلوا من أجل قضايا الدولة العثمانيَّة نفسها، ويُمكن تحريكهم بالدوافع نفسها، ورباط العقيدة الذي بينهم والعثمانيِّين جعلهم أكثر خدمةً للجهاد العثماني من أيِّ إمارةٍ أخرى تابعة؛ فهم أكثر إخلاصًا في حروبهم من الإفلاقيِّين الرومانيِّين، أو الصربيِّين، أو اليونانيِّين، أو غيرهم؛ وذلك أمرٌ بدهيٌّ لا يحتاج إلى نقاش، والواقع يُؤيِّده بوقائعَ كثيرةٍ تردَّدت فيها الفرق النصرانية المصاحبة للجيش العثماني بحكم تبعيَّتهم عن نصرة الجيش العثماني، وآخرها ما حدث من الجيش الإفلاقي في معركة ڤاسلوي في البغدان، وقبل ذلك ما حدث من الجيش الصربي في موقعة أنقرة عام (804هـ= 1402م)، أمَّا الجيوش المغوليَّة المسلمة فلم نُشاهد منها مثل هذا التردُّد إلَّا في حوادث متفرِّقة.
وبالإضافة إلى كون مغول القرم مسلمين فإنَّهم أقوياء للغاية، وشجعان لأبعد درجة، وحروبهم في غاية الشراسة، إلا أنَّهم غير متطوِّرين بالقياس إلى الجيش العثماني والجيوش الأوروبيَّة؛ بل يُحاربون على نمط حروب التتار القديمة المعتمدة على الخيول وأسلحة القرون الوسطى، ولكن هذه النقطة يُمكن علاجها، إمَّا باستخدامهم في الظروف التي تسمح بذلك؛ لأنَّ جيوش هذا الزمن كانت خليطًا من الجيوش التقليديَّة والجيوش الحديثة، وإمَّا بتطويرهم تدريجيًّا حتى يُمكنهم مواكبة التغييرات الكثيرة التي حدثت في علم الحرب في العقود الأخيرة. المهمُّ أنَّ هذه الطاقة البشريَّة العسكريَّة الكبيرة كانت عونًا للدولة العثمانيَّة في ظروفٍ كثيرة، ولقد قدَّر بعض المؤرِّخين الطاقة العسكريَّة التي كان يُمكن للقرم أن يُوفِّروها بمائتي ألف فارس[25]، وهو رقمٌ كبيرٌ للغاية بالقياس إلى الأرقام المتداولة آنذاك، وهذا يُبرز مدى النجاح الذي حقَّقه السلطان الفاتح بضمِّ القرم إلى دولته.
رابعًا: صارت خانية القرم تُمثِّل سدًّا منيعًا فاصلًا بين الدولة العثمانيَّة وبين إمارة موسكو الناشئة، التي ستتحوَّل إلى إمارة روسيا، ثم قيصريَّة روسيا، وأخيرًا الإمبراطوريَّة الروسيَّة. ولم تكن خانية القرم قويَّةً فقط أمام إيڤان الثالث جامع الأراضي الروسيَّة؛ ولكن الأهم من ذلك أنَّها كانت قويَّةً أمام إيڤان الرابع الملقَّب بالرهيب، وهو القيصر الروسي الأوَّل، وله الفضل في وضع روسيا على الخارطة العالميَّة بقوَّة، ومع ذلك كان القرميُّون المسلمون أحد أكبر التحدِّيَّات أمامه[26]، وظلَّت خانية القرم في هذا الوضع القوي عدَّة قرون، أعني إلى القرن الثامن عشر، بل يُمكن القول: إنَّه عندما ضعفت خانية القرم إلى الدرجة التي تسمح لروسيا باحتلالها فإنَّ هذه ستكون بداية النهاية للدولة العثمانيَّة؛ فإنَّ سقوطها سيعني انسياح الروس في الأراضي العثمانيَّة، وهذا يُعطينا فكرة عن أهميَّة الضمِّ العثماني لهذه الخانيَّة، وقدرة الفاتح -ومن تبعه من سلاطين بني عثمان- على التعامل مع هذه الخانيَّة المسلمة المهمَّة.
خامسًا: الفائدة الاقتصاديَّة من فتح شبه جزيرة القرم وضمِّ خانية القرم لم تكن تُقدَّر بثمن؛ فالأمر لم يكن مقتصرًا على ضرائب تُحصِّلها الدولة من خانية القرم، أو نصيبًا من الغنائم من معاركهم الآسيويَّة؛ ولكن الأمر أكبر من ذلك بكثير؛ حيث ضمنت هذه الحملة العسكريَّة سيطرة العثمانيِّين على تجارة البحر الأسود، وما أدراك ما هذه التجارة!
الواقع أنَّ تجارة البحر الأسود لم يكن مقصودًا بها التجارة مع الدول المطلَّة على البحر الأسود؛ فهذه مهما زادت فهي قليلةٌ نسبيًّا على المستوى العالمي؛ إنَّما المقصود بتجارة البحر الأسود هي التجارة الوسيطة، التي يُمثِّل فيها البحر الأسود محطَّة متوسِّطة بين الشرق والغرب، أو بين آسيا وأوروبا. لقد كان هذا البحر محطَّة مهمَّة في طريق الحرير Silk road الشهير، وهو واحدٌ من أقدم الطرق التجاريَّة في العالم، وكان يربط بين الصين واليابان شرقًا إلى وسط أوروبا وغربها غربًا[27]، وعبره كانت تنتقل تجارة الحرير من الصين تحديدًا إلى الدنيا كلِّها، ومع الحرير كانت تنتقل بضائع أخرى كثيرة باهظة الثمن[28]، وبالتالي كانت تُفْرَض عليها ضرائب عالية للغاية في كلِّ المحطَّات الكبرى التي تُقابلها، بالإضافة إلى عمليَّات النقل والتوزيع، أو عمليَّات التأمين والحماية، فضلًا عن الخدمات المقدَّمة للقوافل الضخمة، التي كانت تُحقِّق ربحًا وفيرًا، وهو ما أدَّى إلى ازدهار كلِّ الحضارات الواقعة على هذا الطريق الحريري[29].
ومع أنَّ هذا الطريق كان قد فَقَد كثيرًا من أهميَّته عندما تفتَّتت الدولة المغوليَّة إلى أجزاء كثيرة؛ لضعف تأمين القوافل نتيجة المرور في إماراتٍ كثيرةٍ متناحرة، فإنَّه استعاد حيويَّته بعد ظهور الدولة العثمانيَّة، وبعد ذلك الصفويَّة في إيران؛ حيث عاد النشاط القديم، ولم يتوقَّف ثانيةً إلَّا بعد سقوط الدولة الصفويَّة في القرن الثامن عشر[30].
هذه الحيويَّة الكبيرة لهذا الطريق هي ما جعلت الجمهوريَّات البحريَّة الإيطاليَّة -مثل: چنوة، والبندقية، وبيزا- تتنافس بكلِّ طاقتها على السيطرة على جزءٍ منه. أمَّا الآن، وبعد ضمِّ شبه جزيرة القرم، وبعد السيطرة على كلِّ موانئ البحر الأسود، صارت الدولة العثمانيَّة محطَّةً رئيسةً وسيطةً بين الطريق الآسيوي والأوروبي، بل إنَّ القوافل التي تعبر إلى إسطنبول كانت تمرُّ في مساحةٍ كبيرةٍ في البلقان داخل الدولة العثمانيَّة، وهو ما كان يُوفِّر دخلًا جديدًا منعشًا للدولة.
ومع أنَّ الاكتشافات الجغرافيَّة بعد ذلك للطرق البحريَّة الكبرى في العالم مثل رأس الرجاء الصالح قد أضعفت هذا الطريق عن سابق عهده، فإنَّه لم يقف قط، خاصَّةً أنَّه مع تضخم حجم الدولة العثمانيَّة صارت هي بذاتها محطَّةً تجاريَّةً مهمَّة تنتهي عندها بضائع آسيويَّة وأوروبيَّة كثيرة.
سادسًا: لأجل الأهميَّة التجاريَّة الكبرى التي شرحناها في النقطة السابقة للبحر الأسود سال لعاب كبار تجَّار العالم للسيطرة عليه؛ ومِنْ ثَمَّ رأينا على مدار القرون الثلاثة الماضية -أي منذ القرن الثالث عشر الميلادي- القوى البحريَّة العالميَّة المتمثِّلة في الجمهوريَّات الإيطاليَّة تتنافس على الحكم فيه، فجاء فتح سواحل شبه جزيرة القرم منهيًا للآمال الأوروبيَّة في عودة السيطرة على هذا البحر المهم، خاصَّةً أنَّ الدولة العثمانيَّة كانت تُسيطر على المضايق البحريَّة المؤدِّية إليه منذ فتح القسطنطينية عام (857هـ= 1453م)، ثم كانت الانتصارات العثمانيَّة على البندقية في بحر إيجة عاملًا إضافيًّا لإعاقة الأساطيل الإيطاليَّة من الوصول إلى المضايق أصلًا، ثم جاء أخيرًا ضمُّ شبه جزيرة القرم ليحرم الإيطاليِّين من أيِّ أملٍ لاستعادة زمام الأمور هناك، وهكذا أراح هذا النصر العثماني الأخير الدولة لعدَّة قرونٍ قادمة، ولن يُفتح ملفُّ البحر الأسود ثانيةً إلَّا بعد علوِّ نجم الإمبراطوريَّة الروسيَّة في القرن الثامن عشر.
سابعًا: كان ضمُّ القرم هو الاختبار الحقيقي للبحريَّة العثمانيَّة؛ فمع أنَّ الأسطول العثماني حقَّق انتصاراتٍ جيدةً على الأسطول البندقي في نيجروبونتي عام 1470م، فإنَّ هذا كان بمساعدةٍ كبيرةٍ من الجيوش البرِّيَّة التي دخلت الجزيرة من اليابسة اليونانيَّة في المورة، أمَّا في هذا النصر الأخير فإنَّ المعارك كانت معتمدة تمامًا على الحركة البحريَّة للأسطول، وقد جاء الأسطول فخمًا وعظيمًا، ومجهَّزًا بالمدافع القويَّة.
ولقد حدثت بعد هذه العمليَّات العسكريَّة عدَّة تحرُّكاتٍ بَحَرِيَّةٍ أكثر جرأةً في البحر الأبيض المتوسط، بل في البحر الأيوني والأدرياتيكي، وسوف نتعرَّض لهذه العمليَّات في حينها، وأنا أعتقد أنَّ النجاح الذي حقَّقه الفاتح في هذه العمليَّات البحريَّة في البحر الأسود كان الدافع وراء الجرأة العثمانيَّة في خوض غمار معارك بحريَّة في هذه البحار البعيدة عن مركز الدولة العثمانيَّة، وبل الجرأة أكثر في الوصول إلى الشواطئ الإيطاليَّة نفسها، وضرب أباطرة البحر وأسياده في عقر دراهم، وهذا سيكون في أواخر عهد الفاتح رحمه الله.
ثامنًا: كان نصر القرم هذا فاتحًا لبابٍ جديدٍ من التمدُّد العثماني المهم، وهو السيطرة على سواحل البحر الأسود الشرقيَّة الجنوبيَّة، أي سواحل مملكة چورچيا (الكرج)؛ فمع أنَّ العثمانيِّين قد دخلوا هذه الأماكن مبكِّرًا في عام 1451م فإنَّ السيطرة عليها لم تكن حقيقيَّة أو فعليَّة، ولم يتمكَّن العثمانيُّون من الدخول بشكلٍ حاسمٍ في سواحل چورچيا إلَّا في عام 1479م عندما فتحوا أچارستان (الآن أچاريا) Adjara وباطومي Batumi[31]، وكان هذا انطلاقًا من القواعد العثمانيَّة الثابتة في شبه جزيرة القرم وفي طرابزون، ممَّا يعني أنَّ ضمَّ القرم كان سببًا مباشرًا في الوصول إلى هذا الساحل المهم، ولم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدِّ؛ إنَّما صارت هذه المراكز البحريَّة الجديدة نقطة انطلاقٍ للتمدُّد داخل الأراضي الچورچيَّة. نعم لم يحدث هذا التمدُّد إلَّا بعد عدَّة عقود في أوائل القرن السادس عشر[32]، لكن كانت البداية من هذه النقطة.
وجديرٌ بالذكر أنَّ چورچيا -كمملكة مسيحيَّة- كانت تعتمد في دعمها على أوروبا الغربيَّة، عن طريق المستعمرات الچنويَّة الموجودة في القرم، وذلك على الرغم من كونها أرثوذكسيَّة؛ ولكنَّها كانت تُدْعَم لمواجهة النفوذ الإسلامي في الشرق، فلمَّا سقطت القسطنطينية، وبعدها سقطت المستعمرات الچنويَّة في البحر الأسود، تفكَّكت مملكة چورچيا إلى ثمانية ممالك وإمارات، ممَّا أدَّى إلى سهولة اقتحامها بعد ذلك، وضمِّها إلى الدولة العثمانيَّة، والصفوية بعد ذلك[33]. وجديرٌ بالذكر أنَّ مملكة چورچيا كانت من القوى المعادية للدولة العثمانيَّة، وتعود بدايات الصراع بينهما إلى القرن الرابع عشر[34].
تاسعًا: لم تكتفِ الدولة العثمانية باستغلال الحدث في سواحل البحر الأسود فقط، بل تحَّركت كذلك في بحر إيجة تجاه ممتلكات چنوة، واستطاعت السيطرة على جزيرتين مهمتين فيه؛ الأولى هي جزيرة ساموس Samos جنوب شرق جزيرة خيوس، والثانية هي جزيرة بسارا Psara غرب جزيرة خيوس[35]، ومع أن جزيرة خيوس نفسها ظلَّت تابعة لچنوة فإنَّ وضعها العسكري صار حرجًا للغاية بوجود قواعد عسكرية للعثمانيين حولها بهذه الصورة.
عاشرًا: بعد ضمِّ شبه جزيرة القرم والأراضي الأوكرانيَّة شمال القرم صارت الدولة العثمانيَّة في مواجهةٍ مباشرةٍ مع دوقيَّة ليتوانيا المدعومة من بولندا، التي ستَّتحد لاحقًا مع بولندا بشكلٍ كاملٍ في عام 1569م[36]، وهذا يعني أنَّ الدولة العثمانيَّة صارت ملاصقةً لبولندا من الشمال، هذا بالإضافة إلى الحدود العثمانيَّة البولنديَّة الموجودة أصلًا في إقليم البغدان، التي لم تعد موجودةً الآن بسبب انفصال استيفين الثالث بالبغدان عن الدولة العثمانيَّة، وهذا التلاصق في الحدود وضع الدولتين الكبيرتين -العثمانيَّة والبولنديَّة- في مواجهة بعضهما البعض، وعلى الرغم من أنَّ هذا التلاصق يُؤدِّي في المعتاد إلى الصدام فإنَّ هذا لم يحدث؛ بل على العكس، فإنَّه يبدو أنَّ بولندا صارت تُعطي الدولة العثمانيَّة قدرًا كبيرًا من الهيبة يمنعها من تطوير الصدام، أو دعم استيفين الثالث بشكلٍ ظاهر، ولعلَّ سبب إحجام بولندا عن إثارة الدولة العثمانيَّة يرجع إلى عاملين كبيرين؛ أمَّا الأوَّل: فهو انشغال بولندا الدائم بصراعاتها الأوروبيَّة؛ في الشرق مع روسيا، وفي الشمال مع فرسان تيتون Teutonic Order، وفي الغرب مع بروسيا Prussia والمجر[37]. وأمَّا العامل الثاني: فهو أنَّ ملكها في ذلك الوقت وهو كازيمير الرابع، هو أخو ڤلاديسلاڤ الثالث[38]، وهو الملك البولندي الذي قُتِلَ على يد العثمانيِّين في معركة ڤارنا عام (848هـ= 1444م)، ممَّا جعله على الأغلب يتجنَّب صراعًا مباشرًا يُمكن أن يلقى فيه مصير أخيه، وكان اقتراب العثمانيِّين من الحدود البولنديَّة بعد ضمِّ شبه جزيرة القرم داعيًا لملك بولندا للتحلِّي بالحكمة وعدم الدخول في صدامٍ مع الدولة العثمانيَّة، وهذا في الواقع استمرَّ كسياسة بولنديَّة لعدَّة عقود، بل قرون، وهو ما أراح الدولة العثمانيَّة من هذه الجبهة الشماليَّة للدولة، اللهمَّ إلَّا من بعض المناوشات القليلة في عهد بايزيد الثاني.
حادي عشر وأخيرًا: كان ضمُّ القرم له علاقة مباشرة بالبغدان، ومشكلة البغدان كانت المشكلة الرئيسة التي دفعت السلطان محمد الفاتح إلى التفكير في التوجُّه إلى شبه جزيرة القرم بدلًا من الانتقام المباشر من استيفين الثالث على أرض البغدان، والآن بالنسبة إلى هذه المشكلة البغدانيَّة، فقد حقَّق ضمُّ القرم عدَّة مصالح عسكريَّة يُمكن أن تزيد من فرص النجاح في صدامٍ قريبٍ مرتقب؛ أمَّا المصلحة الأولى: فهي الوجود العسكري شرق البغدان، فهذا يعني أنَّ الجيوش العثمانيَّة يُمكن أن تقتحم البغدان من شرقها، بالإضافة إلى جنوبها عبر الإفلاق، وهذا يُعطي فرصةً أكبر للانتصار. وكانت المصلحة الثانية: هي القرب من مصبِّ نهر الدانوب في البحر الأسود؛ حيث يُمكن استخدام شبه جزيرة القرم كنقطة انطلاق للأسطول العثماني ليتمكَّن من السيطرة على مصبِّ النهر، ومنه يُمكن الانطلاق عبر النهر إلى عمق البغدان. وكانت المصلحة الثالثة: هي القضاء على آمال استيفين الثالث في السيطرة على إمارة تيودورو البيزنطيَّة، وقد وصل يأسه من مسألة تيودورو في رأي بعض المؤرِّخين إلى الدرجة التي فقد فيها الاهتمام بزوجته ماريا أميرة تيودورو؛ لأنَّه لم تعد هناك فائدةٌ سياسيَّةٌ من زواجها، ممَّا دعاه إلى تطليقها، أو هجرها، حسب الروايات المختلفة[39][40]! أمَّا المصلحة الرابعة فمعنويَّة؛ حيث شعر استيفين الثالث باقتراب صدامٍ كبيرٍ مع الدولة العثمانيَّة، وأنَّ تحالف العثمانيِّين مع خانات القرم المسلمين يُمكن أن يُصعِّد الأمر إلى حربٍ ضروسٍ قد تكون عواقبها وخيمة، وهكذا كانت أسهم الفاتح في ارتفاع بعد هذا النصر الأخير، بينما أثَّرت هذه الفتوحات سلبًا في استيفين الثالث والقوى الأوروبيَّة الداعمة له.
إن رؤية هذه النتائج المترتِّبة على عمليَّة ضمِّ شبه جزيرة القرم والخانيَّة المغوليَّة التي تُسيطر عليها، تبيَّن أنه كان من أعظم الفتوح العثمانيَّة قاطبة، وواحد من أهمِّ أعمال السلطان الفاتح رحمه الله، وكان له من الآثار الممتدَّة على صعيد الزمان والمكان ما يجعله يحتاج إلى دراسةٍ أكبر، وتحليلٍ أطول، وقد قضى الفاتح رحمه الله بقيَّة هذا العام -1475م- في تثبيت أقدامه في المنطقة، ووضع القوانين والقواعد التي تكفل إدارة هذه المناطق الشاسعة بشكلٍ سليم.
بعد هذا الاستقرار صار واضحًا ومتوقَّعًا عند الجميع أنَّ الوجهة القادمة للسلطان الفاتح هي البغدان، وهذا ما حدث بالفعل مع بدايات صيف 1476م.
قرَّر الفاتح أن يدخل البغدان من ناحيتين مستغلًّا تحالفه الجديد مع خانات القرم؛ فكان على فريقٍ من الجيش العثماني أن يدخل من ناحية البحر الأسود مع جيش من المغول القرميِّين، بينما يدخل جيشٌ بريٌّ على رأسه السلطان محمد الفاتح بنفسه من ناحية الجنوب؛ أي من ناحية الإفلاق، ويكون هذا الجيش مصحوبًا بفرقةٍ إفلاقيَّةٍ رومانيَّة بقيادة لايوتا أمير الإفلاق.
استطاعت الجيوش العثمانيَّة المتَّحدة مع المغول أن تحتلَّ ميناء أكرمان Akkerman المهم على ساحل البحر الأسود، وبذلك تمكَّنت من السيطرة على مدخل نهر الدانوب، وسرعان ما انسابت الجيوش إلى الأراضي البغدانيَّة من جنوبها الشرقي[41][42].
كانت الأمور تسير في هذه الناحية على الوجه الأفضل لولا أنَّ استيفين الثالث كان قد توصَّل إلى اتفاقٍ مع القبيلة الذهبيَّة (التي انفصل عنها مغول القرم منذ عام 1448م) لاستغلال خروج الجيوش القرميَّة مع الجيش العثماني إلى البغدان؛ لكي يقتحموا شبه جزيرة القرم لمحاولة استعادة ملكهم فيها مرَّةً ثانية، ونتيجة هذا التطوُّر عاد القرميُّون إلى بلادهم، ولم يتمكَّنوا من استكمال المعركة مع محمد الفاتح[43].
ومع أنَّ انسحاب القرميِّين كان يُمكن أن يكون له أثرٌ سلبيٌّ في سير الأمور العسكريَّة فإنَّ هذا لم يحدث، لأنَّ وجودهم في البداية قد حقَّق فائدتين مهمَّتين؛ كانت الأولى هي السيطرة على الميناء الاستراتيجي، والثانية كانت صرف جزء من الجيش البغداني لهذه الجبهة لمنع تسرُّب الجيوش العثمانيَّة منها، وهذا بلا شك قلَّل من القدرة الدفاعيَّة لاستيفين الثالث عن مركز دولته.
تقدَّم السلطان الفاتح بجيشٍ كبيرٍ لم تذكر المصادر حجمه، ولكنَّه كان مصحوبًا بفرقةٍ إفلاقيَّةٍ قوامها اثني عشر ألف مقاتل، ويبدو أنَّ السلطان الفاتح لم يكن مطمئنًا إلى ولاء هذه الفرقة، ولذلك جعلها منفصلة عن الجيش لا تُقاتل إلَّا عند الطلب منها[44].
دخل السلطان البغدان من ناحية الإفلاق آخر يونيو (1476م[45]=881هـ)، ومع أنَّ استيفين الثالث كان مدعومًا بفرقةٍ مجريَّة[46]، فإنَّه فضَّل استخدام سياسة الأرض المحروقة، وبالتالي الانسحاب من أمام الجيش العثماني في اتِّجاه الشمال؛ متجنِّبًا الدخول في معركةٍ ميدانيَّةٍ مباشرة[47].
كان السلطان الفاتح مصمِّمًا على الوصول إلى صدامٍ مباشرٍ مع استيفين الثالث فلم تُثنه هذه السياسة عن استكمال زحفه ناحية الشمال متتبِّعًا آثار الجيش البغداني، وقد اخترق السلطان في حركته هذه أكثر من 200 كم من الحدود الإفلاقيَّة البغدانيَّة حتى وصل إلى قرية رازبوايني Războieni، وهي موجودةٌ الآن في شمال شرق رومانيا، وهناك لَحِقَ بالجيش البغداني، وكان ذلك في (26 يوليو 1476م)[48]، أو في (17 يوليو 1476م)[49].
دارت موقعة من أشرس المواقع في التاريخ العثماني، ومع أنَّ تقديرات الخسارة في الطرفين غير معلومة على وجه الدقَّة؛ فإنَّها كانت في كلِّ الأحوال جسيمةً للغاية[50][51]؛ ولكن بفضل الله كتب الله النصر للمسلمين في نهاية اليوم، بل كان النصر حاسمًا لا ريب فيه[52][53]، بل وصل الأمر إلى انسحاب استيفين الثالث، ليس من أرض المعركة فقط؛ بل من البغدان كلِّها! حيث اضطرَّ الأمير البغداني إلى الهرب إلى بولندا[54].
عُرِفت هذه المعركة بمعركة “الوادي الأبيض” Valea Albă[55]، وتذكر بعض المصادر بشكلٍ غير موثوق أنَّ السبب في التسمية هي كثرة العظام البيضاء التي غطَّت ساحة المعركة بسبب كثافة القتلى، وثبت أنَّ هناك كنيسة قديمة بناها استيفين الثالث في قرية رازبوايني في مكان المعركة، وذلك على عظام القتلى كما أثبتت الحفريَّات، وهي كنيسة سان مايكل Saint Michael[56]، وهذا قد يدعم السبب في التسمية، وعمومًا فإنَّه حتى مع عدم معرفة السبب الحقيقي لتسمية هذا الوادي بهذا الاسم فإنَّ انتشار المعنى يُؤكِّد شراسة الموقعة، وكثرة ضحاياها، وهي تُمثِّل علامةً مهمَّةً في التاريخ البغداني، بالإضافة إلى ما سبق فهناك قريةٌ صغيرةٌ قريبةٌ من أرض الموقعة اسمها قرية الوادي الأبيض Valea Albă، ولم أقف على سبب تسمية هذه القرية، وهل سُمِّيت على اسم الموقعة، أم أنَّ الموقعة هي التي سُمِّيت على اسمها.
عمومًا كان نصرًا كبيرًا للغاية أعاد للدولة العثمانيَّة هيبتها، وفقد فيها استيفين الثالث الكثير من صورته العظمى عند شعبه، وعند الأوروبيِّين، واستغلَّ السلطان الفاتح الفرصة وواصل زحفه في اتِّجاه الشمال لحصار العاصمة البغدانيَّة سوسيڤا Suceava، كما أرسل فرقةً لحصار القلعة الحصينة نيامت Neamț، والقريبة من أرض المعركة؛ ولكن كانت التحصينات في المدينتين في غاية القوَّة، فلم يتمكَّن الفاتح من إسقاطهما[57].
كان يُمكن للفاتح أن يُصابر في هذه المنطقة حتى يستكمل حصد نتائج نصره، ويقوم بتوطيد أركان حكمه للبغدان، لولا أنَّ هناك أربع أزمات على الأقل اجتمعت في وقتٍ واحد، ودفعته إلى ترك البغدان مسرعًا دون أن يُحقِّق كلَّ ترتيبه هناك.
الأزمة الأولى التي واجهت الفاتح كانت نقص المؤن[58]، وهذا بسبب عمق المسافة التي اخترقها الفاتح في أرض البغدان ممَّا جعل حمل المؤن من داخل الإفلاق أمرًا صعبًا، بالإضافة إلى سياسة الأرض المحروقة التي اتَّبعها استيفين الثالث، ممَّا جعل التزوُّد بالمؤن من البغدان أمرًا غير ممكن، خاصَّةً إذا كان الجيش كبيرًا. والأزمة الثانية التي تعرَّض لها الجيش العثماني هو تفشِّي الكوليرا فيه[59]، الذي يستوجب ترك المكان؛ لأنَّه من المحتمل أنَّ العدوى جاءت من تلوُّث المياه أو الأطعمة في المنطقة. أمَّا الأزمة الثالثة فكانت وصول الأخبار بأنَّ هناك تحالفًا حادثًا، وإعدادًا عسكريًّا خطرًا بين دراكولا الثالث الذي أطلقه ملك المجر بناءً على طلب استيفين الثالث، وبين استيفين باثوري Stephen Báthory أحد القادة العسكريِّين الكبار في جيش ملك المجر ماتياس؛ وذلك لغزو الإفلاق، بهدف الاستيلاء على العرش هناك لصالح دراكولا[60]، وكان استيفين باثوري من القادة المشهورين بقسوتهم وعنفهم[61]، ولهذا كان من المتوقَّع أن تحدث مجازر كبيرة في الإفلاق، خاصَّةً أنَّ دخول المجر في المعادلة سيُؤدِّي إلى تصعيدٍ كبيرٍ لا بُدَّ أن يُحسب له حساباته الخاصَّة. وذكرت بعض المصادر الأخرى أنَّ هذا التحالف الجديد كان يهدف إلى دخول البغدان نفسها لمقاتلة السلطان الفاتح[62]، وهذا تطوُّرٌ صعب في الصدام؛ لأنَّ وضع الجيش العثماني بعد الإصابات الكثيرة في معركة الوادي الأبيض، بالإضافة إلى نقص المؤن، وتفشِّي الكوليرا، كل هذا يجعل المواجهة غير آمنة، وهكذا سواء أكانت وجهة التحالف إلى الإفلاق أم إلى البغدان كان لزامًا على السلطان الفاتح أن ينسحب بسرعةٍ قبل تفاقم الوضع.
أمَّا الأزمة الرابعة والأخيرة فكانت أخطرها! فقد اقتحم الملك المجري ماتياس الحدودَ العثمانيَّة في صربيا، وحاصر مدينة سمندرية[63][64]، ومدينة سمندرية إحدى أهم المدن العثمانيَّة في ذلك الوقت؛ حيث إنَّها تُمثِّل عاصمة ولاية سمندرية التي تُمثِّل الحدود العثمانيَّة المجريَّة في إقليم صربيا، وفيها القلعة الرئيسة التي تُسيطر على خطوط الدفاع العثمانيَّة الموجودة على نهر الدانوب بكامله، وهي على بُعد 40 كم فقط من بلجراد، الواقعة تحت سيطرة المجر ، وهذا يعني أنَّ خطوط الإمداد للجيش المجري قريبة وقويَّة.
كان الملك المجري ماتياس يقود الحملة بنفسه ممَّا يُعطي لها أبعادًا خاصَّة؛ فليس المقصود إِذَنْ هو تخفيف الضغط على البغدان؛ إنَّما قد يكون المقصود هو غزو إقليم صربيا كلِّه، فإذا أضفنا إلى ذلك حركة استيفين باثوري مع دراكولا الثالث نحو الإفلاق العثمانيَّة، أدركنا أنَّ هناك حركةَ اجتياحٍ شاملةً تهدف إلى احتلال الشمال العثماني كلِّه، وقد يتطوَّر الأمر إلى أبعد من ذلك.
كانت المسافة بين السلطان الفاتح حيث يحاصر قلعة سوسيڤا في شمال البغدان، ومدينة سمندرية تزيد على خمسمائة كيلومتر، وهذه كمسافة طوليَّة مستقيمة، فإذا أخذنا اعتبارات التضاريس الجغرافيَّة الصعبة في المنطقة من جبال وأنهار وغابات، كان الطريق الذي ينبغي أن يقطعه الفاتح يزيد على سبعمائة كيلو متر، خاصَّةً أنَّه ينبغي عند توجُّهه إلى هناك أن يتجنَّب الأراضي المجريَّة في طريقه لئلَّا يُحْصَر بكمائن لا يعرفها، ومِنْ ثَمَّ فعليه أن يتَّجه أولًا جنوبًا إلى الإفلاق، ثم غربًا إلى سمندرية، وهذا المسار يحتاج إلى أسبوعين من السير المتواصل على الأقل، ولهذا لم يكن هناك أيُّ وقتٍ يُمكن أن يُضيِّعَه الفاتح في البغدان، بل كان عليه أن ينسحب فورًا للمهمَّة الأكبر؛ وهي منع ملك المجر ماتياس من إسقاط سمندرية والتوغُّل بشكلٍ أعمق في الدولة العثمانيَّة، مع الأخذ في الاعتبار أنَّ أهميَّة المسألة تجعل حركة الفاتح بنفسه مطلوبة، ولا يُمكن توكيل أحد القادة، أو تكليف فرقة من الجيش العثماني بالمهمَّة، بل ينبغي أن تكون حملة همايونيَّة كبيرة تُحقِّق النصر، وإلَّا فالعواقب وخيمة.
كان هذا تصعيدًا مجريًّا جديدًا لم يحدث منذ عشرين سنة، أي منذ موقعة بلجراد عام (860هـ= 1456م)؛ فقد اكتفت المجر أثناء هذه السنوات العشرين بالدَّعم غير المباشر لحلفائها ضدَّ الدولة العثمانيَّة، مثل دعمها لدراكولا الثالث، أو لاستيفين الثالث، أو غيرهما، وكانت تتجنَّب الدخول في صدام مباشر مع السلطان الفاتح، ولكن يبدو أنَّ انتصار البغدان في موقعة ڤاسلوي عام 1475م أنعش آمال المجريِّين في السيطرة على أقاليم: صربيا، والبوسنة، والإفلاق. فلمَّا حدثت هزيمة استيفين الثالث في الوادي الأبيض خشي ماتياس أن تضيع كلُّ النتائج الإيجابيَّة لموقعة ڤاسلوي، فانطلق فجأةً في هذه العمليَّة.
يُؤخذ في الاعتبار أنَّ ملك المجر ماتياس كان منشغلًا جدًّا في هذه الفترة بصراعاتٍ أوروبيَّةٍ خاصَّةٍ بالسيطرة على عرش بوهيميا، وكان على خلافٍ دائمٍ مع الإمبراطور النمساوي، ولم يكن عنده طاقةٌ ولا جهدٌ يبذله في صدامٍ جديدٍ مع العثمانيِّين، ولذا فإنَّ هذه الخطوة المتسرِّعة جاءت اضطراريَّة، وأحسب أنَّها لم تأخذ الإعداد الكافي منه، ولعلَّ الفاتح قرأ كذلك هذا السيناريو، ولذلك قرَّر أن يأتي بنفسه ليكون الصدام حاسمًا، ويستغل فرصة عدم اكتمال عدَّة الجيش المجري في عمليَّته حول سمندرية.
هذه الأزمات الأربع التي حدثت في أغسطس 1476م دفعت الفاتح إلى الانسحاب من البغدان مسرعًا في اتِّجاه سمندرية، وللأسف لم يستطع أن يُوطِّد أركان حكمه في الإقليم؛ حيث لم يتمكَّن من الاتفاق مع أحد النبلاء البغدانيِّين على قيادة البلد بدلًا من استيفين الثالث، ولم يكن عنده طاقةٌ بشريَّةٌ أو عسكريَّةٌ لقيادة البلد بشكلٍ مباشر، فترك البغدان خاليةً من القادة، ولذا فقد عاد استيفين الثالث من بولندا ليتولَّى القيادة من جديد[65]، وليس هذا فقط ولكن أيضًا لم يستطع الفاتح الاحتفاظ بميناء أكرمان الاستراتيجي، ولم تذكر المصادر إنْ كان الفاتح قد تركه بإرادته لاحتياجه إلى القوَّة العسكريَّة الموجودة هناك، أو أنَّ استيفين الثالث أخذه بالقوَّة؛ لكن المؤكَّد أنَّ الميناء ظلَّ خارج السيطرة العثمانيَّة طوال عهد الفاتح بعد ذلك؛ لأنَّنا وجدنا في عهد السلطان بايزيد الثاني (بعد السلطان الفاتح) أنَّ الميناء قد وقع في يد العثمانيِّين عام 1484م[66][67] أو عام 1487م[68]، ممَّا يُؤكِّد أنَّه فُقِدَ قبل ذلك.
هذه التداعيات الأخيرة يُمكن أن تكون سببًا في وصف هذه الحملة العسكريَّة بعدم النجاح؛ لأنَّ الوضع رجع كما كان عليه، وعندما عاد استيفين الثالث إلى ملكه لم يدفع الجزية للدولة العثمانيَّة، وظلَّ متمرِّدًا، بل ظلَّ -كما سيأتي- داعمًا لحركات الانقلاب في الإفلاق، ومع ذلك فالوضع لم يكن سيِّئًا بهذه الصورة؛ حيث إنَّ الحملة أثبتت أنَّ الدولة العثمانيَّة قادرةٌ على الرَّدع، وأنَّها يُمكن أن تُحْدِث إصابات جسيمة للبغدان، بل يُمكن أن تدفع أميرها إلى الهرب خارج البلاد، وأثبتت كذلك أنَّ الأمير استيفين الثالث الذي اهتزَّت أوروبا لانتصاراته منذ عامٍ على العثمانيِّين يُمكن أن يتعرَّض لهزائم قاسية، وبالتالي عاد إلى حجمه الطبيعي، فهو في كلِّ الأحوال لن يُقارَن بملك بولندا أو ملك المجر، أو سلطان الدولة العثمانيَّة، وسيظلُّ في أفضل حالاته تابعًا لأحدهم، وهذا سيكون له تطبيقاتٌ في المرحلة القادمة.
لقد تركت هذه الحملة ظلالها على كلِّ المشاركين في الحدث؛ فقد أعطت الدولة العثمانيَّة دفعةً نفسيَّةً قويَّة كانت في أشدِّ الاحتياج إليها بعد مشكلتي ألبانيا والبغدان في عامي 1474م و1475م، وهذا سينعكس على مواجهات الدولة في المرحلة اللاحقة، كما سبَّبت الحملة اضطرابًا واضحًا عند المجر ممَّا دفعها إلى الحملة المتعجِّلة على سمندرية، أمَّا أثرها في بولندا فكان أكبر؛ إذ آثرت عدم التدخل الإيجابي خشية إثارة العثمانيِّين؛ بل سيصل الأمر بها إلى رفضها مرور جيش القبيلة الذهبيَّة الموالي لاستيفين الثالث في أرضها بغية الوصول إلى الأراضي العثمانيَّة[69]؛ وذلك حتى لا تُتَّهم بتسهيل الهجوم على الدولة العثمانيَّة، ممَّا يعني ارتفاع هيبة الدولة العثمانيَّة في أوروبا بُعَيْد موقعة الوادي الأبيض.
أبدى السلطان الفاتح وجيشه الكبير لياقةً بدنيَّةً وعسكريَّةً وروحيَّةً عاليةً للغاية؛ إذ أقبَلَ بمنتهى النشاط من شمال البغدان إلى سمندرية في فترةٍ وجيزة قد لا تتجاوز أسبوعين، مع أنَّ المسافة -كما وصفنا- تتجاوز 700 كم، وعلى الرغم من نقص مُؤَنِه، وانتشار الكوليرا في بعض أفراده، فإنَّه تمكَّن من الاصطدام بالجيش المجري اصطدامًا قويًّا أدَّى إلى هزيمة ماتياس شرَّ هزيمة، فانسحب بسرعةٍ تاركًا قلعة سمندرية، وحقَّق الفاتح نصرًا لافتًا كانت له آثارٌ كبيرةٌ على المنطقة كلِّها[70].
لم يكتفِ الفاتح بانتصاره على الجيش المجري في سمندرية؛ بل أراد أن يُثبت حيويَّة الجيش العثماني وقدراته، كما أراد أن يُلقِّن ماتياس درسًا لتهوُّره في التعدِّي على القلعة العثمانيَّة، فأرسل حملات خاطفة تخترق الحدود المجريَّة وتضرب بعض الأماكن المهمَّة في أعماق المملكة، وصلت إحدى هذه الحملات إلى زغرب Zagreb عاصمة إقليم كرواتيا التابع للمجر، وهي على بُعد أكثر من 400كم من سمندرية، ووصلت حملة أخرى إلى أعمق من ذلك؛ حيث بلغت مدينة كلاجنفورت Klagenfurt[71]، وهي مدينة نمساويَّة الآن، وتقع على بُعد أكثر من 160 كم من زغرب، أي أنَّه توغلٌ يقترب من 600 كم في الأراضي المجريَّة، وهي جرأةٌ بالغةٌ تدلُّ على شجاعةٍ نادرةٍ للجيش العثماني، كما تكشف عن مهارةٍ لا تُنْكر في القدرة على السير كلَّ هذه المسافات في أرضٍ لم يدخلوها قبل ذلك، ممَّا يُوضِّح قدرات المخابرات العثمانيَّة وكفاءتها في تأمين مثل هذه الحملة، والأكثر من ذلك جرأةً هو وصول حملةٍ عثمانيَّةٍ ثالثة في هذه العمليَّة إلى إقليم دالماسيا الكرواتي في غرب البلقان[72]، ووجه الجرأة هنا مزدوج؛ ففوق أنَّ هذا اختراقٌ عميقٌ للغاية في الأراضي المجريَّة، فهو اختراقٌ كذلك لحدود جمهوريَّة البندقية! حيث إنَّ إقليم دالماسيا كان في هذا الوقت من أملاك هذه الجمهوريَّة، وهي رسالةٌ قويَّةٌ للغاية، ليس للمجر فقط، إنَّما للبندقيَّة كذلك؛ حيث إنَّ الحرب بينها والدولة العثمانيَّة لم تتوقَّف بعد، ويُعلن الفاتح بذلك لجمهوريَّة البندقية أنَّه قادرٌ على الوصول إلى أملاكها الأوروبيَّة الداخليَّة القريبة من مركزها الرئيس، وليس حربها فقط في أملاكها اليونانيَّة أو بحر إيجة، وهذه في الواقع رسالةٌ مرعبة، ومن المؤكَّد أنَّها وصلت كاملةً للجمهوريَّة العنيدة، وسوف نرى آثارًا لهذه الحملة الخاطفة في المرحلة القادمة.
بالطبع لم يكن مقصودًا من هذه الحملات فتح هذه المناطق؛ ففرق الجيش التي قامت بهذا العمل صغيرة ومحدودة، إنَّما هي رسائل نفسيَّة لها نتائجها المعروفة، وقد حقَّقت نجاحًا كبيرًا، وألقت الرهبة في قلوب البنادقة تحديدًا، كما أنَّها جعلت المجر لا تُفكِّر في اقتحام الحدود العثمانيَّة مرةً أخرى، وعادت إلى نهجها الأوَّل، وهو الدَّعم غير المباشر لأعداء الدولة العثمانيَّة بدلًا من الصدام المباشر.
كانت هذه العمليَّة في شهر أكتوبر -على الأغلب- من سنة 1476م، وكان لزامًا على الفاتح أن يرجع إلى إسطنبول بسرعةٍ لاقتراب موسم الشتاء، وأيضًا ليكون على مقربةٍ من الأحداث الساخنة في البغدان والإفلاق، وقد صدق حدسه في وجوب رجوعه سريعًا إلى عاصمة بلاده؛ حيث وصلته الأخبار بتصعيدٍ جديدٍ خَطِرٍ في الإفلاق، فقد غزا دراكولا الثالث واستيفين الثالث بالإضافة إلى استيفين باثوري الإقليم بهدف طرد لايوتا الأمير التابع للعثمانيين وَوَضْع دراكولا على العرش، وكان ذلك في نوفمبر 1476م[73]؛ أي في الوقت نفسه الذي رجع فيه الفاتح إلى إسطنبول من رحلته المضنية، التي بدأت في أوائل الصيف حين اتجه إلى البغدان، ومنها إلى سمندرية، ثم إلى إسطنبول.
بدأت العمليَّة العسكريَّة المعادية باقتحام استيفين باثوري لإقليم الإفلاق واحتلاله للعاصمة ترجوڤيشت Târgoviște في 8 نوفمبر 1476م، وبعدها بثمانية أيَّام تمكَّن استيفين الثالث بالاشتراك مع دراكولا الثالث من احتلال بوخارست في 16 نوفمبر 1476م، مَّما دفع لايوتا حاكم الإفلاق إلى الهرب إلى الدولة العثمانيَّة[74].
هذه السهولة في اقتلاع حكام الأقاليم التابعة تُوضِّح أنهم يعتمدون كلِّيًّا في الدفاع عن بلادهم على الجيش العثماني، وهكذا في حالة انشغال الدولة العثمانيَّة في معارك أخرى تُصبح هذه الأقاليم عُرضةً للهجوم المعادي، وحيث إنَّ جيش الدولة كان منشغلًا بالعمليَّات الكثيرة الأخيرة حدث هذا الانهيار في الحكم، وبالتالي -وقبل 26 نوفمبر- تولَّى دراكولا الثالث إمارة الإفلاق[75]؛ وذلك بعد طرده منها منذ أربعة عشر عامًا كاملة -أي منذ عام 1462م- على يد جيش السلطان الفاتح.
كان خبر ولاية دراكولا الثالث على الإفلاق مزعجًا للغاية، ويحمل في داخله همومًا كثيرةً أقلقت السلطان الفاتح، ودفعته إلى إعادة الحسابات في الوضع الجديد، ولنُراجع سويًّا الأضرار الكبيرة الناتجة عن هذه الهجمة المعادية الأخيرة.
الضرر الأوَّل: هو احتمال ضياع هذا الإقليم المهم، الذي لا تكمن أهميَّته فقط في تبعيَّته السياسيَّة، أو في الجزية المضروبة عليه، أو في الجيش الذي يُوفِّره أحيانًا لمصاحبة الجيوش العثمانيَّة؛ ولكن في فقدان الإقليم الذي يفصل دولة المجر القويَّة عن إقليم بلغاريا (جنوب الدانوب)، الذي يُحْكَم بشكلٍ مباشرٍ من الدولة العثمانيَّة، وغياب هذه الدويلة الحاجزة Buffer state خطرٌ للغاية؛ حيث سيضع المجر في مواجهةٍ مباشرةٍ مع الدولة العثمانيَّة، ومع أنَّ الدولة العثمانيَّة تُوَاجِه المجر مباشرةً في أماكن أخرى كصربيا والبوسنة، فإنَّ المواجهة في بلغاريا أخطر؛ لقربها جدًّا من عمق الأراضي العثمانيَّة، وقربها من أدرنة وإسطنبول، وهي المدن الرئيسة في الدولة العثمانيَّة، وهذا يجرُّنا للحديث عن الضرر الثاني!
الضرر الثاني: هو أنَّ هذه الولاية لدراكولا ستفتح الباب للمجر لردِّ اعتبارها من هزيمتها في سمندرية منذ شهرٍ واحدٍ تقريبًا؛ فليس سهلًا على ملكٍ كبيرٍ كماتياس أن ينسحب بهذه السرعة من أمام جيشٍ معادٍ، وعليه فمتوقَّعٌ في حال استقرار دراكولا في الحكم أن تكون هناك هجمةٌ مجريَّةٌ انتقاميَّة، وقد تُشارك فيها القوى الأوروبيَّة الكاثوليكيَّة، وخاصَّةً البندقية الجريحة نتيجة هزائمها السابقة على يد الدولة العثمانيَّة، ولاقتحام العثمانيِّين مؤخرًا أرضهم في دالماسيا الكرواتيَّة.
أمَّا الضرر الثالث: فهو اهتزاز الموقف القانوني والشرفي للدولة العثمانيَّة في حال سكوتها عن هذا التطوُّر في الأحداث؛ فالمعاهدة بين الدولة والإمارات التابعة تقضي بأن تُدافع الدولة عن هذه الإمارات التابعة في مقابل الجزية التي يدفعونها، فالدولة العثمانيَّة مُلْزَمة الآن بالدِّفاع عن الإفلاق ضدَّ الغزاة من المجريِّين والبغدانيِّين، وهناك مسئوليَّة شرفيَّة تجاه لايوتا الذي أعلن ولاءه للسلطان الفاتح بعد أن كان مواليًا لاستيفين الثالث، وإذا أهملت الدولة العثمانيَّة هذا الأمر فإنَّ هذا سيكون دافعًا للإمارات التابعة أن تبحث لها عن حليفٍ آخر يُدافع عنها، وهكذا من الممكن أن تتفاقم مشكلة الإفلاق، ولا تصبح محدودة بحدود الإقليم.
والضرر الرابع: أنَّ هذا الاقتحام يأتي بعد انتصار العثمانيِّين في معركة الوادي الأبيض بأربعة شهور فقط، فبينما كان من المتوقَّع أن تنهار إمارة البغدان نتيجة الأضرار الجسيمة التي وقعت في جيشها، وكذلك لزعيمها استيفين الثالث، سيأتي أمر ولاية دراكولا الثالث على الإفلاق إعادة إحياء لتمرُّد البغدان، خاصَّةً أنَّ استيفين الثالث كان داعمًا للأمر، بل كان غازيًا بنفسه لبوخارست، وهي إحدى أهمِّ المدن في الإفلاق. لقد كان متوقعًا أن يبحث الفاتح عن وسيلةٍ قريبةٍ لإتمام النجاح في ملفِّ البغدان، فإذا بملفِّ الإفلاق يُنذر بتدهور الموقف في البغدان خلافًا للمتوقَّع.
أمَّا الضرر الخامس: فهو ولاية دراكولا الثالث تحديدًا للإمارة العثمانيَّة! فولاية هذا الرجل أسوأ من ولاية أيِّ أميرٍ آخر لأسبابٍ كثيرة؛ من هذه الأسباب أنَّه صاحب تاريخٍ عدائيٍّ كبيرٍ للدولة العثمانيَّة، وللسلطان الفاتح على وجه الخصوص، وبالتالي فإنَّ المسألة عنده مسألةٌ شخصيَّة قبل أن تكون موازنات بين القوى الكبرى في المنطقة، ومن هذه الأسباب أيضًا أنَّه شديد العنف، فهو المعروف بالمخوزِق كما مرَّ بنا، ومن المتوقَّع أن يخرج بحملةٍ واسعةٍ يستأصل فيها النبلاء الذين دعموا لايوتا والدولة العثمانيَّة، وهذا سيُسبِّب ضررًا كبيرًا للدولة باستهداف حلفائها، ومنها كذلك أنَّه بسبب هذا التاريخ العنيف لن تكون هناك فرصةٌ لاستمالته إلى جانب الدولة العثمانيَّة كما فعل الفاتح قبل ذلك مع لايوتا، وبذلك فقد أُغْلِقَ الباب الدبلوماسي تمامًا، ولن يكون هناك إلَّا باب القوَّة والحرب، ومنها أنَّ دراكولا سيُقاتل قتال المستميت الذي لا يجد ملجأً غير عرشه على الإفلاق؛ وذلك لأنَّه غير محبوبٍ عند ملك المجر ماتياس؛ فهو الذي سجنه هذه السنوات الطويلة، ولم يُطلقه إلا بناءً على رغبة استيفين الثالث، وبالتالي لا يوجد له مأوى آمن في حال طرده من الإفلاق مرَّةً ثانية؛ لأنَّه في هذه الحالة سيتعرَّض للسجن مرَّةً ثانية، وقد يتعرَّض للقتل كأبيه من قبل، وحروب مثل هذه الفئات اليائسة تكون حروبًا مريرةً وطويلة.
هذه كلُّها أسبابٌ تجعل ولاية هذه الشخصيَّة على الإفلاق أمرًا مزعجًا للغاية.
والضرر السادس: أنَّ كلَّ هذه التطوُّرات تحدث والجيش العثماني ليس في أفضل حالاته. نعم معنويَّات الجيش مرتفعة نتيجة انتصاراته المتلاحقة في الآونة الأخيرة؛ في الوادي الأبيض، وسمندرية، وزغرب، وكلاجنفورت، ودالماسيا؛ ولكنَّه مرهقٌ للغاية بعد هذه الرحلات الطويلة التي قطعها شمالًا وغربًا، كما أنَّه تعرَّض لفقدان عددٍ كبيرٍ منه في موقعة الوادي الأبيض تحديدًا، وكذلك نتيجة الكوليرا التي تفشَّت فيه هناك. لقد كان الجيش يحتاج إلى فترة راحةٍ طويلةٍ يستعيد فيها توازنه، ويستردُّ فيها عافيته.
وأمَّا الضرر السابع، والأخير في هذا التحليل: هو أنَّ كلَّ هذه الأضرار تقع في شهر نوفمبر، أي في بداية موسم الشتاء، ومن المعروف أنَّ متوسِّط درجة الحرارة في شهور الشتاء في إمارة الإفلاق (جنوب رومانيا) تدور حول الصفر، بل قد تصل أحيانًا إلى عشر درجات تحت الصفر أو أقل[76]! وستكون حركة الجيوش في هذه الأجواء في غاية الصعوبة، بل قد تكون حركة المدافع الثقيلة -التي تُميِّزُ الجيشَ العثماني- مستحيلةً تمامًا في وجود الثلوج الكثيفة الناتجة عن انخفاض الحرارة إلى هذا المستوى، ولا تذوب الثلوج عادةً في هذه المناطق إلَّا في شهر فبراير.
ماذا يفعل الفاتح إزاء هذه التطوُّرات المزعجة؟!
في الواقع إنَّه على الرغم من صعوبة الموقف، وإرهاق الجيش، وبرودة الطقس، لم يكن أمام السلطان الفاتح إلَّا الخيار العسكري، ولم تكن هناك فرصةٌ لتأجيل الأمر؛ فالذي يُمكن علاجه الآن قد يتعذَّر مستقبلًا، وإذا تراخت الدولة في موضوع الإفلاق، فقد يفتح لها غدًا عدَّة مواضيع في بلغاريا، أو صربيا، أو البوسنة، أو فيها جميعًا.
أرسل السلطان جيشًا عثمانيًّا قويًّا بمجرَّد أن وصلته أنباء ولاية دراكولا الثالث؛ أي في شهر ديسمبر 1476م، وأرسل معه لايوتا أمير الإفلاق الموالي للعثمانيِّين[77]، وحيث إنَّ السلطان لم يذهب بنفسه توقَّع دراكولا أن تكون الحملة يسيرة، خاصَّةً مع معرفته أنَّ الجيوش لا تُقاتل عادةً في الشتاء، ولهذا خرج دراكولا لحرب الجيش العثماني، ولم يهرب كما فعل مع حملة السلطان السابقة التي كانت في عام 1462م.
نصب العثمانيُّون كمينًا خَطِرًا لدراكولا، الذي يبدو أنَّه فقد مهاراته القديمة بفعل سجنه سنواتٍ طويلة، فوقع في الكمين، وقُتِل فورًا، وكان هذا في ديسمبر 1476م[78]، وهكذا أُعيد لايوتا إلى عرش الإفلاق[79]، وانتهت قصَّة دراكولا!
لقد كان الأمر أيسر من كلِّ تخيُّل!! فدراكولا الذي دوَّخ الدولة العثمانيَّة في سنوات حكمه الأولى وقع الآن بعد حكمٍ لم يلبث أكثر من شهرين، وكان سقوطه مدوِّيًّا؛ إذ إنَّه من الرموز الكبرى التي واجهت الدولة العثمانيَّة ردحًا من الزمان، وهكذا حقَّق العثمانيُّون نصرًا كبيرًا بالتخلُّص من هذا الطاغية الشرس.
هذه خاتمة قصَّة دراكولا الثالث.. ولكن قصَّة استيفين الثالث لم تنتهِ بعد!
لم يرضَ استيفين الثالث على الوضع الجديد في الإفلاق، ولم يُسلِّم بالهزيمة؛ ومِنْ ثَمَّ قرَّر وضع باساراب الرابع الملقَّب بالمخوزق الأصغر Basarab IV the Țepeluș -وهو من نفس أسرة لايوتا الحاكم الموالي للعثمانيِّين- على عرش الإفلاق، وهكذا بمجرَّد عودة الحامية العسكريَّة العثمانيَّة إلى إسطنبول، غزا استيفين الثالث الإفلاق من جديد، واستطاع للأسف عزل لايوتا ووضع تابعه باساراب الرابع على عرش الإمارة[80]!
ويبدو أنَّ لايوتا شعر بالخطر الشديد نتيجة سهولة عزله المتكرِّرة، فهذه هي المرَّة الخامسة التي يُعْزَل فيها من منصبه، وأحسَّ أنَّ الخطوة القادمة قد تكون فقدانه لحياته؛ ومِنْ ثَمَّ آثر الهرب إلى ترانسلڤانيا بدلًا من العودة إلى الدولة العثمانيَّة، وصار بذلك لاجئًا عند ملك المجر ماتياس وقائده العسكري باثوري في ترانسلڤانيا[81].
وهكذا كانت الإفلاق تُعاني من فوضى سياسيَّة كبرى في هذه المرحلة من تاريخها..
تأزَّم الموقف مرَّةً أخرى عند السلطان محمد الفاتح، ومع ذلك فقد آثر التعامل الهادئ مع الموقف الجديد؛ حيث إنَّ التابع الذي وضعه استيفين الثالث من عائلة باساراب الموالية للعثمانيِّين منذ زمن، والوالي المعزول لايوتا من العائلة نفسها، وعلاقات الأميرين باساراب الرابع ولايوتا واحدةٌ مع نبلاء الإفلاق؛ ولذلك توقَّع الفاتح أن تكون هناك فرصةٌ للوصول إلى حلٍّ دبلوماسيٍّ مع الأمير الجديد دون الحاجة إلى قتال، وبالفعل نجح الفاتح في محاولته، وقَبِل باساراب الرابع تغييرَ ولائه من استيفين الثالث إلى الفاتح[82]، تمامًا كما فعل لايوتا قبل ذلك.
وهكذا لم تكن هناك مشكلةٌ عند هؤلاء القادة في تغيير ولائهم عند الحاجة!
هذا بالطبع لم يُعجِب استيفين الثالث، لكن يبدو أنَّه قَبِل مؤقَّتًا الوضعَ الحالي، وبالتالي هدأت الأمور على جبهة الإفلاق والبغدان، ومع ذلك فهو لم يهدأ على العموم، بل حاول إثارة البابا في روما وكذلك البندقية لمساعدته على استمرار الحرب ضدَّ العثمانيِّين[83]، وأيضًا حاول أن يُكْمِل التواصل مع القبيلة الذهبيَّة في مناطق روسيا لاستقدام جيشها لمشاركته في هجومٍ على الدولة العثمانيَّة؛ لكن ملك بولندا كازيمير الرابع رفض عبور جيوش القبيلة الذهبيَّة من أرضه إلى البغدان[84]، ويبدو أنَّه -كما ذكرنا من قبل- لا يُريد تصعيدًا مع السلطان الفاتح، على الأقلِّ في هذه المرحلة.
لم ينزعج السلطان الفاتح من هذه التحرُّكات البغدانيَّة الساعية لجمع المتحالفين لحرب الدولة العثمانيَّة؛ لأنَّه كان من الواضح أنَّ حماسة أوروبا في دعم استيفين الثالث قد قلَّت بشكلٍ كبيرٍ بعد هزيمة الوادي الأبيض، ويبدو أنَّها ازدادت فتورًا بعد مقتل دراكولا الثالث، ولهذا لم نجد تحرُّكًا إيجابيًّا ذا قيمةٍ يُمكن أن يُمثِّل خطرًا على الدولة العثمانيَّة.
إنَّها كانت فرصةً إِذَنْ لالتقاط الأنفاس!
لقد كانت السنوات الأربع الماضية في غاية المشقَّة؛ بدايةً من هجوم أوزون حسن على شرق الدولة العثمانيَّة في (878هـ= 1473م)، ومرورًا بفشل الحملة على ألبانيا عام 1474م، ومرورًا كذلك، بالصدامات الدامية في البغدان عامي 1475م و1476م، وأخيرًا بغزو المجر لسمندرية، وكذلك بالاضطرابات العنيفة في الإفلاق أواخر 1476م، وأوائل 1477م.
يا لها من سنواتٍ عصيبةٍ لم يغمض فيها جفنٌ للسلطان الفاتح، ولم تهدأ فيها فِرْقةٌ من فرق الجيش العثماني..
إنَّه توتُّرٌ شمل الدولة بكاملها من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها..
فكان هدوء الجبهة البغدانيَّة والإفلاقيَّة فرصةً حقيقيَّةً لالتقاط الأنفاس..
ولنقف وقفةً مع الفاتح لتقويم الوضع الذي وصلت إليه الدولة في هذه المرحلة لنُدرك المغزى من القرارات والأعمال التي ستُتَّخذ في الفترة القادمة.
عند تحليل وضع دولةٍ بحجم الدولة العثمانيَّة في هذا التوقيت ينبغي أن نتوقَّع مشاكل كثيرة على المستويَين الداخلي والخارجي؛ فالمساحة الضخمة التي تشغلها، والعرقيَّات المتعدِّدة التي تعيش فيها، والأديان الكثيرة التي يدين بها شعبها، والحالة الصحيَّة التي تُميِّز هذه الفترة من حياة أوروبا حيث تكرَّرت الأوبئة القاتلة كالطاعون والكوليرا، والحدود الطويلة التي تفصلها عن عددٍ كبيرٍ من دول العالم آنذاك، وسعي الدول والقوى الكبرى في المنطقة لتقليص قوَّة الدولة؛ كلُّ ذلك من الأمور يجعل من المتوقَّع أن نجد أزماتٍ كبرى في كلِّ ركنٍ من أركان الدولة، وفي كلِّ لحظةٍ من لحظات عمرها..
ولسهولة فهم هذه المشكلات يُمكن الحديث عنها على المستويَين الداخلي والخارجي بشكلٍ منفصل، وإن كان من المؤكَّد أنَّ هناك تداخلًا كبيرًا بين هذين النوعين من المشكلات، كما أنَّها لم تكن بعيدةً عن بعضها البعض، فقد تحدث مشكلةٌ داخليَّةٌ كبرى «أثناء» حدوث مشكلةٍ أخرى خارجيَّة، ممَّا قد يُؤثِّر في أخذ القرارات بشكلٍ لا يكون مفهومًا لمن لم يُحِطْ علمًا بمجموع هذه المشكلات، فإذا علمنا أنَّنا عند تحليل هذه الفترة -أعني عام 1477م- نتحدَّث عن دولةٍ كبرى تُمثِّل مساحاتٍ من اثنتي عشرة دولةٍ من دول عالَمِنَا المعاصر أدركنا حجم الوضع الذي نحن بصدد دراسته! (هذه الدول هي تركيا، وروسيا، وأوكرانيا، ومولدوڤا، ورومانيا، وبلغاريا، واليونان، وصربيا، والبوسنة، وكوسوڤو، ومقدونيا، وألبانيا).
لم يكن الفاتح شخصيَّةً عاديَّةً في الحقيقة؛ فإنَّ ما ذكرناه في الصفحات السابقة من تفاصيل لمعاركه وصداماته مع القوى الكبرى المحيطة بدولته يجعلنا نشعر أنَّه لم يكن يفعل شيئًا في حياته إلَّا الجهاد والقتال؛ ولكن هذا الشعور غير صحيح! فالفاتح كان مهتمًّا بالشأن الداخليِّ بالدرجة نفسها التي كان يهتمُّ فيها بالشئون الخارجيَّة، وهذا التوازن عجيبٌ حقيقةً لأنَّ الضغوط الخارجيَّة كانت كبيرة، وكان يُمكن أن تكون عذرًا لأيِّ قائدٍ بأنْ يتراخى في حلِّ المعضلات الاقتصاديَّة، والاجتماعيَّة، والعلميَّة، والصحيَّة، وغيرها؛ ولكن هذا لم يحدث، وكانت الدولة في عهد محمد الفاتح تنمو باضطرادٍ سواء أكان على المستوى الداخلي أم على المستوى الخارجي.
ولكي لا تضيع منَّا الخيوط في فهم التشابكات الخارجيَّة الكثيرة التي شغلت الصفحات السابقة؛ أعني المواجهات الدائمة مع دول المجر، وبولندا، والبندقية، وچنوة، وغيرها، والأزمات الكبيرة في ألبانيا، والبغدان، واليونان، والإفلاق، حتى لا يضيع ذلك كلَّه منَّا، فإنَّني سأُرجئ الحديث عن الشئون الداخليَّة في الدولة في المجالات المختلفة لحين الانتهاء من الحديث عن الشأن السياسي والعسكري، ولحين غلق هذه الملفَّات الضخمة التي فتحناها هنا وهناك، وسأكتفي في هذه المرحلة من البحث بالإشارة إلى ثلاث نقاطٍ مهمَّة:
النقطة الأولى: هي أنَّ الفاتح قرَّر في هذا العام -1477م- ألَّا يخرج من إسطنبول إلَّا إذا حدثت ضرورةٌ قصوى[85]، وهكذا كان العزم على استغلال فترة الهدوء النسبي الذي تمرُّ به الدولة في الاهتمام بالبنية التحتيَّة للدولة، ورعاية الشأن الداخلي بقوَّة.
والنقطة الثانية: هو أنَّ الفاتح فرَّغ نفسه وفريقًا من علماء الدولة المتخصِّصين في الشريعة والقانون لكتابة قانون الدولة العثمانيَّة، وهو المعروف «بقانون نامه»، وهي المرَّة الأولى في تاريخ الدولة العثمانيَّة التي يُكتب فيها القانون بهذه الحِرَفيَّة، وكانت قبل ذلك تُحْكَم بالعُرْف وآراء القضاة والعلماء في كلِّ مرحلةٍ دون أن يكون هناك قانونٌ مُلْزِمٌ لكلِّ القضاة والأمراء، وقد بدأ هذا العمل العظيم في عام 1477م، وهو العام الذي ندرسه الآن، وانتهى في عام 1481م[86]، ممَّا يعني أنَّ الفاتح لم يكن مهملًا لشئون دولته الداخليَّة على الرغم من شدَّة انشغاله بالأحداث الخارجيَّة.
أمَّا النقطة الثالثة: فهي أنَّ الفاتح بدأ في أوَّل عمليَّة إحصاءٍ للسكان والديار والمحلَّات في إسطنبول في هذا العام -أعني في عام 1477م[87]- أو في العام الذي بعده 1478م[88]، وهو الإحصاء الذي يعتمد عليه كثيرٌ من المؤرِّخين في تَصوُّر شكل المدينة وديموجرافيَّتها في هذه المرحلة؛ حيث شمل الإحصاء تحديد العرقيَّات والأديان، ممَّا أعطى صورةً دقيقةً عن أحوال السكان آنذاك، وهذا في الواقع عملٌ كبيرٌ لا يُعبِّر فقط عن اهتمام الفاتح بالشئون الداخليَّة؛ إنَّما يُوضِّح مدى نموِّ الناحية العلميَّة والأكاديميَّة عنده؛ حيث لا يُمكن بحالٍ بناءُ خططٍ تنمويَّةٍ وإصلاحيَّةٍ دون عمليَّة إحصاءٍ دقيقةٍ للسكان، والأعمال، والوظائف، والاقتصاديَّات، وغيرها من المعلومات.
كانت هذه فكرةً عن الوضع الداخلي ومدى اهتمام الفاتح رحمه الله به، وسنعود للحديث عنه بالتفصيل لاحقًا إن شاء الله.. أمَّا الوضع الخارجي فيحتاج إلى وقفةٍ متأنِّية!
وهذا هو موضوع المقال القادم![89].
[1] Paul Michael C. Secular Power and the Archbishops of Novgorod up to the Muscovite Conquest [Book]. - [s.l.] : Kritika, 2007, pp. 131-170.
[2] Auty Robert, Obolensky Dimitri and Kingsford Anthony Companion to Russian Studies: Volume 1: An Introduction to Russian History [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press., 1976, p. 99.
[3] Kellner-Heinkele B Mengli Giray I [Book Section] // The Encyclopaedia of Islam / book auth. Gibb Sir Hamilton Alexander Rosskeen [et al.]. - Leiden : E.J. Brill, 1991, p. 1016 .
[4] Milner Thomas The Crimea: Its Ancient and Modern History: the Khans, the Sultans, and the czars [Book]. - London : Longman, Brown, Green and Longman, 1855, pp. 140-141.
[5] Lemercier-Quelquejay Chantal and Bennigsen Alexandre Le khanat de Crimée au début du XVIe siècle: De la tradition mongole à la suzeraineté ottomane [Book]. - [s.l.] : MCMLXXII., 1972, vol. 13, pp. 321-337.
[6] Milner, 1855, p. 141.
[7] سعد الدين محمد تاج التواريخ- إستانبول، 1862م صفحة 1/555.
[8] زاده عاشق باشا تاريخي- إستانبول، مطبعة عامرة، 1914م صفحة 182.
[9] يلماز أوزتونا تاريخ الدولة العثمانية [كتاب] / المترجمون عدنان محمود سلمان و مراجعة وتنقيح: محمود الأنصاري. - إستانبول : مؤسسة فيصل للتمويل، 1988م الصفحات 1/171-172.
[10] Dânişmend İsmail Hâmi Osmanlı devlet erkânı: Sadr-ı-a'zamlar (vezir-i-a'zamlar), şeyh-ül-islâmlar, kapdan-ı-deryalar, baş-defterdarlar, reı̂s-ül-küttablar [Book]. - İstanbul : Türkiye Yayınevi, 1971, p. 12.
[11] أوزتونا، 1988م الصفحات 1/170-171.
[12] وذكر سرهنك أنَّ عدد السفن 300 سفينة، وكذلك صولاق زاده. 35. إسماعيل سرهنك حقائق الأخبار عن دول البحار- مصر: مطابع الأميرية، بولاق ، 1895م صفحة 1/516، وصولاق زاده تاريخ صولاق زاده- إستانبول، 1879م، صفحة 252.
[13] Milner, 1855, p. 141.
[14] أوزتونا، 1988م صفحة 1/171.
[15] Milner, 1855, p. 141.
[16] أوزتونا، 1988م صفحة 1/171.
[17] Kuban Doğan Istanbul, an Urban History [Book]. - Istanbul, Turkye : Türkiye İş Bankasi Kültür yayinlari, 2010, p. 271.
[18] أوزتونا، 1988م صفحة 1/179.
[19] Soloviev Sergeĭ Mikhaĭlovich The Rule of Catherine the Great: war with Turkey, Polish partition, 1771-1772 [Book]. - [s.l.] : Academic International Press, 2003, p. 127.
[20] أوزتونا، 1988م صفحة 1/169.
[21] Outram A. K., Stear, N. A., Bendrey, R., Olsen, S., Kasparov, A., Zaibert, V., Thorpe, N., and Evershed, R. P. The earliest horse harnessing and milking. Science [Book]. - New York : N.Y, 2009, p. 1126.
[22] محمود شاكر التاريخ الإسلامي- [مكان غير معروف] : المكتب الإسلامي ، 1994م صفحة 21/56.
[23] Milner, 1855, p. 46.
[24] أوزتونا، 1988م صفحة 1/172.
[25] أوزتونا، 1988م صفحة 1/169.
[26] Bain Robert Nisbet Slavonic Europe: Apolitical History of Poland and Russia from 1447 to 1796 [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press, 1908, p. 124.
[27] Gan Fuxi The silk road and ancient Chinese glass [Book Section] // Ancient Glass Research along the Silk Road / book auth. Fuxi Gan, Brill Robert H and Shouyun Tian. - [s.l.] : World Scientific,, 2009, p. 41.
[28] Bentley Jerry Old World Encounters: Cross-Cultural Contacts and Exchanges in Pre-Modern Times [Book]. - New York : Oxford University Press, 1993, p. 33.
[29] Liu Xinru The Silk Road in World History [Book]. - New York : Oxford University Press,, 2010, p. 68.
[30] Faroqhi Suraiya Crisis and Change 1590-1699 [Book Section] // An Economic and Social History of the Ottoman Empire 1300-1914 / book auth. İnalcık Halil and Quataert Donald. - [s.l.] : Cambridge University Press, 1994, pp. 505-507.
[31] أوزتونا، 1988م صفحة 1/170.
[32] Yüce Yaşar and Sevim Ali Türkiye tarihi Cilt I [Book]. - İstanbul : AKDTYKTTK Yayınları., 1991, pp. 43-44.
[33] Yüce Yaşar and Sevim Ali Türkiye tarihi Cilt I [Book]. - İstanbul : AKDTYKTTK Yayınları, 1994, pp. 45-46.
[34] القلقشندي: صبح الأعشى في صناعة الإنشاء- [مكان غير معروف] : دار الكتب العلمية، بيروت الصفحات 8/27-33.
[35] Pitcher Donald Edgar An historical geography of the Ottoman Empire from earliest times to the end of the sixteenth century with detailed maps to illustrate the expansion of the Sultanate [Book]. - Leiden : E. J. Brill, 1973, p. 84.
[36] Davies Norman Europe: A History [Book]. - [s.l.] : Oxford: Oxford University Press, 1996, p. 555.
[37] Davies, 2005, pp. xxviii-xxix.
[38] Wyrozumski Jerzy Historia Polski: Do roku 1505 (History of Poland until 1505) (in Polish) [Book]. - Warsaw, Poland : Państwowe Wydawnictwo Naukowe, 1986, pp. 201-204.
[39] Vasiliev Alexander A. The Goths in the Crimea [Book]. - Cambridge, Massachusetts, USA : The Mediaeval Academy of America, 1936, p. 241.
[40] Xenopol, 1927, pp. 113-114.
[41] Shaw Stanford Jay and Shaw Ezel Kural History of the Ottoman Empire and Modern Turkey: Empire of the Gazis - The Rise and Decline of the Ottoman Empire, 1280–1808 [Book]. - [s.l.] : Cambridge University Press., 1976, vol. 1, p. 68.
[42] محمد بك فريد تاريخ الدولة العلية العثمانية [كتاب] / المترجمون تحقيق: إحسان حقي. - بيروت، لبنان : دار النفائس، 1981م صفحة 174.
[43] Papacostea Șerban Stephen the Great, Prince of Moldavia, 1457–1504 [Book] / trans. Celac Sergiu. - Bucharest, Romania : Editura Enciclopedică,, 1996, p. 53.
[44] Kármán Gábor and Kunčević Lovro The European Tributary States of the Ottoman Empire in the Sixteenth and Seventeenth Centuries The Ottoman Empire and its Heritage [Book]. - Boston, USA : BRILL., 2013, p. 266.
[45] Shaw, et al., 1976, vol. 1, p. 239.
[46] Pop Ioan-Aurel and Bolovan Ioan The Romanians in the 14th–16th centuries from the «Christian Republic» to the «Restoration of Dacia» [Book Section] // History of Romania: Compendium. - [s.l.] : Romanian Cultural Institute (Center for Transylvanian Studie)., 2005, p. 268.
[47] Shaw, et al., 1976, vol. 1, p. 239.
[48] Pop, et al., 2005, p. 243.
[49] Shaw, et al., 1976, vol. 1, p. 239.
[50] Jaques Tony Dictionary of Battles and Sieges [Book]. - Westport, CT, USA : Greenwood Press, 2007, vol. 3, p. 1058.
[51] Rogers, 2010, vol. 1, p. 8.
[52] Shaw, et al., 1976, vol. 1, p. 68.
[53] القرماني: أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ، تحقيق: الدكتور أحمد حطيط، الدكتور فهمي السعيد [كتاب]. - [مكان غير معروف] : عالم الكتب، 1992م صفحة 3/35.
[54] Eagles Jonathan Stephen the Great and Balkan Nationalism: Moldova and Eastern European History [Book]. - [s.l.] : I.B. Tauris, 2014, p. 215.
[55] Shaw, et al., 1976, vol. 1, p. 68.
[56] Eagles, 2014, p. 70.
[57] Pop, et al., 2005, p. 268.
[58] Eagles, 2014, p. 215.
[59] Eagles, 2014, p. 215.
[60] Florescu Radu R and McNally Raymond T. Dracula, Prince of Many Faces: His Life and his Times [Book]. - [s.l.] : Back Bay Books., 1989, p. 170.
[61] Egyed Ákos A székelyek rövid története a megtelepedéstől 1989-ig (in Hungarian). [Book]. - [s.l.] : Pallas-Akadémiai Könyvkiadó, 2013, pp. 66-67.
[62] Andreescu Ștefan Military actions of Vlad Țepeș in South-Eastern Europe in 1476 [Book Section] // Dracula: Essays on the Life and Times of Vlad Țepeș / book auth. Treptow Kurt W. - East European Monographs, Columbia University Press : [s.n.],, 1991, p. 145.
[63] Shaw, et al., 1976, vol. 1, p. 68.
[64] أوزتونا، 1988م صفحة 1/168.
[65] Pop Ioan Aure and Bolovan Ioan History of Romania [Book]. - Bucharest, Romania : Romanian Cultural Institute., 2006, p. 269.
[66] Parry V. J. The reigns of Bāyezīd II and Selīm I, 1481-1520 [Book Section] // A History of the Ottoman Empire to 1730. / book auth. Cook M. A.. - [s.l.] : Cambridge University Press, 1976, p. 58.
[67] أوزتونا، 1988م صفحة 1/187.
[68] Kaba John Politico-economic Review of Basarabia [Book]. - United States : American Relief Administration, 1919, p. 15.
[69] Papacostea, 1996, p. 57.
[70] Shaw, et al., 1976, vol. 1, p. 68.
[71] أوزتونا، 1988م صفحة 1/167.
[72] Shaw, et al., 1976, vol. 1, p. 68.
[73] Treptow Kurt W. Vlad III Dracula: The Life and Times of the Historical Dracula [Book]. - [s.l.] : The Center of Romanian Studies, 2000, p. 162.
[74] Andreescu, 1991, p. 146.
[75] Hasan Mihai Florin Aspecte ale relaţiilor matrimoniale munteano-maghiare din secolele XIV-XV [Aspects of the Hungarian-Wallachian matrimonial relations of the fourteenth and fifteenth centuries]. Revista Bistriţei (in Romanian) [Book]. - [s.l.] : Cumplexul Muzeal Bistrița-Năsăud, 2013, p. 156.
[76] Worldweatheronline Bratuseni temperature [Online] // World weather online. - October 9, 2013. - Worldweatheronline.com.
[77] Demciuc Vasile M. Domnia lui Ștefan cel Mare. Repere cronologice [Book]. - [s.l.] : Codrul Cosminului (10),, 2004, p. 7.
[78] Eagles, 2014, p. 215.
[79] Treptow, 2000, p. 166.
[80] Demciuc, 2004, p. 7.
[81] Ferenc Szakály and Pál Fodor The Battle of Breadfiled, 13 October 1479 (in Hungarian) [Book Section] // Military notice (Hadtörténelmi közlemények) / book auth. Múzeum Hadtörténeti Intézet és. - [s.l.] : Hadtörténeti Intézet és Múzeum., 1998, p. 328.
[82] Ciobanu Veniamin The Equilibrium policy of the Romanian principalities in East-Central Europe, 1444–1485 [Book Section] // Dracula: Essays on the Life and Times of Vlad Țepeș / book auth. Treptow Kurt W. - [s.l.] : East European Monographs, Columbia University Press,, 1991, p. 49.
[83] Demciuc, 2004, p. 7.
[84] Papacostea, 1996, p. 57.
[85] Babinger, 1978, p. 354.
[86] Necipoğlu Gülru Architecture, Ceremonial, and Power: The Topkapi Palace in the Fifteenth and Sixteenth Centuries [Book]. - [s.l.] : Architectural History Foundation, 1991, p. 16.
[87] Babinger, 1978, p. 354.
[88] Adanır Fikret and Faroqhi Suraiya The Ottomans and the Balkans: A Discussion of Historiography [Book]. - [s.l.] : Brill., 2002, p. 358.
[89] دكتور راغب السرجاني: قصة السلطان محمد الفاتح، مكتبة الصفا، القاهرة، الطبعة الأولى، 1441هـ= 2019م، 1/ 541- 570.
التعليقات
إرسال تعليقك